
كيف يمكن للهيمنة العسكرية الإسرائيلية أن تقوض مسعى أميركا إلى تحقيق سلام إقليمي؟
مع إعلان كل من “حماس” وإسرائيل توقيعهما على المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في شأن غزة، برزت فرصة نادرة لإنهاء عامين من العنف المروع. وبموجب الاتفاق الذي ترعاه الولايات المتحدة، وعدت “حماس” بإعادة جميع الرهائن المتبقين الذين ما زالوا محتجزين منذ عام 2023 مقابل إطلاق إسرائيل سراح نحو 2000 معتقل فلسطيني وتعهدها بانسحاب جزئي لقواتها من القطاع. وإلى جانب المساعدات الإنسانية المنقذة لحياة الفلسطينيين في غزة وعائلات الرهائن، يأمل كثر في أن يرسي من جديد الاتفاق الاستقرار في المنطقة.
غير أن التجارب السابقة تشير إلى أن التوقعات بتحقيق سلام دائم أو حتى تخفيف مستدام لمعاناة الفلسطينيين قد تخيب مرة أخرى. لقد عاد ترمب إلى البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) الماضي عازماً على استبدال سياسة سلفه الفاشلة في الشرق الأوسط، وقد فعل ذلك بأساليب اختلفت عن سياسات إدارته الأولى. وفي الواقع، استهل ولايته الثانية بشكل لافت ومبهر، إذ ساعد على تحقيق وقف لإطلاق النار في غزة، حتى قبل أن يتسلم منصبه ومهامه رسمياً. وفي الأشهر القليلة الأولى من ولايته، اتخذ خطوات جريئة، بما في ذلك فتح قناة اتصال مباشرة غير مسبوقة بين الولايات المتحدة و”حماس”، واستئناف المفاوضات النووية مع إيران، والتوصل إلى هدنة مع الحوثيين في اليمن، ورفع العقوبات الأميركية عن سوريا.
وقد أعرب مسؤولون في واشنطن عن أملهم في إمكان توسيع نطاق اتفاقات أبراهام، التي طبعت العلاقات بين إسرائيل ودول عدة عربية. ومن شأن ذلك أن يعزز الهدف الطويل الأمد المتمثل في إدارة التوترات في المنطقة من خلال مجموعة من العلاقات التي تشرف عليها الولايات المتحدة، بما يسمح لها بنقل مواردها العسكرية إلى أجزاء أخرى من العالم. إلا أن الإدارة الأميركية وجدت سياساتها تقلب رأساً على عقب باستمرار بسبب الخطوات الإسرائيلية.
في مارس (آذار) الماضي، خرقت إسرائيل وقف إطلاق النار في غزة الذي توسطت فيه واشنطن، ثم جرت إدارة ترمب إلى المشاركة في ما يسمى عمليات إنسانية تجاوزت إطار الأمم المتحدة الراسخ منذ زمن طويل. وبحلول أواخر الربيع، دفعت المجاعة المتفاقمة أعداداً متزايدة من السكان الفلسطينيين في غزة نحو الحدود المصرية، مما أثار توتراً في اتفاقات السلام الطويلة الأمد التي تربط إسرائيل بكل من مصر والأردن. ثم في يونيو (حزيران) الماضي، قوضت إسرائيل المفاوضات الأميركية مع طهران، ليس من خلال قصف إيران فحسب، بل أيضاً من طريق إقناع إدارة ترمب بالانضمام إليها في استهداف المنشآت النووية الإيرانية الرئيسة باستخدام قنابل خارقة للتحصينات.
في سوريا، كثفت إسرائيل ضغطها العسكري على حكومة الرئيس أحمد الشرع الجديدة، في وقت كانت واشنطن تمدها فيه بمساعدات اقتصادية ودبلوماسية حيوية. وفي سبتمبر (أيلول)، هاجمت إسرائيل قطر، وهي حليفة حيوية للولايات المتحدة تستضيف المقر الرئيس للقيادة المركزية الأميركية، قاعدة “العديد” الجوية، وكانت قد أدت دوراً محورياً في المفاوضات بين إسرائيل و”حماس”، وفي نزاعات أخرى كثيرة. وفي الواقع، كان هذا الإجراء [القصف] المتهور، الذي فاجأ الإدارة الأميركية، أحد أبرز العوامل التي دفعت ترمب إلى الإصرار بقوة على إنهاء الحرب في غزة.
والآن، مع الاتفاق الذي قادته الولايات المتحدة بين إسرائيل و”حماس”، ربما يبدو أن هذا النمط من الأحداث قد انتهى. فمن خلال فرض مطالب صارمة على إسرائيل و”حماس” على حد سواء، تمكن ترمب من جمع الطرفين بسرعة على طاولة المفاوضات والاتفاق على المرحلة الأولية من الخطة. وعلى رغم تفضيل الحكومة الإسرائيلية الواضح مواصلة الحرب، فلم يكن أمام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو خيار سوى التوقيع، بعدما أوضح له ترمب أنه ضاق ذرعاً، فأجرى محادثة “شديدة اللهجة” مع الزعيم الإسرائيلي. ولكن حتى هذا الاتفاق قد ينهار قريباً بسبب أهداف إسرائيل المتباينة. ففي سعيه إلى تهدئة الجناح اليميني وضمان بقائه السياسي، قد يميل نتنياهو إلى استئناف الحرب على “حماس” بمجرد إطلاق سراح الرهائن، وقد يعرقل وصول المساعدات الإنسانية المفيدة مرة أخرى. وقد يهاجم إيران مرة أخرى لتحويل الأنظار عما يعتبره استكمال المهمة في غزة.
إن تفضيل الحكومة الإسرائيلية استخدام القوة العسكرية لإبقاء الخصوم في حال ارتباك قد يقوض أهداف الولايات المتحدة، مثلما حدث في جهود إدارة ترمب السابقة في المنطقة. فهذا المسار الحالي الواضح، الذي تتولى فيه إسرائيل دور مسبب للفوضى بينما تتبعها الولايات المتحدة على مضض، ينطوي على أخطار جسيمة. فإذا قرر نتنياهو نقض اتفاق التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري مع “حماس” بعد تحقيق أهدافه الأولية، أو إذا انهارت مفاوضات المرحلة الثانية من الاتفاق، فقد تجر إسرائيل الولايات المتحدة مجدداً إلى حرب لا تريدها واشنطن.
ولكن ليس من الضروري أن تسير الأمور على هذا النحو. فقد أظهرت إدارة ترمب في الأشهر الأولى من توليها السلطة وعلى مدى الأسابيع القليلة الماضية، أنها قادرة على رسم مسارها الخاص، بل وفي بعض الأحيان، استخدام النفوذ الكبير الذي يتمتع به البيت الأبيض. ويظهر الاتفاق الحالي أن هذا النوع من الضغط يمكن أن يحرز نتائج إيجابية أولية في الأقل. ولكن لكي تنجح هذه الجهود على المدى الطويل، حري بالولايات المتحدة أن تدرك مدى اختلاف مصالحها الطويلة الأمد عن مصالح إسرائيل، وعدد المرات التي تعرضت سياستها في الشرق الأوسط للتقويض على يد أقرب حلفائها في المنطقة. وفي سبيل كسر هذه الديناميكية فعلاً [للخروج من هذه الحلقة المفرغة]، على الولايات المتحدة أن تواصل الضغط المستمر على إسرائيل للالتزام بمسار يعزز الاستقرار الإقليمي بدلاً من زعزعته. وإلا، فقد يتحول هذا الاتفاق الأخير إلى مبادرة سلام فاشلة أخرى بقيادة الولايات المتحدة.
مساران متباعدان
الفكرة القائلة إن لإسرائيل والولايات المتحدة أهدافاً مختلفة ضمن إطار استراتيجي مشترك ليست جديدة ولا مثيرة للجدل، لكنها خلال العامين الماضيين، انكشفت بشكل غير مسبوق. فعلى مدى عقود، قامت الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط على ركيزتين أساسيتين هما دعم إسرائيل والحفاظ على التدفق الحر للنفط. وإلى جانب هذين الهدفين، حددت الإدارات الأميركية المتعاقبة سلسلة من الأهداف المترابطة تتمثل في منع الخصوم من امتلاك أسلحة دمار شامل، والحفاظ على وجود عسكري أميركي كافٍ لدرء التهديدات الأخرى لمصالح الولايات المتحدة، وضمان فاعلية جهود مكافحة الإرهاب. ومع ذلك وبشكل عام، منذ الحروب التي اندلعت في الأعوام الأولى من حقبة ما بعد هجمات الـ11 من سبتمبر فضلت واشنطن شرق أوسط مستقراً نسبياً، يتعايش فيه حلفاء الولايات المتحدة بعضهم مع بعض حتى لو لم تربطهم علاقات رسمية.
بدورها، تمحورت المصالح الاستراتيجية لإسرائيل حول أمنها القومي وتحالفها الوثيق مع الولايات المتحدة. فقد اعتبرت الإدارات الأميركية المتعاقبة حروب إسرائيل دفاعاً عن النفس، وزودتها بأسلحة متطورة ودعم عسكري، وتبنت في الوقت نفسه فكرة قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وافترض كثر في واشنطن أن اتفاقات السلام، من كامب ديفيد عام 1978 إلى عملية أوسلو في تسعينيات القرن الـ20، كانت تدفع إسرائيل نحو توافق عام مع الولايات المتحدة. ولكن طوال هذه الأعوام، فشلت واشنطن في التصدي بجدية للتوسيع الإسرائيلي المستمر للمستوطنات اليهودية في الأراضي المحتلة، مما حال تدريجاً دون إمكان قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. وعلى هذا المنوال، كان وراء “عملية السلام” تباعد متعاظم بين الإدارات الإسرائيلية والأميركية.
قُلبت سياسات إدارة ترمب رأساً على عقب باستمرار بسبب التصرفات الإسرائيلية.
في الواقع، مع تزايد نفوذ رأس الحربة اليميني في إسرائيل، بدأ تعريف الدولة لمصالحها يبدو مختلفاً تماماً عما كان يعرض في الخطاب الأميركي الرسمي. واختفت تقريباً أحزاب يسار الوسط الداعمة لحل الدولتين، وأصبح الأمن القومي يرتبط أكثر فأكثر بضم الضفة الغربية في الأقل، وهي خطوة من شأنها أن تمنع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة. وعندما شكل نتنياهو حكومة مع أحزاب اليمين المتطرف عام 2022، تسارعت وتيرة التوسع الاستيطاني على نحو غير مسبوق، وأصبح الإشراف الوزاري على الاحتلال الآن بيد بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، وهما قائدان متطرفان يرفضان أي فكرة تتعلق بالحكم الفلسطيني أو حتى الوجود الفلسطيني الطويل الأمد في أي جزء من أراضي فلسطين التي كانت تحت الانتداب البريطاني سابقاً.
مع ذلك وحتى سبتمبر 2023، كانت إدارة بايدن تعتقد أنها على الموجة نفسها مع إسرائيل، إذ رأت أن اتفاقاً إسرائيلياً – سعودياً قد يمهد الطريق لحقبة من الاستقرار الذي طال انتظاره، في غياب تسوية عادلة للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. لكن بعد السابع من أكتوبر، وجدت حكومة نتنياهو فرصة ذهبية لدفن قضية الدولة الفلسطينية. ومنذ عام 2024، سعت إسرائيل أيضاً إلى توسيع وجودها العسكري أكثر فأكثر في إيران ولبنان وسوريا واليمن، وحتى قطر. وعلى رغم أن هذه المغامرات العسكرية غالباً ما تعارضت مع أهداف السياسة الأميركية المعلنة، فإن إسرائيل لم تواجه أي مقاومة حقيقية من إدارة بايدن أو ترمب حتى الآن.
تجاهل السلطة
كشفت الأحداث بعد السابع من أكتوبر عن تباعد في السياسات بين إسرائيل والولايات المتحدة كان قد بدأ يتكون منذ أعوام. فبعد هجوم “حماس” ورد إسرائيل العنيف، أرادت إدارة بايدن إنهاء الحرب بسرعة لتطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل بل واقترحت أن مثل هذه الخطوة قد تحظى بدعم إقليمي واسع. وعلى رغم تصعيد إسرائيل للحرب في غزة، واصلت إدارة الرئيس جو بايدن الضغط من أجل التوصل إلى اتفاق سعودي – إسرائيلي قبل نهاية ولايته في يناير 2025. وعلى صعيد الرأي العام السائد في الشرق الأوسط وحول العالم، قرأ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان المشهد بدقة أكبر.
لكن فكرة التسوية لم تلق قبولاً لدى نتنياهو أيضاً الذي كان في حاجة إلى استمرار فصول الحرب ليتمكن من استرضاء شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف وتأجيل أي مساءلة قضائية تتعلق بتهم الفساد الموجهة إليه. والحقيقة أن اتفاقات أبراهام نفسها بدت أقل أهمية بالنسبة إلى نتنياهو، إذ واصلت إسرائيل استعراض قوتها العسكرية في مختلف أنحاء المنطقة خلال العام الأخير من إدارة بايدن، وأنقذتها مراراً الولايات المتحدة ودول عربية صديقة (ساعدت في حمايتها من الهجمات الصاروخية الإيرانية). وفي المقابل، فشلت إدارة بايدن في فرض أي عقوبات جدية على الحكومة الإسرائيلية لسماحها أو حتى تشجيعها لحملة عنف متصاعدة مارسها المستوطنون ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، مكتفية بفرض عقوبات على بعض المستوطنين الأكثر عنفاً. وفي ظل هذا الفراغ السياسي، استولت إسرائيل عام 2024 على أراض في الضفة الغربية أكثر مما استولت عليه خلال الأعوام الـ20 السابقة مجتمعة.
وعلى رغم انطلاقتها الجريئة، أثبتت إدارة ترمب الثانية خلال الأشهر الثمانية الأولى من ولايتها أنها عاجزة بالقدر نفسه عن تعزيز أهداف الولايات المتحدة المرتبطة بإرساء سلام واستقرار طويلي الأمد. فعلى رغم أن ترمب نجح في تحقيق وقف إطلاق النار في غزة في اليوم الأول من توليه الحكم، فإنه وقف متفرجاً عندما انتهكت إسرائيل الاتفاق بعد ستة أسابيع، ثم منح اليمين الإسرائيلي المتطرف هدية حين طرح فكرة تحويل القطاع إلى “ريفييرا الشرق الأوسط” بعدما يغادره السكان الفلسطينيون على حد زعمه. وعندما كثفت إسرائيل حملتها في غزة وفرضت حظراً كلياً على دخول المساعدات، لم تضغط الولايات المتحدة للحيلولة دون انتشار المجاعة هناك. بل تعاونت المصالح التجارية الأميركية والجيش الإسرائيلي لتأسيس ما سمي “مؤسسة غزة الإنسانية” المثيرة للجدل، وأغلقت مئات نقاط توزيع المساعدات في جميع أنحاء قطاع غزة. وبحلول أغسطس (آب) الماضي، قتل ما يقارب 900 شخص كانوا يبحثون عن الطعام قرب مواقع تلك المؤسسة، وفقاً للأمم المتحدة.
وفي الواقع، إن أكبر إنجاز حققته إسرائيل تمثل في إظهارها للعالم أن الولايات المتحدة لن تتساهل مع عدوانها المستمر على غزة فحسب، بل أيضاً مع حربها الإقليمية المتوسعة، مهما ابتعدت تلك الأفعال عن المصالح الأميركية البعيدة المدى. لنأخذ إيران مثالاً، ففي الربيع، وبينما كان ترمب منتظماً في محادثات حول مصير البرنامج النووي الإيراني، أبدى رغبته في التوصل إلى اتفاق. وأبدت نسبة كبيرة من القاعدة السياسية للرئيس الأميركي، بمن في ذلك المعلق اليميني المؤثر تاكر كارلسون، معارضتهم خوض حرب جديدة مع طهران.
ومع ذلك من خلال إطلاق حملة عسكرية إسرائيلية ضد إيران، نجح نتنياهو في إقناع ترمب بإشراك القوات الأميركية في عمليات هجومية. في يونيو الماضي شنت الولايات المتحدة ضربات استخدمت فيها قنابل خارقة للتحصينات [والصخور] أرسلتها عميقاً في فتحات التهوية في منشآت تخصيب اليورانيوم الإيرانية في فوردو ونطنز. وعلى رغم أن حجم الضرر الكامل لا يزال موضع جدل، فإن تلك الهجمات أظهرت مدى قدرة إسرائيل على جر الولايات المتحدة إلى خوض عمليات عسكرية كبرى تخدم مصالح إسرائيل بشكل خاص.
أما في لبنان وسوريا، فتزداد التباينات بين الأهداف الأميركية والإسرائيلية. تقول إدارة ترمب إنها تريد تحقيق الاستقرار في لبنان وتعزيز إشرافها ووصايتها المباشرة على البلاد، بخاصة بعدما جرى إضعاف “حزب الله”، التنظيم الإسلامي الرئيس المدعوم من إيران. ومن يذكر أن الولايات المتحدة دعمت انتخاب رئيس جمهورية ورئيس وزراء جديدين للبنان في يناير، وعززت قدرات الجيش اللبناني لكي يحل محل “حزب الله” في الجنوب، وشاركت في لجنة ترأسها الولايات المتحدة أنشئت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 لمراقبة تنفيذ وقف إطلاق النار المتفاوض عليه مع إسرائيل هناك.
في المقابل، واصلت الحكومة الإسرائيلية عملياتها العسكرية في لبنان، مما أعاق محاولات البلاد لاستعادة الاستقرار، إذ لا تزال القوات الإسرائيلية تحتل نقاطاً عدة في الجنوب في خرق للاتفاق الذي رعته واشنطن، وتواصل طائراتها شن غارات على أهداف يشتبه في أنها تابعة لـ”حزب الله” في جميع أنحاء البلاد، مما يؤدي إلى سقوط ضحايا مدنيين، إضافة إلى ذلك تجاهلت إسرائيل إلى حد كبير لجنة المراقبة التي تشارك فيها هي نفسها.
تسعى إسرائيل إلى إبقاء سوريا منقسمة داخلياً وضعيفة.
وفي الجانب الإيجابي بالنسبة إلى الولايات المتحدة، أسهمت الحرب الإسرائيلية في لبنان وهجماتها على إيران في خريف 2024 في تسريع وتيرة سقوط نظام بشار الأسد، وهو ما اعتبر نصراً واضحاً لواشنطن والمنطقة بأسرها، بخاصة للشعب السوري. في البداية، أدى إسقاط النظام السوري على يد جماعة إسلامية متمردة تتحدر من تنظيمي “داعش” (الدولة الإسلامية) و”القاعدة” الإرهابيين إلى إثارة قلق إدارة بايدن. لكن الزعيم السوري الجديد، أحمد الشرع، نال إعجاب ترمب. في مايو (أيار) الماضي وبعد اجتماع غير متوقع معه، أعلن ترمب أن واشنطن سترفع العقوبات المفروضة منذ أعوام على سوريا، مما يمنحها فرصة حقيقية للانتعاش الاقتصادي. بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فإن بناء سوريا جديدة آمنة ومستقرة يعد أولوية لتجنب انهيار الدولة وعودة ظهور تنظيمات مثل “داعش”، ومنع اتساع رقعة الاضطرابات الإقليمية التي يمكن أن تستغلها إيران وغيرها من الخصوم.
مع ذلك وعلى رغم تعهدها بدعم قوي للحكومة السورية الجديدة، فلم تعرقل إدارة ترمب التدخلات العسكرية الإسرائيلية المستمرة في سوريا. فمنذ سقوط نظام الأسد، دمرت إسرائيل معظم القدرات العسكرية السورية من خلال مئات الغارات الجوية. واستولت على أراضٍ سورية تتجاوز مرتفعات الجولان التي تحتلها منذ 1967، وطالبت بـ”نزع سلاح” جنوب سوريا بحجة حماية الأقلية الدرزية في البلاد. وقد قوضت هذه التحركات التعافي الهش للبلاد وزادت من التوترات مع تركيا، حليفة الولايات المتحدة وعضو حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وربما يكون هذا هو الهدف المنشود. وقد بذلت إدارة ترمب جهوداً حثيثة ترمي إلى جمع الحكومة السورية والفصائل الدرزية للتفاوض على وقف لإطلاق النار بعد التصعيد الأخير في الجنوب، لكنها لم تفعل شيئاً يذكر لإلغاء المكاسب العسكرية الإسرائيلية، التي أبقت سوريا ضعيفة داخلياً ومنقسمة، وهو هدف كانت إسرائيل قد أعلنت عنه بشكل صريح أمام واشنطن.
وأخيراً، هناك قضية غزة نفسها. فالاتفاق بين “حماس” وإسرائيل يمنح المنطقة هدنة طال انتظارها من العنف، على أمل أن تشمل الجوع أيضاً. وستتمكن عائلات الرهائن أخيراً من رؤية أحبائها أو دفن موتاها. ومع استئناف تدفق المساعدات على نطاق واسع، قد يتمكن سكان غزة من الابتعاد عن شفير المجاعة. لكن التفاصيل المتعلقة بالجانب الإسرائيلي من الاتفاق غامضة بما يكفي لتتيح لنتنياهو إفشال الخطوات التالية. على سبيل المثال، قد تواصل إسرائيل عرقلة وصول المساعدات والطواقم الطبية والعاملين في المجال الإنساني، وتنفذ هجمات متقطعة مميتة من طريق جيش الدفاع الإسرائيلي أو الجماعات التي تدعمها، وتمتنع عن الانسحاب، مواصلة احتلالاً شبه عسكري لغزة. ولا يزال كثير من الغموض يكتنف “قوة الاستقرار الدولية” التي يدعو إليها الاتفاق. أما التحدي الأكبر فهو قضية الدولة الفلسطينية التي لم تعالج بعد، والمرفوضة علناً من حكومة نتنياهو. ومن غير المؤكد ما إذا كان الفلسطينيون سيعتبرون الهيئة التكنوقراطية غير السياسية التي يتحدث عنها الاتفاق شكلاً شرعياً من أشكال الحكم الفلسطيني في غزة، إذ إنهم لم يكونوا طرفاً في المفاوضات أصلاً.
النفوذ المعلق
على غرار ما فعله أسلافه، تولى ترمب منصبه معلناً رغبته في تقليص الوجود الأميركي في الشرق الأوسط. ومرة تلو الأخرى، وجدت الولايات المتحدة نفسها متورطة من جديد في الصراع، عسكرياً ودبلوماسياً، بسبب توسع العمليات الهجومية الإسرائيلية في المنطقة. وربما يكون الوضع مختلفاً هذه المرة، لكن حتى الآن، يميل ترمب إلى دعم نجاحات نتنياهو التكتيكية حتى عندما تتعارض مع المصالح الاستراتيجية الأميركية الطويلة المدى، أو حتى عندما تعوق الجهود السياسية الأميركية الجارية. إن اعتماد إسرائيل المتزايد على قوة السلاح، ورفضها الحلول التفاوضية للصراعات لأنها تفضل إبقاء جميع الأعداء الحاليين والمحتملين في حال ارتباك من خلال القوة العسكرية، ينطوي على أخطار جسيمة بالنسبة إلى واشنطن. لقد سبق أن نجحت إسرائيل مرة في جر الولايات المتحدة إلى القتال، وقد تحاول فعل ذلك مجدداً، سواء في إيران أو اليمن أو حتى غزة، إذ قد يؤدي أي تحرك لدفع السكان الفلسطينيين إلى سيناء إلى إشعال فتيل صراع مع مصر.
وعلى رغم أن مثل هذه المخاوف قد تبدو نظرية، فإن الهجوم الإسرائيلي على قطر الشهر الماضي أظهر مدى الثقة التي باتت إسرائيل تشعر بها. فباستهدافها مفاوضي “حماس” في العاصمة القطرية الدوحة، حاولت إسرائيل نسف حتى مجرد احتمال وهْم السعي إلى حل دبلوماسي للحرب في غزة. وعلى رغم فشل الهجوم، نجحت إسرائيل، مرة أخرى، في إظهار قدرتها على فرض شروطها،
إن اعتماد إسرائيل المتعاظم على قوة السلاح ينطوي على أخطار جسيمة بالنسبة إلى واشنطن.
بعد عامين من سفك الدماء غير المسبوق، بات العالم بمعظمه ينظر إلى إسرائيل باعتبارها دولة مارقة تخرق الأعراف الراسخة من دون عقاب، وبتواطؤ من الولايات المتحدة. وقد أخبرنا عدد من القادة العسكريين الأميركيين الرفيعي المستوى أنه ما لم تلزم واشنطن إسرائيل الالتزام بجدية في بناء مستقبل فلسطيني قابل للاستمرار، فإن النهج الإسرائيلي المتمثل في السعي إلى الهيمنة العسكرية سيعني حروباً لا نهاية لها ومزيداً من عدم الاستقرار الإقليمي. وإذا كان النظام العالمي بقيادة الولايات المتحدة أشبه بلعبة “جينغا” جيوسياسية [لعبة جينغا أو برج التحدي تتكون من برج خشبي يبنى من قطع خشبية بعضها فوق بعض، ويجب سحب هذه القطع وتغيير مكانها من دون إسقاط البرج]، فمن المرجح أن تكون إسرائيل هي من يسحب القطعة الأخيرة [التي تؤدي إلى انهيار البرج بأكمله].
وبالنظر إلى الديناميكيات الداخلية المثيرة للجدل المحيطة بالعلاقات الأميركية – الإسرائيلية، سيتطلب الأمر شجاعة سياسية من أي إدارة أميركية للضغط على إسرائيل من أجل كبح جماح توسعها العسكري والسعي إلى سلام دائم، أولاً من خلال إصلاح شراكاتها مع الدول العربية. ولكن قبل وقت ليس ببعيد، كان يعد من الجسارة أن تتصرف إسرائيل بما يخالف مصالح راعيتها العظمى، لا العكس. فالرئيس دوايت آيزنهاور والرئيس جيرالد فورد هددا بإعادة تقييم العلاقة بسبب التعنت الإسرائيلي. والرئيس رونالد ريغان والرئيس جورج بوش الأب أخرا شحنات الأسلحة وضمانات القروض للتعبير عن استيائهما من بعض العمليات العسكرية الإسرائيلية والتوسع الاستيطاني. وهكذا، فإن استخدام النفوذ لفرض المصالح الأميركية ليس نهجاً جديداً. ولا ينبغي أن يكون مثيراً للجدل. ففي وقت يشهد تحديات استثنائية للقوة الأميركية حول العالم، سيكون من الغريب جداً أن تتنازل الولايات المتحدة عن أجندتها الأمنية الأوسع لمصلحة نزوات حليف مدجج بالسلاح.
لقد اتخذ ترمب الخطوة الأولى في تغيير هذا المسار، وهو يتمتع بحصانة سياسية كبيرة، وربما فريدة من نوعها، مما يمكنه من الإقدام على مثل هذه الخطوات. لكن الأمر يتطلب ضغطاً مستمراً وشجاعة لتحقيق “السلام القوي والدائم والأبدي” الذي يقول الرئيس إنه يريده. وبالنسبة إلى عائلات الرهائن وعشرات الآلاف الذين فقدوا أرواحهم وأفراد عائلاتهم ومنازلهم إلى الأبد، من المحزن أن الولايات المتحدة امتنعت كل هذا الوقت عن استخدام قوتها لإنهاء الحرب. وفي ظل التهديدات الأمنية العالمية المتعددة حول العالم، يتعذر على واشنطن تحمل الفشل مرة أخرى.
*جوست ر. هيلترمان هو المستشار الخاص لـ”برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا” في مركز “مجموعة الأزمات الدولية” للبحوث.
** ناتاشا هول هي زميلة بارزة غير مقيمة في “معهد الدراسات الاستراتيجية والدولية”.
مترجم عن فورين أفيرز، 9 أكتوبر (تشرين الأول) 2025
المصدر: اندبندنت عربية