لم يمض على انطلاق عملية “ردع العدوان” أكثر من شهر، ولم يمض على سيطرة قوى الثورة على العاصمة دمشق وهروب رأس النظام البائد إلى موسكو، عشرين يوما، حتى أطل علينا الأخ أحمد الشرع قائد هذه العملية، من خلال مقابلة تلفزيونية مطولة وشاملة مع قناة العربية تحدث فيها عن رؤيته للمستقبل، مستقبل سوريا، وعرض خارطة طريق تستهدف الوصول إلى بداية الطريق المستقر الذي ستمضي عليه بلادنا باتجاه ذلك المستقبل.
وجاء حديث الشرع مميزا لشموله ولتضمنه رسائل إلى جهات عديدة. لكن لأنه جاء من خلال مقابلة تلفزيونية فإن من الحصافة أن نتناوله ببعض التحفظ والتيقظ، ليس فقط لأننا لا نعلم ما إذا كان المذاع هو كل ما تم في المقابلة، وإنما أيضا لأن الموضوعات كلها طرحت من خلال صياغة المضيف لأسئلته، وتأثير تلك الصياغة على الإجابات وعلى مسار الحوار، وإن كان من المعروف في مثل هذه المقابلات أن يكون هناك تنسيق مسبق بين الطرفين.
على كل حال فإن التحفظ والتيقظ واجب لأهمية الشخص ولأهمية الموضوعات التي تناولها. وسأضع قراءتي لتصريحات الأخ الشرع، في نقاط محددة، وسأجعلها متداخلة مع تصريحات أخرى للشرع ومع الخطوات والقرارات التي اتخذتها “قيادة العمليات” وتلك التي أخذتها “الحكومة المؤقتة”، باعتبار هذه جميعا يكمل بعضها بعضا، ويفسر بعضها بعضا:
1ـ بداية كان واضحا وضوحا لا لبس فيه أن من يقف على رأس السلطة في سوريا يعرف تماما أين يقف، ويعرف تماما ثقل المسؤولية التي تسنمها، ويعرف أيضا تعقيدات الوضع في سوريا، ويعرف الخطوط الحمر التي لا يجوز تجاوزها في الداخل السوري.
وبلغة المرحلة وتحدياتها فإن الحفاظ على سوريا موحدة جغرافيا دون أي فرصة أو حالة تتيح الانفصال أو التقسيم، أو الخصوصية تحت أي مسمى، مثل الفدرالية أو غيرها أمر غير مسموح فيه. لذلك كان موقفه واضحا بشأن مطالب الانفصالية الكردية التي تمثلها قسد بهذا الشأن فهي مرفوضة، وليس في هذا موقف وسط، أو حل بين حلين. رفض هذه المطالب هو تأكيد لوحدة سوريا، وفي الوقت نفسه تأكيد لوحدة الامن الإقليمي، والمقصود هنا تحديدا تركيا فلا يكون في سوريا، ولا ينطلق من سوريا ما يهدد الأمن القومي التركي، فهذا حق الجوار الجغرافي والحضاري، وحق السلم الإقليمي.
الأكراد كما أكد الشرع مكون أصيل وثابت وفاعل من مكونات الشعب السوري ومن تكوينه الحضاري، وهذا المكون لم يتخلف في تاريخنا كله عن هذه الصفات، له ما لغيره من المكونات، الحقوق نفسها، وهي حقوق المواطنة التي يتساوى أمامها الجميع، وإذا ما كان المكون الكردي يرى أنه تم التجاوز على حقوقه الوطنية في هذا الظرف أو ذاك، أو في هذا الجانب أو ذاك، فكل هذا يمكن النظر فيها، لكن من خلال قاعدة المواطنة، وقاعدة المواطنة لا تحتاج إلى كثير شرح وتوسع، فهي تعني فيما تعني: حق كل سوري في “التملك والانتقال والعمل” في أي مكان في سوريا، لا يمنعه عن ذلك اختلاف في الدين، أو العرق، أو المذهب، أو الموقع، وأن “الثروة الوطنية، بما فيها الثروة العلمية” التي يستند إليها الوطن في التنمية والتقدم حق للمواطنين جميعا لا يتميز أحد إزاءها بسبب العرق أو الدين أو الطائفة، أو الموقع، ولا يكون التميز إلا بقدر الحاجة، ولتوفير أفضل السبل لتقدم المجتمع وأكثرها نجاعة.
وحين يتجه المجتمع إلى تمييز منطقة ما فذلك لا يكون إلا تمييزا مرحليا مؤقتا لتصحيح خلل أوقعته ممارسات وظروف سابقة.
إن النظر إلى بنية الجيش العربي السوري وأجهزة الأمن زمن النظام البائد، والنظر إلى سياسة الابتعاث العلمية، والنظر إلى توزيع ثروات المجتمع، وإلى قرارات “تبعيث” قطاعات معينة من الدولة ـ وهذه كانت كلها تستند إلى رؤى طائفية تفتيتيةـ، يدفع إلى إجراءات استثنائية في هذه القطاعات وأمثالها، لكنها تبقى مؤقتة زمانا، ومحدودة مكانا.
كان الشرع واضحا في كل الإجابات التي جاءت على هذا الموضوع. وكان أساس هذه الإجابات هو “المواطنة”، الحقوق الكاملة والمساواة التامة في هذه الحقوق.
2ـ مفهوم جدا ما تفضل به الشرع في حديثه عن التعيينات الحكومية والإدارية الجديدة، حين دفع عنها صفة المحاباة “للرفاق”، وأسند تفسير هذا الأمر إلى الضرورات المرحلية التي تفرض الانسجام، وإذا كان يمكن اعتبار هذا التفسير مفهوما لظروفه، فإنه ليس مقبولا قياسا لطبيعة التطلع الذي أتى عليه الشرع من اليوم الأول، وهو أن الثورة لا تريد أن تكون ثورة فصيل، أو فصائل، وإنما ثورة مجتمع، والدولة التي يتطلع إليها ورفاقه هي دولة مجتمع وليس دولة فصائل، وحين نصادق على هذا القول فإننا نفهم لكن لا نقبل هذا التفسير.
أن تأتي حكومة ” إدلب” لتصبح حكومة سوريا، هذا مفهوم بداية، ولعلها كانت خطوة ذكية وموفقة جنبت القيادة “الصداع” الذي كان يمكن أن يتخلف عن الاستعجال في تشكيل حكومة جديدة، والمشاورات اللازمة لذلك، لكن منذ أن بدأت تصدر تعيينات جديدة في الحكومة صار من الواجب أن تعالج هذه القضية من منظور أوسع، وأكثر تعبيرا ومصداقية لما يعلن عنه.
يجب أن يدخل إلى الحكومة في التعيينات الجديدة ما يؤكد النظرة الوطنية للقيادة الجديدة، يجب أن تتنوع اتجاهات الوزراء والمسؤولين فلا يكونوا من “صنف وأحد”، ويجب أن تستوعب التعديلات التنوع العرقي والديني في سوريا، ليس إرضاء لهذا التنوع، وإنما إظهارا لصدق توجه الثوار في التزام الوطنية ومعاييرها في هذه المسألة.
كان مهما ولا يزال أن يدخل إلى الوزارة وزراء من غير تيار “الإسلام السياسي”، ومن غير المسلمين، ومن غير أهل السنة، وأعيد التأكيد هنا بأن المسألة ليست من قبيل الإرضاء، ولا الإغواء، لهذا الجانب أو ذاك، وأيضا، ولا تسترا وتقية، وإنما توطيدا لمصداقية ما أعلنته الثورة من اليوم الأول، وكررته قياداتها.
ويصبح هذا المطلب أكثر إلحاحا، وأشد أهمية حين نستحضر أن “الهيئة” التي يقف الشرع على راسها، يوم أن كانت تحكم إدلب، كان تؤثر أعضاءها ورجالاتها بكل المسؤوليات والمناصب، وكانت تقصي الآخرين، وفي إدلب مناضلين ومجاهدين، ورجال علم ومعرفة وخبرة كان من الخطأ تخطيهم، وكان هذا مأخذا عليها، وعيبا واضحا في ممارستها، لكنها في ذلك الوقت كانت “فصيلا” يحكم منطقة، وليس الأمر هكذا الآن.
والى نفس هذه المعاني الراقية يذهب حديث الشرع حين قال إنه لا يعتبر نفسه محرر سوريا فكل من قدم تضحيات شارك في التحرير، وبالتالي مطلوب ان نقدم الدليل على هذه الرؤية البناءة من خلال التشاركية في المسؤولية وفي أوراق العمل التي ستقدم للمؤتمر الوطني وفي تحديد من سيدعى الى هذا المؤتمر… الخ.
3ـ ندرك الوضع الأمني والعسكري الحرج الذي تمر به سوريا، فنحن في بلد دمر نظامه البائد الجيش قبل أن يصل إلى محطته الأخيرة التي تمثلت في حله عمليا، وهرب رئيس البلاد تاركا كل شيء خلفه، دون أن يعطي أي توجيه للجيش أو لمؤسسات الدولة، وكان ـ من سابق ـ قد ترك الجيش مهانا تحت وقع الضربات الإسرائيلية دون أي رد فعل، بعد أن دفع به في أتون حرب دموية مجرمة ضد شعبه، استمرت في فصلها الأخير لمدة ثلاثة عشر عاما متواصلة، ففصل الجيش عن الشعب، وجعلهما عدوين لدودين، وفتح البلد لكل قوى البغي العالمية من جيوش وميليشيات.
ندرك معنى هذا كله، وندرك أيضا أن البلد مدمر، كل شيء فيه مدمرـ إلا إرادة شعبه ـ وأن هذا الوضع يتطلب ابتعاد سوريا عن أي صراع أو معارك فهي بحاجة لكل دقيقة وساعة، ولكل إمكانية وقدرة، حتى تتحرك مما هي فيه، وتحرك قوى العمل والإنتاج والبناء، ومن هذا الإدراك نفهم معنى تشديد الشرع في مقابلته على حاجة سوريا إلى التنمية، وليس إلى الدخول في معارك، وقد جاء هذا التشديد في معرض الحديث عن “الكيان الصهيوني”.
لكن ما يدفعنا إلى الحذر والتحذير الخشية من أن يكون الشرع وإخوانه مقتنعين حقا بأن جعل ” التنمية ” هدفا يبعدهم عن الصراع مع العدو الصهيوني!
إذا توفرت هذه القناعة عن جد، فإن هذه القيادة الجديدة تعيش في “وهم قاتل”، وإذا توفرت لديهم هذه القناعة بحق فإن هذا يعني أنهم لم يقرؤا التاريخ القريب المعاصر جيدا.
إن تنمية سوريا، وإعادة بنائها، واستعادتها لدورها الحيوي هو بمثابة “إعلان حرب” على الكيان الصهيوني، وهذا يدركه الصهاينة جيدا وهو عندهم عند أقسى وأخطر وأشد ضراوة من عملية التسلح نفسها.
إن إعادة بناء الوحدة الوطنية الحقيقية في سوريا، وهزيمة المشروع الانفصالي الكردي، واستعادة المواطنين السوريين من أكراد وعلويين وغيرهم من خاطفيهم الطائفيين والعنصريين، هو أشد خطرا على الكيان الصهيوني من بناء الجيش، ومن صفقات السلاح، وحتى من تصنيع الأسلحة.
“التنمية، والاستقرار، والوحدة الوطنية”، هذا هو الخطر في عرف المشروع الصهيوني، فإذا كانت الثورة صادقة في التوجه إلى هذه الأهداف، ولا نشك في صدقها، فيجب أن تكون على يقين بأن العدو الصهيوني لن يتركها، وعليها أن تؤمن نفسها ومجتمعها وتنميتها واستقلالها بما تستطيع ذاتيا ومع حلفائها، ويجب أن تختبر صدق وصلابة هؤلاء الحلفاء في تأمين هذا الجانب.
4ـ نحن في العهد والمرحلة الجديدة بأمس الحاجة إلى تحديد وتأكيد ” هوية الوطنية السورية”، سوريا التي نتطلع إليها، أو لنقل التي تتطلع إليها قوى الثورة التي حققت لنا النصر النهائي على النظام البائد، والهوية ليست قرارا يتخذه مسؤول، وليست أمرا يوميا يصدره قائد، لكن الهوية ثوب ينسجه التاريخ على جسد الوطن، تنسجه اللغة، والعقيدة، والجغرافيا، والحياة المشتركة، والمتصلة في عقل ووجدان وإبداع أبنائه.
وحين يتعمد الأخ الشرع أن يوجه حديثه لأهل الشام، وليس إلى السوريين حسب التسمية الدستورية، فإنه يصيب كبد الحقيقة، لأن مصطلح “أهل الشام” فيه تحديد أوفى ل “الهوية الوطنية”، إذ تقع فلسطين المحتلة، والجولان المحتل في قلب هذه التسمية، أما سورية الدستورية فهي جزء من بلاد الشام رسمتها اتفاقيات “سايكس ـ بيكو”.
فالهوية الوطنية لسوريا هي هوية عربية إسلامية، وفلسطين بالنسبة لسوريا في قلبها. هذا تحديد استراتيجي، بعيد عن مجريات السياسة المرحلية وحتى الاستراتيجية القريبة. يجب أن يكون هذا واضحا للجميع، وهو “مفهوم” غير قابل للتفاوض، ولا يخضع للظروف ومتغيراتها، نحن لا نتحدث هنا عن مرحلة معينة، ولا عن ظرف طارئ، ولا عن قوة أو جماعة أو تحالف، نحن نتحدث عن هوية وطنية جامعة لا وجود لنا من غيرها، ويجب أن يتم التعبير عن هذه الهوية بوضوح تام في الدستور، في مقدمته، وفي متنه.
5ـ في الحديث عن “مؤتمر الحوار الوطني” المزمع عقده تم التطرق إلى الشرعية المرتجاة من هذا المؤتمر الذي سيتولى حل مجلس الشعب السابق، وإلغاء الدستور، وإعطاء الشرعية للنظام الجديد، وقد تم الحديث عن هذه النقاط بتعبيرات مختلفة ومن جهات مختلفة، والحق أن هذا من أكثر المسائل التي تم تداولها على لسان مسؤولي الادارة الجديدة غموضا وضبابية.
إن السؤال المركزي الذي يطرح في هذا المقام: من اين تأتي شرعية الثورة، هل تأتي؟
من الدستور الذي تمت الثورة عليه!…
من مجلس الشعب أو البرلمان الذي تم تخطيه واسقاطه!…
من مؤتمر حوار وطني، يدعو له الثوار!..
الثورة لا تبحث عن الشرعية في هذه المواضع، أما ما سقط من دستور ومجلس شعب أو برلمان فلا يمكن النظر إليه، لأنه جزء من الماضي المقيت، وأما ما أنشأته قوى الثورة فشرعيته متأتية من الجهة التي أنشأته، وأما الثورة فشرعيتها مما حققته من نصر على القوى البائدة، على النظام الساقط.
إن إنجاز الثورة هو مصدر شرعيتها، هذه هي الشرعية الثورية، ثم تعمل الثورة في قوت لاحق على الانتقال إلى الشرعية الدستورية، حين تقر دستورها الجديد، أو تقر وثيقتها الدستورية التي تحدد مصادر الشرعية لكل مؤسسات الدولة.
هكذا هي الأمور، وكل شيء مخالف لذلك هو نوع من التخبط لا يثمر إلا مطبات وثغرات يمكن أن تتسلل منها القوى المضادة.
ثم إن الحديث عن مدة تطول لثلاث أو أربع سنوات للوصول إلى الدستور الدائم لسوريا فيه مخاطرة كبيرة، ويخشى أن تؤدي طول المدة إلى توليد حالة من الاضطراب السياسي والاجتماعي، أو تكون مدخلا وتوطئة لحالة استبداد يصعب لاحقا تجاوزها.
صحيح أن من المفيد جدا أن يسبق اللجوء إلى صناديق الاقتراع إحصاء سكاني عام وشفاف ومتعدد الأهداف، لكن بانتظار هذا “الكمال” يمكن انجاز الكثير من المهام في الفترة الانتقالية إن تم تحصين هذه الفترة “بعقد اجتماعي جديد / أو ميثاق وطني جديد”، يخرج عن “مؤتمر الحوار الوطني” المزمع عقده ـ والذي لا بد أن يستمر لأسابيع وليس أيام ـ، ومنضبطة “بوثيقة دستورية، أو إعلان دستوري” تسير البلاد على ضوئه لفترة محددة.
إن اعتماد فكرة مؤتمر حوار وطني ينتج عقد اجتماعي وطني، وإعلان دستوري، من شأنه أن يضبط عموم الحركة السياسية والاجتماعية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية في سوريا خلال الفترة التي تحددها الوثيقة الدستورية، وحينها تصبح البلاد أقرب ما تكون إلى الاستقرار، وفيها يمارس المواطن السوري حريته السياسية وتمارس الأحزاب دورها في الحياة السياسية والاجتماعية، بل تصبح هذه الفترة بمثابة تهيئة، وإنضاج للانفتاح على مشهد “سوريا الجديدة”.
إن هناك أسئلة كثيرة تثار حول طبيعة الدعوة إلى مؤتمر الحوار الوطني، وهل هذه الدعوة التي ستشمل المئات ـ كما يعلن ـ ، وستغطي كل مكونات المجتمع ومناطقه، ستكون دعوة شخصية أم مؤسساتية، أم خليط من هذا وذاك، وما هي محددات الدعوة، ومن هي الجهة الداعية، وماذا سيقدم لهذا المؤتمر من وثائق مقترحة، ومن سيحدد هذه الوثائق. وهل ستحتكر قوى الثورة الحاكمة الآن الحق بالدعوة، أم أن هناك آلية أخرى لم يكشف عنها بعد لتحقيق هذا الهدف؟
ثم إن الحديث عن قرب الدعوة إلى هذا المؤتمر يثير أيضا الاستغراب، إذ كيف سيكون المؤتمر في وقت قريب، وما زالت القوى المضادة في سوريا منتشرة وتهدد بالانقضاض على الثورة، بل وتتجمع في أكثر من مكان وموقع، وتتواصل فيما بينها، مستفيدة من روح التسامح الذي يضبط إلى الآن حركة الثوار.
ويبدو لي أن عقد مثل هذا المؤتمر مرهون قبل كل شيء بإنهاء هذه البؤر، سواء في شرقي الفرات، أو في مناطق من الساحل، أو في الامتدادات الإيرانية الطائفية في غير مكان من سوريا، أو فيما حول لبنان (العراق ولبنان). لابد من انهاء هذه الأوضاع حتى يمكن لمثل هذا المؤتمر أن ينعقد بحق وأن يكون ممثلا للمجتمع السوري كله.
6ـ حتى الآن لم نسمع من القيادة الجديدة ما بين لنا طبيعة النظام الاجتماعي الجديد المزمع الاستناد إليه في المرحلة القادمة، العبارة الأوضح التي صدرت عن الشرع تحدثت عن “الاقتصاد الحر”، لكن هذه العبارة لوحدها ما عادت صالحة للتعريف بالمقصود تماما، ذلك أن الكثير من قواعد الاقتصاد الحر باتت متداخلة مع أنظمة هي في طبيعتها متناقضة وتمتد هذه من الصين الى الولايات المتحدة، وتحتوي على نماذج متدرجة وعلى مستويات صعبة الحصر. وإضافة إلى ذلك فإن “الفائدة، والربا، وقواعد البنك، وصندوق النقد الدولي” هي قاعدة الاقتصاد الحر التقليدي، وهي تتصادم تصادما قويا مع السمات الاقتصادية لمجتمع المسلمين، وغير مقبول لمن ينتسب الى هذا المجتمع ويدعو الى الاستقلالية والتحرر أن يأخذ بهذه القواعد ويلتزمها.
وبعيدا عن الشعارات العامة وعملية التنظير ـ وهي مهمة ـ فإن المواطن السوري، ـ والمواطن في كل مكان ـ يتطلع إلى نظام يؤمن له: فرص عمل يحقق دخلا معقولا يوفر له كفرد وأسرة احتياجاته العادية، من غذاء وصحة وتعليم وسكن، ويصون له احتياجاته الروحية والدينية، وأن تكون هذه كلها في إطار من الكرامة والحرية، ويوفر للمجتمع الأمن الداخلي والخارجي.
ولعل في هذه المطالب كلها تمثل التجسيد المعاصر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم” من أصبح منكم آمنا في سربه، معافا في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”. فهل يملك قادة اليوم تصورا لدور الدولة يحقق هذه المطالب، وهل يدور في خلد القائمين على السلطة اليوم، والمتطلعين إلى سوريا الغد، أن يقيموا “مرجعية وطنية” هيئة أو مؤسسة تكون وظيفتها تحديد ومراقبة تكاليف توفير هذه الأسس، فتجعلها قاعدة للحد الأدنى للأجور، وتأخذ على عاتقها مراقبة هذا الوضع وتصحيح الأجور بشكل دوري حتى لا تتكرر مأساة المواطن السوري التي طحنته على مدى عقود طويلة، كانت فيها الدولة الغاشمة تؤكد أن التكاليف الدنيا للحياة تستدعي أجرا محددا، وتعترف أن ما يحصل عليه المواطن لا يتعدى 20% من هذا الاحتياج، ثم ترضى بذلك اعتمادا على أن “الفساد” يغطى الفارق.
7ـ تحدثت مصادر الأخبار عن مصادقة الأخ الشرع بصفته رئيس السلطة الجديدة على ترفيعات وتعيينات عسكرية، وفيما عرض من أسماء ظهر أن هناك أسماء من غير السوريين تم ترفيعهم وتعينهم في مواقع عسكرية، وهذا أمر إن صح فهو مثير من الناحيتين الدستورية/ القانونية، والوطنية، اذ أن وجود هؤلاء في الجيش يحتاج أولا إلى حصولهم على الجنسية السورية، ثم أن تتوفر فيهم شروط الانتساب الى الجيش، أو أن يصدر بشأنهم استثناء تعفيهم من بعض هذه الشروط، هذا اذا كنا نتحدث عن “بناء وطني للجيش”، أما إذا كان الحديث عن بناء “عسكري فصائلي”، فليس فيما تم أي غضاضة، وهناك تجارب لشعوب أخرى كان فيها مسؤولون عسكريون كبارا من غير المواطنين، لكن تلك التجارب وحتى على مستوى الفصائل والأحزاب لم تكن ناجحة.
ثم إن كل حديث عن منح الجنسية، وترفيعات وتعيينات في الجيش، يجب أن يصدر من خلال إطار قانوني أولا، وهذا لم يتحقق في سوريا حتى الآن، والحديث عن مؤتمر الحوار الوطني ومخرجاته والعمل لدستور أو اعلان دستوري جديد يؤكد الافتقار إلى هذا الأساس القانوني، ويؤكد أن اتخاذ مثل هذه الخطوة ـ إن كانت قد تمت فعلا ـ إجراء أقل ما يقال فيه أنه غير حكيم، وخاطئ، وأن من شأنه أن يثير لغطا أثره غير إيجابي على الوضع السوري الجديد.
ولعله من المناسب أن نسترجع هنا ما ذكرناه في الفقرة الثانية حين تحدثنا عن خطر الاستئثار، لنقول ألم يكن من المناسب أن تتضمن الترفيعات والتعيينات العسكرية عددا من الضباط الأحرار الذين تحملوا مسؤولية الانشقاق عن “جيش الأسد”، ووضعوا أرواحهم على أكفهم انتصارا لثورة الشعب السوري وانحيازا لها، أليس الاستئثار هنا منقصة بحق الجهود الخيرة، والإعلانات الواضحة التي تستهدف بناء وطن حقيقي. لكل أبنائه، وبكل أبنائه.
هذه ملاحظات عامة وضعتها تحت عنوان ” الشرع ومستقبل سوريا” وليس قصدي شخص الأخ “أحمد الشرع” فقط، وإنما الاسم دلالة على القيادة كلها، وعلى المرحلة كلها، وعلى القوى المشاركة في صناعة هذه المرحلة وتحديد ملامحها.
31 / 12 / 2024
تقييم موضوعي لشخصية “احمد الشرع” وفق تصريحاته بالمقابلة التلفزيونية مع العربية، موقفه من الأكراد مكون رئيس للمجتمع الشامي ودولة المواطنة، رؤية مستقبلية للوضع السوري بمشاركة كافة أطياف ومكونات المجتمع، قراءة دقيقة لترفيع شخصيات غير سورية لرتب عسكرية،