المخاض السوري… أولوية العقد الاجتماعي

علي العبدالله

تواجه السلطة السورية الجديدة استعصاءً سياسيّاً خانقاً، على خلفية اشتباك سياسي مع عدة مكونات اجتماعية سورية، تجلى في مفاصلة علوية ومقاطعة درزية ومعارضة “قسدية” (قوات سوريا الديمقراطية)، والنجاحات الدبلوماسية، التي هُلل لها باعتبارها إنجازات عظيمة، لم تنعكس إيجاباً على هذه الملفات، أقله حتى اللحظة، بسبب عدم تطابق حسابات الدول العربية والإقليمية والدولية في هذه الملفات مع حسابات السلطة، وسعي كل من هذه الدول إلى التحكّم بالتوازنات والتطورات الداخلية السورية، خدمة لأهدافها ومصالحها عبر التمنّيات والشروط والممارسات العملية.
شكلت الملفات الثلاثة، رغم التباين في طبيعتها وبنيتها ووزنها، تحدّياً مصيرياً للدولة والمجتمع، لانفجارها في لحظة سياسية فارقة وظروف ميدانية دقيقة؛ وقد زادها خطورة وجود جذر مشترك بينها، قضايا حقوق وأدوار، وتنسيق بين قواها فرض ترابطاً بينها، حيث تحوّل التعاطي مع كل منها إلى معيار للآخر، وجعل أي حلٍّ لأحدها ينعكس على الآخر بالسلب أو بالإيجاب بالضرورة.
دفع المدنيون العلويون في مدن الساحل السوري وبلداته وقراه فاتورة كبيرة من أرواح أبنائهم وبناتهم وممتلكاتهم ومزارعهم خلال عمليات انتقامية نفذتها قوات السلطة والفزعات المدنية، ردا على هجمات على مواقع عسكرية للسلطة، نفّذتها قوة منظّمة من فلول النظام المخلوع، مجازر راح ضحيتها مئات القتلى وآلاف الجرحى والمفقودين، بالإضافة إلى نهب بيوت ومزارع وحرقها ونزوح مئات آلاف من القرى والبلدات والأحياء العلوية داخل سورية وخارجها، ترافقت مع عمليات قتل متواترة للسوريين العلويين في محافظتي حمص وحماة، دافعها تهجيرهم من المحافظتين، لجعل وسط البلاد سُنّياً بالكامل. زاد الطين بلة موقف السلطة السلبي من مأساتهم، بعد توقف العمليات العسكرية، بتجاهلها تبعات هذه المجازر حيث لم تتحرك لبلسمة الجراح عبر التواصل مع النازحين وإقناعهم بالعودة إلى قراهم وبلداتهم وأحيائهم والبحث عن المفقودين، والعمل على إعادتهم إلى ذويهم، وحصر الأضرار والتعويض عن الخسائر. لقد تصرّفت وكأن شيئاً لم يحصل، ناهيك عن إزاحة “الملف العلوي” عن جدول أعمالها. لا يغير من طبيعة الموقف بدء محاكمة عناصر من قوات السلطة على ما ارتكبوه من جرائم في مجازر الساحل؛ فالمحاكمات حركة علاقات عامة هدفها الخارج.
ليس الموحّدون الدروز في أفضل حال، فقد تعرّضوا لحملة عسكرية معزّزة بفزعة عشائرية قتل فيها مئات وجرح آلاف مع خطف عشرات من الرجال والنساء والأطفال، بالإضافة إلى إهانة الرجال وإذلالهم بالشتائم والأوصاف المحقرة وقص الشوارب ونهب بيوت وحرقها. انقلب الموقف بتدخل الكيان الصهيوني بذريعة حماية الموحدين الدروز، فتحوّلت الحملة إلى هزيمة عسكرية وسياسية، في ضوء ما جرى بعد التدخل الصهيوني من مفاوضات مع الكيان، انطوت على اعتراف ضمني بحقه بالتدخل في الشأن السوري. فرضت السلطة بعدها حصاراً على محافظة السويداء، بإغلاق طريق دمشق السويداء وقطع الأغذية والأدوية والمحروقات والكهرباء عنها، تراجعت بشكل نسبي، تحت ضغوط دولية، في محاولة لدفعها للقبول بشروط السلطة السياسية والإدارية واختياراتها، ورفضت التفاوض السياسي مع وفد منها، وصل إلى عمّان، وحصرته بالتفاوض الأمني، ورشحت أحمد الدالاتي لذلك، وهو المتهم بالإشراف على الحملة العسكرية والمقتلة التي حصلت في المحافظة. وزاد هذا من عمق المفاصلة، حيث انتقلت بعدها قوى عسكرية، وبتوجيهات من الشيخ حكمت الهجري، إلى تشكيل “الجيش الوطني”، تبعته بتشكيل “اللجنة القانونية العليا” و”لجان للإدارة المحلية” ولجنة خاصة بالتعليم، ورفعت سقف المطالب السياسية بالمطالبة بالانفصال، وأجرت استفتاء على ذلك. مشكلة الشيخ الهجري ومأزقه أنه طرح مطالبه الاستقلالية: حكم ذاتي، من دون وجود دعم إقليمي ودولي لها. ليس ذلك وحسب، بل راح يرفع سقف مطالبه كلما اكتشف إحجام الدول عن القبول بها ودعمها حتى بلغت المطالبة بالانفصال وطلب دعم الكيان الصهيوني. ضيّق على نفسه وعلى أبناء طائفته بوضعهم أمام خيارات صعبة: اشتباك انتحاري مع السلطة السورية وفزعاتها أو انقسام بين أبناء الطائفة واشتباك بينهم. يمكن قراءة التصعيد العسكري محاولة استفزازية لتحريك الرأي العام المحلي والدولي، ولاستدراج تدخل صهيوني جديد، بالتزامن مع الإعلان عن بلوغ المفاوضات بين السلطة والكيان طريقاً مسدوداً، وتصريحات رئيس وزراء الكيان ووزيري خارجيته ودفاعه عن تمسّكهم بما احتلوه من أراض سورية وحماية للدروز.
قاد تعنّت السلطة السورية في مسائل التعدّدية والتشاركية إلى تحويل “قسد”، إلى فرس رهان لتحقيق نظام سياسي قائم على التعدّدية والتشاركية
يختلف ملف “قسد” عن الملفين السابقين بأكثر من نقطة، هناك البعد القومي، فالعلويون والموحّدون الدروز عرب، في حين أن قيادة “قسد” وقرارها بيد الكرد، رغم مشاركة عرب وآشوريين سريان فيها. وهناك البعد العسكري، حيث “قسد” قوة عسكرية كبيرة ومدرّبة ومسلحة بأسلحة متنوّعة ومتطورة، وهناك ارتباطها بالتحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، ونيلها رضا أميركي، وحصولها على دعم الولايات المتحدة إن بالتسليح أو بالتمويل؛ ما جعل التعامل مع ملفها أكثر تعقيداً وخطورة في ظل توازن قوى في غير صالح السلطة، جعل المواجهة العسكرية كارثية وغير محسومة النتائج. لذا كان خيار السلطة للتعاطي مع هذا الملف باعتماد الحوار والمفاوضات، مع محاولة توظيف النجاحات الدبلوماسية العربية والإقليمية والدولية للضغط على قيادة “قسد”، وإقناعها بقبول تفسيرها بنود اتفاق العاشر من مارس/ آذار (2025). وقد رتّب تعاطي السلطة مع ملف “قسد”، في ضوء ما جاء في الاتفاق المذكور وبنوده الثمانية وحصر قضية كرد سورية باندماج “قسد” في مؤسّسات السلطة العسكرية والأمنية والمدنية، منح هذه الأخيرة ورقة تفاوضية وازنة، عبر التسليم بتمثيلها ليس للكرد فقط، بل ولبقية مكوّنات شمال سورية وشرقها من العرب والآشوريين السريان والتركمان والشركس والشيشان، وعدم استغراق الاتفاق العتيد للقضية الكردية باعتبارها قضية جماعة قومية، لها خصوصيتها، امتد تحرّكها السياسي قرناً للحصول على اعتراف بخصوصيّتها القومية، والعمل على تحصيل حقوق ثقافية وسياسية في الدولة السورية، ما يجعل المهمّة الرئيس للسلطة السورية الجديدة النظر في واقع الكرد بوصفهم أمة، وحق كرد سورية في عيش خصوصيّتهم لغوياً وثقافياً واجتماعياً، والانفتاح على منظّماتهم السياسية ونخبهم الثقافية والاجتماعية وعدم الاكتفاء بالاتفاق مع “قسد”، وبعملية الاندماج العتيدة، فالمطلوب دمج الكرد في النظام السياسي، وليس دمج “قسد” فقط. وهذا ما لم تلحظه السلطة أو تأخذه بالاعتبار، بل ذهبت إلى خيار بعيد عن ذلك، بالسعي إلى استقطاب القبائل والعشائر العربية في شمال سورية وشرقها، وحشدها ضد “قسد”، في محاولة لإضعاف دعوى الأخيرة عن وحدة مكونات المنطقة ورضاها بالإدارة الذاتية الكردية؛ ودفعها إلى القبول بتفسير السلطة بنود الاتفاق العتيد بعد فرض العزلة عليها، توجّه ينطوي على مخاطر انفجار قتال بين العرب والكرد، يعمّق التنافر، ويكرّس الانفصال النفسي والسياسي، ويفتح الباب لتدخل قوى خارجية لتحقيق مآرب خاصة.
في السياق، جاء انضمام السلطة إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في محاولة مكشوفة لسحب الورقة من يد “قسد” وإضعاف الاعتماد الأميركي عليها في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وهي خطوة منطقية في التكتيك السياسي لكنها ليست مجدية، فلم تكن الإدارة الأميركية في وارد التخلي عن “قسد”، وهو غير مطروح، حتى لا نقول إن العكس هو الصحيح. هذا وقد تحوّلت الخطوة إلى خسارة صافية حين قال المبعوث الأميركي توم برّاك إن من مهمّات السلطة في محاربة الإرهاب محاربة حزب الله اللبناني وحركة حماس والحرس الثوري الإيراني.
تقف خلف هذا الاستعصاء الخانق توجّهات سياسية وقرارات إدارية، لعل أولها تكليف أحمد الشرع في مؤتمر النصر برئاسة المرحلة الانتقالية، وبحل الجيش والشرطة وأجهزة المخابرات والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني ووضع إعلان دستوري وتشكيل مجلس شعب جديد، مع صلاحيات تشريعية تتعلق بتشكيل الحكومة وتوقيع معاهدات مع الدول … إلخ؛ تفويض انطوى على قلب الهرم السياسي على رأسه، حيث كان العُرف السياسي يقضي بتشكيل لجنة تأسيسية من الخبراء القانونيين والدستوريين والقوى السياسية تقوم بدور محدّد: وضع إعلان دستوري انتقالي، يحدّد الأدوار والصلاحيات للسلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتشكيل لجنة لكتابة دستور للبلاد، والتحضير لانتخابات نيابية مع بقاء أحمد الشرع رئيسا لغرفة إدارة العمليات العسكرية، يشرف على ضبط الأمن وتسهيل تنفيذ هذه الخطوات الدستورية. لقد وضع التفويض الواسع لرئيس المرحلة الانتقالية خيارات البلاد ومصيرها بيد رجل واحد، وهذا وبالربط مع الخلفية السلفية والجهادية أثار هواجس ومخاوف مكونات اجتماعية وقوى سياسية، أكدتها القرارات التالية من مؤتمر الحوار إلى الإعلان الدستوري مروراً بالتعيينات السياسية والإدارية والمالية المرتبطة بالولاء لا الكفاءة؛ وتحديد طبيعة النظام السياسي: رئاسي ومركزي، والتي كشفت، في الوقت نفسه، عن توجّه سلطوي. وأدّى غياب التعدّدية والتشاركية إلى إحجام مكوّنات اجتماعية وقوى سياسية عن قبول المشاركة تحت مظلة السلطة وتوجهاتها وخياراتها السياسية والإدارية والمالية، مع طرح رؤى وخيارات بديلة ودعوة السلطة إلى الأخذ بها من دون طائل.
جاء انضمام السلطة السورية إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في محاولة مكشوفة لسحب الورقة من يد “قسد”
قاد تعنّت السلطة السورية في مسائل التعدّدية والتشاركية إلى تحويل “قسد”، بسبب الحجم البشري والقوة العسكرية والعلاقات المتينة مع الولايات المتحدة، إلى فرس رهان لتحقيق نظام سياسي قائم على التعدّدية والتشاركية، تجسّد هذا في مؤتمر “وحدة الموقف لمكونات شمال شرق سوريا” في الحسكة يوم الثامن من أغسطس/ آب الماضي، وشارك فيه الشيخ حكمت الهجري والشيخ غزال غزال افتراضيا، أصبحت “قسد” قوة تعديلية في المشهد السوري، ما زاد في وزنها، وخصوصاً أنها تحظى بدعم أميركي، من “البنتاغون” بشكل خاص، وقيّد قدرة السلطة على مد سيطرتها على كامل التراب الوطني، تسيطر فقط على 60% من أراضي سورية، وشل حركة المواطنين وفرص عملهم في مناطق واسعة من البلاد، ناهيك عن دفع جزء هام منهم إلى النزوح، نزح أكثر من 400 ألف شخص خلال عام فقط، وعرقل تحويل العقود الأولية للاستثمار إلى اتفاقيات فعلية.
يقتضي الخروج من هذا الحال وقفة مراجعة وتدقيق في الواقع القائم ونتائجه وتبعاته، وإعادة النظر في الخطوات التي تمت بالتراجع عن السلبية منها وتعديل أخرى، الإعلان الدستوري بشكل خاص، حيث لا بد من إعادة النظر في الصلاحيات الواسعة التي أعطيت للرئيس الانتقالي وفي مدة المرحلة الانتقالية، وتسريع استكمال تشكيل مجلس الشعب، بحيث يحقق التعدّدية والتشاركية، وتجهيز ظروف عقد جلسة افتتاحية تسمح له بأخذ موقعه وتنفيذ التعديلات المطلوبة في الإعلان الدستوري وإطلاق برنامج عدالة انتقالية جدّي ومحاسبة الذين ارتكبوا جرائم قتل ونهب في الساحل والسويداء، وإصدار قانون أحزاب من دون انتظار تأسيس حزب الرئيس، الذي بدأ بتشكيله وزير الخارجية أسعد الشيباني عبر الأمانة العامة للشؤون السياسية، وإغلاق الساحة عليه تمهيدا لمصالحة سياسية وصياغة عقد اجتماعي بالتوافق والانخراط في صياغة دستور جديد، وتطبيق ذلك فعليّاً لتحقيق شرعية حقيقية تؤمن الاستقرار والازدهار.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى