
تسعة أشهر مضت على سقوط نظام بشار الأسد، ذلك النظام الذي طبع حياة السوريين لعقود بالاستبداد والقمع والحروب، وانتهى سقوطه في كانون الأول/ديسمبر 2024 بفتح صفحة جديدة في تاريخ سوريا.
واليوم، تعيش البلاد تحت إدارة سوريا جديدة تحاول جاهدة ترميم ما خلّفته ثلاثة عشر عاماً من الحرب الأهلية، بينما يتابع العالم الخارجي بترقّب وحذر.
في هذا السياق، قدّم السفير الهولندي السابق نيكولاس فان دام، أحد أبرز الدبلوماسيين الأوروبيين المتخصصين في الشأن السوري، أحدث قراءاته لمستقبل البلاد في حوار مطوّل مع موقع “المدن”. ورغم صدمته الشخصية من سرعة انهيار النظام، بدا ثابتًا على قناعة أساسية: الطريق إلى الاستقرار طويل وشاق، حتى مع نهاية الحقبة الأسدية، لأن إعادة بناء سوريا ليست مجرد عملية سياسية أو اقتصادية، بل عملية اجتماعية ونفسية تمتد لأجيال.
تحذيرات قديمة وتجددها اليوم
لم يكن فان دام ضيفًا عابرًا على الملف السوري. فمنذ أطروحته الشهيرة الصراع على السلطة في سوريا (1977)، التي فتحت للمرة الأولى باب البحث في المسألة الطائفية، وحتى كتابه تدمير وطن (2017) الذي أثار جدلاً واسعًا لأنه وصف ما جرى بالحرب الأهلية ودعا للحوار مع الأسد، ظل يقدم قراءات مخالفة للسائد. وفي عمله الأخير رحلاتي الدبلوماسية في العالم العربي والإسلامي (2025)، انتقد السياسات الغربية التي انساقت وراء “التفكير الرغبوي” من دون استعداد فعلي للتغيير، محملًا إياها مسؤولية مضاعفة الكارثة الإنسانية في سوريا.
يرى فان دام أنّ اعتراف الغرب أو الدول العربية بالنظام الجديد لا يعني بالضرورة استقراراً فورياً. فالمعادلات الإقليمية والدولية ما تزال معقدة، والولايات المتحدة وإسرائيل تضعان مصالحهما فوق أي اعتبار.
الداخل السوري: دولة تبحث عن ذاتها
يشير فان دام إلى أنّ الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع ورثت دولة شبه منهارة: مدن مدمّرة، اقتصاد مستنزف، مجتمع مشرذم، وملايين من النازحين واللاجئين. ويضيف أنّ أخطر ما تواجهه سوريا اليوم ليس الدمار المادي فحسب، بل غياب الثقة بين المكوّنات: العرب والكرد، السنّة والعلويون والدروز والمسيحيون. فقد تركت المجازر الطائفية والتهجير القسري جروحاً عميقة، ولا يمكن الحديث عن استقرار ما لم يُفتح باب مصالحة وطنية حقيقية.
أما في الشمال الشرقي، فما زالت العلاقة مع القوى الكردية — ولا سيما “قوات سوريا الديمقراطية” وامتداداتها — تشكّل سؤالاً مفتوحاً حول شكل الدولة المقبلة: هل ستكون مركزية قوية كما في الماضي، أم لامركزية تعترف بالتنوّع السوري وتمنح المكوّنات حقوقاً أوسع؟
عودة اللاجئين: خطوة صغيرة ذات مغزى كبير
من التطورات اللافتة مؤخرًا، تسجيل أول عودة طوعية لدفعة من اللاجئين السوريين من هولندا. وهي بادرة رمزية لكنها تحمل دلالات عميقة:
- أنّ بعض اللاجئين بدؤوا يستعيدون الثقة بإمكانية العيش في وطنهم.
- أنّ أوروبا، وهولندا تحديداً، ترى في التغيير السياسي فرصة لتشجيع الاستقرار بدل الاكتفاء بإدارة الأزمة.
- أنّ ملف اللاجئين لن يُحل بقرارات قسرية، بل بتهيئة ظروف كريمة وآمنة للعودة.
هنا تلتقي التجربة الإنسانية بالبعد السياسي: فالعودة الطوعية، مهما كانت محدودة، إشارة إلى بداية ثقة جديدة بين الدولة ومواطنيها.
العلاقات الدولية: مصالح تتقاطع وصراعات لم تُحسم
يرى فان دام أنّ اعتراف الغرب أو الدول العربية بالنظام الجديد لا يعني بالضرورة استقراراً فورياً. فالمعادلات الإقليمية والدولية ما تزال معقدة، والولايات المتحدة وإسرائيل تضعان مصالحهما فوق أي اعتبار. والتجارب في العراق وليبيا وأفغانستان تؤكد أن التدخلات الخارجية غالبًا ما زادت الأوضاع سوءًا.
وفي هذا الإطار، تبقى العلاقة مع إسرائيل محورًا حساسًا: أي اتفاق أمني لن يكون مجدياً ما لم يشمل انسحاباً كاملاً من الجولان المحتل. فـ “سلام بلا عدالة”، بحسب فان دام، لن يحقق استقراراً حقيقياً لسوريا ولا للمنطقة.
الفلسطينيون السوريون.. قضية لا يمكن تجاوزها
رغم أن مقابلة فان دام لم تتطرق إليهم، يبقى ملف نحو نصف مليون لاجئ فلسطيني عاشوا في سوريا قبل اندلاع الحرب من أعقد الملفات وأكثرها إلحاحًا. فقد شكّلوا جزءًا أصيلًا من النسيج الاجتماعي السوري، لكنهم وجدوا أنفسهم في قلب المأساة: بين الانخراط القسري في الصراعات الداخلية من جهة، والانكشاف الإنساني والاجتماعي بعد دمار مخيماتهم من جهة أخرى، وأبرزها مخيم اليرموك الذي تحوّل إلى رمز للاجئ فقد وطنه مرتين.
ومع الحديث عن اتفاق أمني محتمل بين دمشق وتل أبيب، يطفو سؤال وجودي: ما مصير الفلسطينيين في سوريا الجديدة؟ هل سيُنظر إليهم كجزء من الهوية الوطنية السورية بما يضمن حقوقهم المدنية والإنسانية، أم سيُتركون رهائن للمساومات السياسية بين إسرائيل والدولة السورية؟
إنّ أي سلام مع إسرائيل يُبنى فيما يبقى الفلسطينيون في حالة لجوء دائم لن يكون سلامًا حقيقيًا، بل إعادة إنتاج للظلم. وإذا أرادت القيادة السورية الجديدة أن تبرهن على جديتها في بناء دولة عادلة، فعليها أن تضع الفلسطينيين في قلب معادلتها الوطنية، لا على هامشها.
الدبلوماسية السورية الجديدة والانفتاح على أوروبا
في موازاة هذه التحديات، برزت محاولات جادة لإعادة إدماج سوريا في المجتمع الدولي. فقد عقد الرئيس أحمد الشرع ووزير خارجيته أسعد الشيباني سلسلة لقاءات على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، من بينها لقاء بارز مع رئيس الوزراء الهولندي.
هذا اللقاء حمل رمزية خاصة، نظرًا للموقف التاريخي الصارم الذي اتخذته هولندا ضد نظام الأسد السابق، وصولًا إلى رفعها دعوى قضائية ضده أمام محكمة العدل الدولية. وبحسب مصادر دبلوماسية، ركّز النقاش على إعادة بناء الثقة بين سوريا الجديدة وأوروبا، وملف اللاجئين، ومسار العدالة الانتقالية. وهنا يظهر تحوّل نوعي: من عزلة دمشق في عهد الأسد إلى خطاب جديد يسعى لتقديمها كطرف مسؤول وشريك في الاستقرار.
أوروبا بين المبادئ والمصالح
يذكّر تحليل فان دام بما عاشته أوروبا طوال سنوات الثورة: انقسام داخلي بين دول ركّزت على حقوق الإنسان والمساءلة (هولندا، ألمانيا، الدنمارك) وأخرى اختارت براغماتية تغلّب الاستقرار على كل شيء (فرنسا، إيطاليا، اليونان). أزمة اللجوء عام 2015 جعلت الهجرة هاجسًا أوليًا للسياسات الأوروبية. واليوم، مع تغيّر المشهد في دمشق، تبدو أوروبا أمام اختبار جديد: هل تنخرط بعمق في إعادة الإعمار المشروط بالإصلاحات؟ أم تكتفي بمقاربات أمنية ضيقة لا تصنع سلامًا دائمًا؟
يرى فان دام أنّ سقوط الأسد لا يضمن تلقائياً انتقالاً إلى الديمقراطية، فقد يُستبدل استبداد بآخر. ومن هنا، تقع على عاتق القيادة الجديدة مسؤولية تاريخية.
الموقف الهولندي: ثبات على المبادئ
خلافًا لغيرها، حافظت هولندا على موقف جوهري منذ 2011:
- رفض التعامل مع نظام الأسد بسبب الجرائم ضد الإنسانية.
- التركيز على العدالة والمساءلة، ودعم جهود محاكم أوروبية لمحاكمة مسؤولين متورطين في التعذيب.
- دعم المعارضة السياسية والمدنية، وإن بوسائل محدودة.
اليوم، وبعد سقوط النظام، تبدو هولندا في موقع يسمح لها بلعب دور “جسر” بين أوروبا وسوريا الجديدة: دعم إعادة الإعمار المشروط بالإصلاحات، المساعدة في عودة اللاجئين، وتعزيز مسار العدالة الانتقالية. ومن هنا فإن لقاء رئيس وزرائها بالرئيس الشرع لم يكن بروتوكوليًا فقط، بل إشارة إلى إمكان بناء علاقة جديدة قائمة على مبادئ العدالة والحرية.
الطريق إلى الأمام: ديمقراطية ممكنة أم استبداد جديد؟
يرى فان دام أنّ سقوط الأسد لا يضمن تلقائياً انتقالاً إلى الديمقراطية، فقد يُستبدل استبداد بآخر. ومن هنا، تقع على عاتق القيادة الجديدة مسؤولية تاريخية:
- تفكيك الميليشيات ودمجها في مؤسسات الدولة.
- مكافحة الفساد الذي استشرى لعقود.
- إطلاق عملية عدالة انتقالية تنصف الضحايا وتعيد الثقة للمجتمع.
- فتح المجال السياسي أمام مختلف القوى والمكوّنات، حتى لا يُعاد إنتاج منظومة الإقصاء.
خاتمة: فرصة تاريخية على المحك
من وجهة نظر فان دام، ومن خلال التجربة الهولندية والأوروبية مع سوريا، تبدو البلاد اليوم أمام فرصة تاريخية:
- فإمّا أن تترجم التضحيات الهائلة التي قُدّمت منذ 2011 إلى بناء دولة جديدة عادلة وديمقراطية؛
- وإمّا أن تنزلق من جديد إلى دوامة الاستبداد والفوضى.
وبينما تعود أولى دفعات اللاجئين من أوروبا إلى أرض الوطن، فإنّ هذه العودة — على تواضعها — تعكس أملاً بأنّ “سوريا ما بعد الأسد” يمكن أن تكون مختلفة. لكن تحقيق ذلك يتطلب، كما يقول فان دام، إرادة سورية صلبة، ومساندة دولية صادقة، ومنع اندلاع حرب جديدة مهما كان الثمن.
المصدر: تلفزيون سوريا