المشرق العربي في رَكب “السلام” الترامبي

دلال البزري

السلام المُراد لغزة هو وجه السحّارة للسلام الترامبي… لم تنتظر إسرائيل إطلاق جميع محتجزيها حتى تمتطي حصان ترامب. بقيت تقتل وتحاصر، والآن تكرّس احتلالها لما يتجاوز نصفها، وتقسيمها بين غزة إسرائيلية وأخرى فلسطينية مدمرة تتوسل المقومات الدنيا للحياة. وذلك بمراقبة أميركية اسمها “مركز التنسيق المدني-العسكري” (سي. أم. سي. سي.)، الواقع على حدود غزّة، بقيادة أميركية ومئتي جندي أميركي متخصّص، وظيفتهم تسهيل مسيرة “السلام” هذه. في المرحلة الثانية من هذا المشروع، والمهتزّة بدورها، يُفترض بالأميركيين أن يبنوا على الجزء المحتل من غزّة قصوراً من الرمال، اسمها “ريفييرا الشرق الأوسط”، وتترك لمن ستتفق معهم أو يتفقون مع بعضهم على إعادة إعمار ما تبقى من غزّة. وهذه النقطة ليست الأقل غموضاً وتذبذباً من بين نقاط مشروع السلام الترامبي، الذي يشهد كِباشاً أميركياً – إسرائيلياً، قبل اكتمال مرحلته الأولى.
وبسبب ضعف هذا المشروع بالذات، يلجأ ترامب إلى صفقة مع نتنياهو، يجيدها أكثر من أسلافه، ويعتز بها. يقول لنتنياهو: إذا نفّذتَ مشروعي المرتبك هذا، سوف تبقى في السلطة. أنا الذي أُبقيك بإعفائك من محاكمات أنت مدعوّ لها أسبوعياً. طلبتُ ذلك علناً ورسمياً، وسأكرّرها. لن تحاكَم بتهم الفساد إذا وافقتَ على قيادتي عملية “السلام”؛ تذعن لي، أحفظ لك قيادتك لإسرائيل.
الضفة الغربية هي الجبهة الفلسطينية الأخرى. أقل ظهوراً من غزّة، لقلّة ما تسترعي اهتمام المندوبين الأميركيين وإعلامهم. مع أن ترامب ذكرها قبل إطلاق مشروعه “السلمي”. قال والغضب مزاجه لحظتها: “لن أسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية. لا، لن أسمح بذلك. هذا لن يحدث… كان هناك ما يكفي. حان الوقت للتوقّف الآن”. بل و”منح” الضفة واحدة من نقاط مشروعه “السلمي”، ذي الواحدة وعشرين نقطة. وعلى الأرض، تقوم إسرائيل بكل ما يلزم لتجعل هذا الضم حاصلاً. جيشها وأمنها وشرطتها تسكت عن المستوطنين أو تشاركهم في إطلاق النار والحجارة والتهجير والحصار وإحراق المنازل وتجريف الأراضي وسرقة الزيتون وتوسيع المستوطنات وبناء بؤر استيطانية جديدة، بما لا يُوحي بغير طرد أهلها قبل ضمّها.
والعجيب أخيراً: بعدما أحرق المستوطنون مسجد الحاجة حميدة في قرية دير استيا شمالي سلفيت في الضفة، “تميّز” ماركو روبيو؛ وزير الخارجية الأميركية، بتصريحٍ “لافت”، إذ دعا الى “ضبط النفس ووقف العنف في الضفة”، وأدان إحراق المسجد، وقدّر بأنه سيؤثر “سلباً على مساعي الاستقرار في المنقطة”، ووعد ببذل كل جهده لمنع “تصاعد العنف في الضفة الغربية”. وإذا قارنتَ بين “لطف” تصريحه هذا والتوتر الذي خرج به ترامب في حديثة عن الضفة المشار إليه أعلاه، لن تتمكن من تجنّب التفكير في مزاجية (واضطراب) سياسة أميركا تجاه الشرق الأوسط، وربما تجاه العالم بأسره.
القدس الشرقية هي الجبهة الصامتة. وحدها المنظّمات الفلسطينية وتقارير حقوق الإنسان تتكلم عنها. ما يحصل فيها ليس أقل شأناً. إليك لائحةً به خلال العامين المنصرمين: هدم البيوت، إخلاؤها، مصادرة الأراضي، اعتداءات المستوطنين على المقدسيين من البدو، ومصادرة أراضيهم، فرض القيود الصارمة على دخول الفلسطينيين المسجد الأقصى واستباحته، إغلاق المؤسّسات الفلسطينية التربوية، “مسيرات العلم” داخل الحي الفلسطيني من المدينة، رافعة شعار “الموت للعرب”. وفي هذه الحالة، يبدو ترامب منسجماً مع نفسه. فقبل ثماني سنوات، وفي إطار المشروع الإبراهيمي لـ”السلام”، أعلن أن القدس كلها، الشرقية والغربية، هي عاصمة إسرائيل، وأمر بنقل السفارة الأميركية إليها. معترفاً بذلك بضمّها عملياً إلى إسرائيل.
حضر الشرع إلى واشنطن وهو ممتنٌّ لأن الأميركيين ألغوا صفته “إرهابيّ”، ومعها مكافأة العشرة ملايين دولار مقابل رأسه
نأتي إلى لبنان، الذي تبني إسرائيل في جنوبه جداراً سميكاً، يفصل بين أراضيه، حيث تحتل التلال الخمس المعروفة، لـ”تُراقب وتضبط”، والمنطقة العازلة، والاثنتان تضمان بين عشرةٍ وأربعةَ عشرَ كيلومتراً مربّعاً، وتمنع الجنوبيين من الوصول إلى بيوتهم أو إعادة بنائها أو زراعتها أو قطف محصولاتهم، وتعلن أنها “باقية هناك إلى أجل غير مسمّى”، حفاظاً على أمن سكانها الشماليين. وهي رغم وقف إطلاق النار تقتل يومياً في الجنوب والبقاع وحتى بيروت أحياناً، من تقول إنهم عسكريون من حزب الله، وفي طريقها “شيء من المدنيين”، وتضع حكّامه بين استحالتين: نزع سلاح حزب الله واستمرارها بالقتل والقصف، فيما تُتابع مع لجنة “الميكانيزم” ضغوطها لحل معضلة سحب السلاح، بالرغم من عدم توفيرها مقتضياته. والإعلام “الصائب سياسياً” يصف هذه اللجنة بـ”الدولية”، وهو تعبير مغلوط، فهذه اللجنة لا تضم سوى لبنان وإسرائيل وأميركا وفرنسا، فضلاً عن القوات الدولية المعرَّضة بدورها للضرب، والفاقدة المستقبل. المعضلة اللبنانية تجمع بين الاستحالة الموضوعية والحلول الخطابية الرنانة.
سورية يحسدها الآن اللبنانيون، مع أن وقائعها منسية هي أيضاً: إسرائيل تحتل هضبة الجولان السوري منذ أكثر من نصف قرن؛ ضمته إليها في أوائل الثمانينيات. وبعد سقوط بشار الأسد واستلام أحمد الشرع الحكم، توغّلت إلى عمق عشرة كيلومترات، وأقامت الحواجز الثابتة والطيارة، وأغارت على دمشق وضواحيها واللاذقية وطرطوس، فضلاً عن الجنوب السوري؛ درعا والقنيطرة. ووزير الدفاع الإسرائيلي يعلن هنا أيضاً أن جيشه سيبقى “إلى أجل غير مسمّى” في “المواقع الاستراتيجية”، وهنا أيضاً وأيضاً قامت بضربات جوية (300 وربما أكثر) واستهدفت مطارات وبطاريات دفاع جوي، ورادارات ومستودعات أسلحة وذخيرة وقواعد بحرية ومعدات ثقيلة. فباتت سورية بدورها مكسورة الجناح.
واللقاء بين ترامب والشرع في البيت الأبيض كان بعيداً عن هذه الأحزان. حضر الشرع إلى هناك وهو ممتنٌّ لأن الأميركيين ألغوا صفته “إرهابيّ”، ومعها مكافأة العشرة ملايين دولار مقابل رأسه، وفي “رصيده” 61 غارة على “داعش” وتوقيف عشرات من أعضائه. كانت أولوياته إلغاء قانون قيصر العقابي ضد بلاده، وتأمين مئات مليارات الدولارات لإعادة إعمارها، وتأكيد أنه أجرى محادثات غير مباشرة مع إسرائيل “لخفض التوتر”، وعدم الاستعجال لـ”التطبيع الكامل”، وكلام “هادئ” عن “السيادة السورية”، و”سلامة الأرض السورية”، وتطبيق اتفاقية فكّ الارتباط لعام 1974 بين إسرائيل وسورية، والتزام سورية بعدم نشر العتاد الثقيل على حدودها، واعداً بأن مرحلة من “السلام والازدهار” ستسود البلاد بعد ذلك، تماماً كما وعد أنور السادات منذ نصف قرن في خطابه أمام الكنيست الإسرائيلي. مع أن السادات تميّز عنه بأنه تكرّم وقتها بالإشارة إلى “ضرورة حل القضية الفلسطينية بالعدل (…) ومن دون احتلال أراضي الغير”.
الضفة الغربية هي الجبهة الفلسطينية الأخرى. أقل ظهوراً من غزّة، لقلّة ما تسترعي اهتمام المندوبين الأميركيين وإعلامهم
لم تنتشر كل هذه الأمور “الجدّية” في الإعلام الذي غطّى الزيارة، فالمهم كان تبادُل الاثنين المزاح والهدايا. الشرع قدم ما هو تراثي تاريخي، وترامب كان مهتماً بترويج عطر يحمل اسمه، فرشّه بالعطر ورّش وزير خارجيته الشيباني، ودار الحوار حول الموضوع المفضّل لدى ترامب، وسؤاله عن “كم زوجة” للشرع، وإجابة الأخير “واحدة”، فردّ ترامب “معكم الواحد مستحيل أن يعرف”. وبشيءٍ من الحسد، لا يُحسد عليه مع تداول معلومات واحتجاجات بين الجمهوريين ووسط قاعدته المحافظة عن علاقته المشبوهة بتاجر الجنس الشهير جفري إبستين.
يجمع البلدان الثلاثة هذه جبل حرمون (جبل الشيخ). انظر قليلاً إلى تاريخه، إذ تلتقي فيه أربع دول: لبنان وفلسطين وسورية والأردن. الشقّ الفلسطيني منه احتلته إسرائيل بعد حرب 1967، وضمّته إليها كما ضمت الجولان. الشق السوري من الجبل تحتله إسرائيل منذ سقوط الأسد، فيما اللبناني وقع في قبضتها بين 1970 و1972.
لا يدخل هذا الجبل في أي أجندة حالية. حتى “مقاومة” حزب الله لم تحسبه، لأسباب طائفية، بل انصبّ اهتمام هذا الحزب على الشق السوري من الجبل، بقيادة سمير القنطار. وحده الشق الأردني بقي تحت السيادة الأردنية. جبل الشيخ يلخّص تاريخ المشرق، وحدته وتشتّته، وينبئ ربما عن مستقبله.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى