
في الذكرى التي يستعيد فيها السوريون تفاصيل يوم التحرير وسقوط منظومة الأسد وأعوانه، يتقاطع المشهد الوطني مع حدث دولي غير مسبوق. الكونغرس الأميركي يصوّت على إلغاء قانون قيصر، القانون الذي شكّل منذ عام 2019 أحد أكبر أنظمة العقوبات التي فُرضت على سوريا خلال سنوات النزاع. هذا القرار لا يعبّر فقط عن تحول في المزاج السياسي داخل واشنطن، بل يعكس إدراكًا دوليًا بأن سوريا الجديدة التي تشكّلت بعد ديسمبر 2024 تختلف جذريًا عن سوريا التي فُرض عليها هذا القانون قبل خمسة أعوام. هكذا يصبح إلغاء قيصر حدثًا سياسيًا واقتصاديًا في آن واحد، يتجاوز حدود القرار التشريعي ليعبّر عن تغيّر عميق في كيفية نظر العالم إلى الدولة السورية الجديدة.
لقد جاء قانون قيصر في مرحلة كان فيها النظام السابق محاصرًا داخليًا وخارجيًا، وكانت العقوبات تُقدَّم كأداة لردع الانتهاكات ومنع إعادة إنتاج شبكات الفساد والسلطة. لكن الواقع الذي عاشه السوريون كان أشد قسوة من النوايا المعلنة، فالعقوبات لم تتوقف عند رموز النظام السابق، بل امتدت آثارها إلى تفاصيل الحياة اليومية للمواطن، فأصيبت القطاعات الأساسية بالشلل، وارتفعت تكاليف المعيشة، وتوقفت مشاريع إعادة الإعمار، وتجنبت الشركات الدولية العمل في سوريا خوفًا من التعقيدات القانونية. وحتى الاستثناءات الإنسانية لم تمنع تعطّل تحويلات المغتربين أو أزمة تأمين المستلزمات الطبية أو ارتفاع أسعار المواد الغذائية نتيجة للقيود المصرفية التي فرضت عزلة خانقة على الاقتصاد السوري.
ومع سقوط النظام السابق في 8 ديسمبر 2024، تغيّر المشهد بالكامل. فالدولة الجديدة التي بدأت تتشكّل على أنقاض السلطة القديمة ليست امتدادًا لها، بل مشروع سياسي مختلف يحاول إعادة بناء المؤسسات، وإعادة ترتيب العلاقات الخارجية، وفتح صفحة مختلفة مع المجتمع الدولي. في هذا السياق، يصبح استمرار العقوبات سابقًا لا معنى له، لأنها صُممت للتعامل مع نظام لم يعد موجودًا. ومن هنا، فإن إلغاء القانون لا يمثل مكافأة سياسية بقدر ما يعكس فهمًا بأن أدوات الضغط القديمة لم تعد مناسبة لواقع مختلف، وأن سوريا الجديدة بحاجة إلى بيئة اقتصادية تستطيع من خلالها إعادة بناء الدولة المتهالكة.
قرار الكونغرس بإلغاء قيصر يحمل رسائل متعددة. أولها أن الولايات المتحدة باتت مستعدة للتعامل مع الحكومة السورية الجديدة باعتبارها شريك، وليس كيانًا خارج الشرعية الدولية. وثانيها أن المجتمع الدولي يرى أن فتح المجال الاقتصادي أمام سوريا سيُسهم في تعزيز الاستقرار الداخلي، وهو ما يصعب تحقيقه في ظل استمرار القيود الخانقة التي أعاقت الصناعة والتجارة والمصارف طوال السنوات الماضية. ورسالته الثالثة أن البلاد لم تعد تُعامل كملف أمني مغلق، بل كدولة تمر بمرحلة انتقالية تحتاج إلى دعم اقتصادي مدروس كي لا تنزلق إلى أزمات أعمق.
تأثير القرار لن يكون آنياً، لكنه سيكون ملموسًا في المدى القريب والمتوسط. فالمصارف الدولية ستبدأ بالتعامل بحذر أقل، والشركات ستعيد النظر في دخول السوق السورية، ومشاريع الإعمار ستستعيد إمكاناتها بعد أن كانت مجمّدة. وستتمكن الحكومة من فتح خطوط ائتمان جديدة، والتفاوض مع مؤسسات التمويل الدولية، وجذب استثمارات في مجالات الطاقة والزراعة والصناعة. كما سيخف الضغط على سعر الصرف نتيجة لانفتاح القنوات المالية، وسيتمكن السوريون في الخارج من تحويل أموالهم بطرق أسرع وأقل كلفة. وحتى القطاعات الإنسانية ستستفيد من إزالة التعقيدات التي كانت تجعل استيراد المعدات الطبية أو إرسال الدعم اللوجستي عملية شديدة الصعوبة.
إن الرمزية التي يحملها القرار لا تقل أهمية عن أثره الاقتصادي. ففي اليوم الذي يستعيد فيه السوريون ذكرى تحرر بلادهم من النظام السابق، يفتح العالم أمامهم نافذة جديدة للخروج من الحصار. فالتحرير السياسي لا يكتمل إلا بتحرير الاقتصاد، وإلغاء قيصر يشكل أحد أهم مفاتيح هذا التحرير. إنه إعلان بأن سوريا ليست محكومة بالبقاء في هامش النظام الدولي، وأنها قادرة على استعادة مكانتها تدريجيًا إذا واصلت بناء مؤسساتها الجديدة ومنع إعادة إنتاج دوائر الفساد والسلطة التي كانت تحكمها لعقود.
ورغم ذلك، فإن رفع العقوبات لا يقدم حلولًا جاهزة، بل يمنح البلاد فرصة للعمل، وهي فرصة لا بد أن ترافقها إصلاحات داخلية، ومكافحة للفساد، وتثبيت للاستقرار الأمني، وبناء لثقة المستثمرين، وإعادة تنظيم الهياكل الاقتصادية. الطريق طويل، لكن ما تغيّر اليوم هو أن البلاد أصبحت قادرة على السير فيه بعدما أزيح عن كتفيها أحد أثقل الأحمال التي كبّلتها خلال السنوات الماضية.
إن لحظة إلغاء قيصر ليست مجرد خطوة تشريعية، بل هي محطة في سردية سوريا الجديدة، دولة تحاول الوقوف بعد سقوط طويل، وتعيد بناء علاقتها بالعالم، وتبدأ بفتح الأبواب التي أُغلقت في وجهها لسنوات.
وبين ذاكرة التحرير وقرار واشنطن، يتشكل فصل جديد من قصة البلاد، فصل عنوانه أن سوريا تتقدم نحو المستقبل لا بوصفها بلدًا محاصرًا، بل بلد يستعيد مكانه وحقه في أن يعيش ويُبنى من جديد.
المصدر: تلفزيون سوريا






