
تزامناً مع إحياء السوريين الذكرى الأولى للتحرير وإسقاط النظام، برزت تطورات لافتة في واشنطن تتعلق باقتراب تصويت الكونغرس الأميركي على إلغاء قانون قيصر، فقد كشف مدير الشؤون السياسية في المجلس السوري الأميركي محمد علاء غانم عن مساعٍ متقدمة داخل الكونغرس لإجراء تصويت على موازنة وزارة الدفاع الأميركية، المتضمنة بنداً يقضي بإلغاء قانون قيصر، ووفق غانم من المقرر أن يجري التصويت يوم الأربعاء، 10 كانون الأول الجاري.
وفي السياق نفسه أكد مراسل وول ستريت جورنال جاريد مالسن عبر منصة “إكس” أن الكونغرس الأميركي “وافق للتو” على إلغاء العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر، وأضاف:” ستنشر الليلة الصيغة النهائية المضمنة في تعديل قانون تفويض الدفاع الوطني.
ورغم أهمية هذه الخطوة والجهود الدبلوماسية التي بُذلت في سبيلها وما رافقها من دعم عربي وإقليمي من حلفاء سوريا، إلا أن هذا التصريح يفتح في المقابل الباب لسؤال محوري: هل يكفي الإلغاء المرتقب لقانون قيصر لإطلاق عجلة إعادة الإعمار في سوريا، أم أن مسار الإعمار ما يزال مرتبطاً بعوامل وعقبات أخرى تتجاوز إطار العقوبات الأميركية؟
مؤسسات متهالكة
تشكل بنية مؤسسات الدولة واحداً من أعقد التحديات التي تواجه الحكومة السورية الجديدة في مرحلة ما بعد التحرير، فسنوات الحرب الأربع عشرة، وما رافقها من تسخير شبه كامل لموارد الدولة لصالح آلة النظام العسكرية، وحرمان القطاعات المدنية من أبسط متطلبات التطوير، إضافة إلى العقوبات الأوروبية والأميركية التي عطّلت قدرة المؤسسات على مواكبة التحول العالمي، كلها عوامل أسهمت في إنتاج جهاز إداري منهك ومترهل تحول اليوم إلى عبء ثقيل على مسار إعادة الإعمار.
وفي هذا السياق كشف آخر تقرير صادر عن البنك الدولي في تشرين الأول الماضي، أن تكلفة إعادة إعمار سوريا تقد بـ 345 مليار دولار، منها 141 مليار دولار مخصصة لإعادة إعمار المؤسسات الحكومية والعامة، إضافة إلى إصلاح البنية التحتية الأساسية (طرق، كهرباء، ماء، وشبكات حكومية).
ويرى الباحث الاقتصادي يونس الكريم أن جذور هذا التدهور تعود إلى الحقبة السابقة، لكن المشكلة لم تتوقف عند هذا الحد، إذ يوضح لموقع تلفزيون سوريا أن الحكومة الحالية لم تُطلق بعد برنامجاً فعلياً لإعادة تأهيل مؤسسات الدولة، مضيفاً أن آليات التوظيف ما تزال ضعيفة بعد خروج عدد كبير من الموظفين لأسباب مختلفة، الأمر الذي زاد هشاشة البنية المؤسسية وأفقدها القدرة على قيادة عملية إعادة الإعمار.
هذا التشخيص يتقاطع مع الموقف الرسمي الذي عبّر عنه وزير المالية السوري محمد يسر برنية عقب إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب من الرياض نيته رفع العقوبات عن سوريا.
وأكد برنية في تصريحات صحفية أن الحكومة تعمل على “إصلاح شامل لإدارة المالية العامة، بما في ذلك النظام الضريبي والجمارك والقطاع المصرفي”، ضمن جهد أوسع لتحديث اقتصاد أنهكه تضخم القطاع العام على مدى عقود. لكنه في المقابل شدد على أن رفع العقوبات ليس سوى الخطوة الأولى في مسار تعافٍ طويل.
مدير الشؤون السياسية في المجلس السوري الأميركي، محمد علاء غانم: رفع قانون قيصر – المتوقع قريباً – لا يكفي وحده لجذب الاستثمارات وإطلاق الإعمار.
ضعف الحوكمة والتشريعات
يمثل ضعف الحوكمة وغياب إطار تشريعي ورقابي ناضج أحد أبرز التحديات التي تقف أمام إطلاق عملية إعادة الإعمار في سوريا، حتى في حال رفع العقوبات الأميركية بالكامل.
وتؤكد دراسة صادرة عن مركز عمران للدراسات أن أي خطة إعمار لن تحقق نتائجها ما لم تُبنَ على مؤسسات رقابية وقضائية مستقلة وفاعلة تضمن نزاهة إنفاق الموارد ووصولها إلى مستحقيها، وتحول دون إعادة إنتاج شبكات الفساد والمحسوبية التي رسخها النظام المخلوع طوال عقود.
وتتقاطع هذه الدراسة مع رأي مدير الشؤون السياسية في المجلس السوري الأميركي، محمد علاء غانم الذي قال في تصريح خاص لموقع تلفزيون سوريا إن رفع قانون قيصر – المتوقع قريباً – لا يكفي وحده لجذب الاستثمارات وإطلاق الإعمار موضحاً: لرفع دخل المواطن وزيادة قيمة الصادرات وجذب الشركات الدولية، نحن بحاجة إلى تخطيط اقتصادي سليم، وبحاجة إلى قضاء نزيه وعادل، فالشركات الأجنبية تخشى دائماً من وقوع نزاعات، ولحل هذه النزاعات لا بدّ من قضاء مستقل ومحاكم فعّالة.
ويضيف غانم أن البيئة الاستثمارية لا تُبنى فقط عبر الامتيازات، بل عبر شفافية كاملة في منح العقود والإجراءات الاقتصادية، إلى جانب بنية تخطيط اقتصادي متماسكة، مؤكداً أن هذا كله لا يقل أهمية عن رفع قانون قيصر نفسه.
وتدعم مراكز الأبحاث الدولية هذا التقييم، إذ يحذّر تحليل صادر عن مركز كارنيغي للشرق الأوسط بتاريخ 31 تشرين الأول الماضي من أن مشاريع الإعمار قد تتعرض للاستحواذ من قبل قوى سياسية نافذة إذا لم تُعالج مظاهر ضعف الحوكمة.
ويشير التحليل إلى أن الفترة الأولى بعد التحرير شهدت طرح بعض الأصول الحكومية للخصخصة دون شفافية كافية حول هوية المشترين أو شروط الصفقات، مما أثار مخاوف جدّية من إعادة إنتاج نمط المحسوبية والفساد الذي طبع الاقتصاد السوري خلال عقود مضت.
تعدد مناطق السيطرة
يمثّل غياب سلطة سياسية موحّدة على كامل الجغرافيا السورية أحد أبرز التحديات التي تعيق إمكانية انطلاق عملية إعادة الإعمار على مستوى وطني شامل، فإلى جانب العوائق الإدارية والاقتصادية، ما تزال سوريا عملياً بلداً مقسم السيطرة بين مناطق خاضعة للحكومة السورية، ومناطق تديرها قوات “قسد” شرق الفرات، إضافة إلى منطقة السويداء في الجنوب السوري.
هذا التشتت في النفوذ يصعّب بناء رؤية متماسكة للإعمار، ويحدّ من قدرة الحكومة على وضع سياسات وطنية موحّدة أو تنفيذ مشاريع كبرى تتطلب سلطة تنفيذية واحدة وإطاراً قانونياً متسقاً.
ويشير باحثون إلى أن انعدام الاستقرار السياسي الكامل يشكل في الوقت الراهن العائق الأكثر تأثيراً على قرارات التمويل الدولي؛ فالدول المانحة لا تزال تنظر إلى سوريا بوصفها ساحة انتقالية لم تُحسم ملامح نظام الحكم فيها بشكل نهائي، مما يقلل من استعدادها لضخ استثمارات أو تمويلات طويلة الأجل في بيئة تُوصف بأنها غير مستقرة وتفتقر إلى رؤية واضحة للمستقبل السياسي.
وفي هذا السياق يرى الباحث الأول في مركز عمران للدراسات أيمن الدسوقي أنه لا يمكن التقليل من أثر قانون قيصر على مسار الإعمار، لكنه يبقى عاملاً من مجموعة عوامل أوسع تعرقل عملية إعادة البناء بطريقة تولّد الأمن والاستقرار.
ويضيف الدسوقي في تصريح لموقع تلفزيون سوريا أن أحد أهم الشروط الحاسمة لنجاح الإعمار هو استعادة سلاسل القيمة الوطنية المحرّكة للاقتصاد السوري، وهو أمر متعذّر في ظل وجود مساحات جغرافية واسعة ما تزال خارج سيطرة الحكومة، ما يجعل من الصعب إعادة تشغيل القطاعات الإنتاجية بصورة مترابطة أو استعادة الانتظام الطبيعي لحركة التجارة الداخلية.
إسرائيل وعرقلة الإعمار
يشكّل الدور الإسرائيلي أحد أكثر العوامل الخارجية تأثيراً على إمكانية انطلاق عملية إعادة الإعمار في سوريا، ليس فقط من زاوية الاعتداءات العسكرية المتكررة، ومحاولة اللعب على وتر التنوع العرقي والطائفي في سوريا، بل من حيث انعكاس هذا السلوك على مستوى الاستقرار السياسي والاقتصادي المطلوب لبدء أي استثمار طويل الأمد.
ورغم مرور عام على التحرير ما تزال إسرائيل تشنّ غارات مكثفة وتنفّذ توغلات داخل الأراضي السورية، تجاوز عددها أكثر من 1000 غارة و400 توغلاً منذ سقوط النظام، كان آخرها المجزرة التي وقعت في بلدة بيت جن بريف دمشق وراح ضحيتها العشرات.
وينعكس هذا الواقع الأمني المضطرب مباشرة على ثقة المستثمرين الخارجيين، كما يوضّح الباحث الاقتصادي يونس الكريم الذي يرى أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي ونمط القصف المتكرر يجعل الشركات الدولية تتخوف من ضخ استثمارات كبيرة في سوريا، خشية أن تضغط إسرائيل على واشنطن لفرض عقوبات إضافية أو تمديد عقوبات قائمة في حال لم تستجب الحكومة السورية لشروط معينة تريد إسرائيل فرضها على سوريا.
ويشير الكريم إلى أن هذا العامل وحده كفيل بإبطاء مسار إعادة الإعمار، حتى لو رُفع قانون قيصر بالكامل.
على الجانب السياسي تدرك الحكومة السورية حجم هذا التحدي وهو ما عبّر عنه الرئيس أحمد الشرع خلال مشاركته في ندوة حوارية ضمن أعمال منتدى الدوحة 2025، حيث قال: نعمل مع الدول الفاعلة على مستوى العالم للضغط على إسرائيل للانسحاب من الأراضي التي احتلتها بعد الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، وجميع الدول تؤيد مطلبنا هذا. وهناك مفاوضات مع إسرائيل، والولايات المتحدة منخرطة معنا في هذه المفاوضات، والجميع يدعم حق سوريا في استعادة تلك الأراضي.
المصدر: تلفزيون سوريا






