هل تستطيع الاستراتيجية الإسرائيلية الإفلات من قبضة الاستراتيجية الأمريكية؟

عصام هيطلاني

ـ لقد تحوّلت فلسطين منذ وعد بلفور المشؤوم عام 1917 ، من مجرد أرض محلية إلى قضية مركزية وعقدة جيوسياسية أعادت تشكيل التحالفات الدولية .. كما أعادت توزيع موازين القوى والنفوذ في العالم . واليوم .. وبعد أكثر من قرن على ذلك المنعطف التاريخي والمصيري الذي شكّل جرحا ونزيفا داميا في الوعي والضمير الإنساني ، تعود القضية الفلسطينية إلى صدارة الساحة الدولية من جديد ، ولكن في إطار مغاير وسياق مختلف تماما : ففي الوقت الذي يسابق فيه الكيان الإسرائيلي الزمن لتفتيت وتفكيك أي حلم بإقامة الدولة الفلسطينية ، لا يزال ماضيا في نهج سياسة الاستيطان السرطاني بغية ترسيخ إقامة الدولة اليهودية على كامل التراب الفلسطيني كأمر واقع مفروض غير قابل للتفاوض أوالنقاش ، في حين تنظر الولايات المتحدة إلى حلّ الدولتين باعتباره أداة لإعادة ترتيب الشرق الأوسط بما يخدم سياستها الاستراتيجية وأولوياتها الكبرى في صراعها الجوهري القادم مع روسيا والصين ( مجموعة البريكس ) ، حيث تسعى القوى الدولية إلى الخروج من عنق الزجاجة الأمريكية اقتصاديا والانخراط بشكل اوسع في منافسة مفتوحة للسيطرة والهيمنة على مراكز الطاقة والثروات الباطنية والممرات البرية والموانئ البحرية الحيوية. ومن هنا يتجلى التباين الواضح عند مفترق الطرق بين الاستراتيجيتين الأمريكية والإسرائيلية ، واللتين طالما ارتبطتا بمسار واحد منذ نشوء الكيان الإسرائيلي.

الاستراتيجية الإسرائيلية في فخّ الاستراتيجية الأمريكية

ـ لا شك أنّ الكيان الإسرائيلي يدرك تماما أبعاد الاستراتيجية الأمريكية وتحركاتها الدولية في الكواليس والدهاليز المظلمة ، ولذلك يسعى جاهدا إلى خلط الأوراق وتعطيل أي مسار سياسي قد يقود إلى تسوية تفضي إلى استقرار المنطقة. ولهذا نراه يتحرك على مختلف الجبهات بعدوانية مفرطة ، بلا أنظمة تحدّه أو قوانين صارمة تردعه ، محاولا إبقاء المنطقة فوق فوهة بركان ملتهب سياسيا وعسكريا. ومن هنا نجد أنّ إسرائيل تعمل بكل قوة على تعقيد المشهد الإقليمي برمّته ، ليس في غزة وسوريا فحسب ، بل في المنطقة بأسرها. ولعل الضربة الجوية التي استهدفت العاصمة القطرية ( الدوحة ) وما أثارته من صدمة دبلوماسية ، والتي مرّت في ظل تغاضٍ أمريكي لافت ، تدخل في الإطار ذاته ،  فبينما استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن لإسقاط مشروع قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة ، غضّت الطرف في الوقت نفسه عن عقد مؤتمر دولي في نيويورك برعاية فرنسية ـ سعودية للاعتراف بدولة فلسطين على أساس حلّ الدولتين. هذا التناقض الظاهري ليس سوى انعكاس آخر للسياسة الأمريكية المركّبة : حماية إسرائيل دوليا من أي قرارات ملزمة ، وفي الوقت ذاته دفعها تدريجيا نحو زاوية ضيّقة وحادة عبر فرض مسار دبلوماسي وسياسي دولي يتقدّم بثبات نحو حلّ الدولتين

وعليه ، فإن العربدة الإسرائيلية في غزة وسوريا ، وعملياتها العدوانية عبر الحدود ، ورفضها لأي تسوية سياسية ، في ظلّ التغاضي الأمريكي ، لا يمكن تفسيرها على أنها تمرد أو خروج إسرائيلي عن السيطرة ، بل يمكن قراءتها كجزء من « أفخاخ أمريكية » مقصودة . حيث تركت واشنطن لحكومة ” نتنياهو”  اليمينية المتطرفة حرية التوسع الاستيطاني والتصعيد العسكري في المنطقة ، بما وضعها في عزلة دبلوماسية وتحت ضغط قانوني متنامٍ بفعل أوامر المحكمة الجنائية الدولية ، في الوقت الذي يتقاطع فيه الموقف الأمريكي ـ  بشكل غير مباشر ـ مع الاعترافات الأوروبية والدولية المتوالية بالدولة الفلسطينية. ومن هنا يتضح أن المساحة الواسعة التي منحتها الولايات المتحدة ” لنتنياهو” لم تكن بريئة النوايا ، بل مهّدت لوضعه في موقف لا يُحسد عليه: مطاردا قانونيا ، محاصرا دبلوماسيا ، ومكشوفا كعقبة كبرى أمام تنفيذ القرارات الدولية. وهكذا يبدو أن دوره الوظيفي قد انتهى ، ولم تعد واشنطن ترى في بقائه مصلحة لها ، بل عبئا يعرقل مشروعها الإقليمي ، ما يجعل تغييبه عن المشهد السياسي ضرورة ملحّة ، سواء عبر الإطاحة السياسية أو عبر المسار القانوني ، تمهيدا لفرض الاستراتيجية الأمريكية التي تهدف إلى إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط وفق أولوياتها للعقود القادمة

ـ لا شكّ أنّ الخطة الأمريكية ليست موجّهة ضد إسرائيل ككيان ، بقدر ما تستهدف شخص”  نتنياهو ” وطموحات فريقه اليميني العنصري المتطرف. فزعيم حكومة الكيان الإسرائيلي يصرّ على مواصلة الاستيطان ويرفض أي مبادرة أو تسوية ، الأمر الذي جعله عبئا سياسيا على واشنطن نفسها ، لأنه يعرقل مشروعها الأكبر المتضمن إعادة هندسة المنطقة بما يتلاءم مع صراعها القائم والقادم مع القوى العظمى. ومن هنا فإن تغييبه ، أو على الأقل إضعافه سياسيا ، لم يعد مجرد احتمال ، بل خيارا واقعيا تلوّح به مراكز القرار الأمريكية من خلف الكواليس. ولعل تصريحاته الأخيرة ، التي توعّد فيها بالرد على الدول التي اعترفت بدولة فلسطين ، وحديثه عن أنّ عام 2026 سيكون عام « تصفية الساحات المتبقية » ، تكشف عزلة متزايدة أكثر مما تعكس قوة متنامية ، إذ لم تعد وعوده العسكرية تجد غطاءً دوليا يحميه من الضغوط السياسية والعقوبات الاقتصادية والملاحقات القانونية

ـ في قلب هذا المشهد ، ومن خضم تصريحات وتهديدات ” نتنياهو” ، يتضح أن العربدة العسكرية الإسرائيلية في سوريا والعبث في شؤونها الداخلية.. ليست سوى أحد أوجه الضغط على العهد الجديد في دمشق ، من أجل فرض تفاهمات أمنية مع تل أبيب تهدف إلى تكبيل سورية محليا وإقليميا ، بما يمنح الكيان الإسرائيلي مساحة أكبر للتفرغ لتصفية الحسابات مع القوة العربية المتبقية ، أي الجيش المصري ، باعتباره الطرف الذي لا يزال يحافظ على عقيدته العسكرية والقادر ـ نسبيًا ـ على التصدي للطموحات التوسعية الإسرائيلية. وهو ما يفسر تصريحات الرئيس السوري الانتقالي ” أحمد الشرع ” مؤخرًا حول الترابط السوري ـ المصري  كعلاقة تاريخية وجغرافية وشعبية ، في إشارة واضحة إلى أن المخطط الإسرائيلي مكشوف ، وأن أي محاولة لعزل دمشق عن القاهرة ستصطدم برفض شعبي وتحرك رسمي

الخلاصة : أنّ ما يجري بين الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي ليس خلافا تكتيكيا بين حليفين ، بل صراع استراتيجي عميق: فإسرائيل تسعى إلى إبقاء المنطقة مشتعلة خدمةً لمشروعها الاستيطاني وتثبيت ركائز الدولة اليهودية ، فيما تسعى واشنطن إلى فرض حلّ الدولتين وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي كمدخل لمواجهة منافسيها الكبار من ناحية ، والحدّ من تعاظم الطموحات الإسرائيلية نفسها من ناحية أخرى. إذ لم تعد المخاوف الأمريكية مقتصرة على صعود قوى دولية منافسة كروسيا والصين ، بل باتت تشمل أيضا القلق من تنامي النزعة التوسعية الإسرائيلية ورغبتها في السيطرة على منابع الثروة والطاقة والمياه  والممرات الحيوية في ظل غياب قوة عربية رادعة . وصمت وعجز دولي ، وقد زاد ذلك من مخاوف واشنطن من خطورة الطموحات الإسرائيلية خصوصا  في ظل امتلاك الكيان الإسرائيلي مقوّمات الدول الكبرى ، سواء من حيث امتلاكه للسلاح النووي والتفوق التكنولوجي أو قدراته العسكرية المتنامية .. فضلا عن نفوذ  اللوبي اليهودي في مراكز صنع القرار العالمية ، وهو ما يجعل إسرائيل مشروع قوة موازية قد تنقلب في أي لحظة من حليف استراتيجي إلى منافس إقليمي مهدِّد لمصالح الولايات المتحدة ذاتها

ـ ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى ضرورة تشكيل لوبي عربي موحّد يضع مشروعًا استراتيجيا متكاملا وشاملا للمنطقة ، يحفظ الوطن العربي من التقسيم ، ويقي شعوبه من فقدان الهوية والانتماء والضياع قبل فوات الأوان

كاتب وباحث سوري مقيم في ألمانيا

ألمانيا ـ كولن

المصدر: رأي اليوم

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لقد وجدت الدولة الوظيفية “إSرائيل” في فلسTين بوعد بلفور 1917 لخدمة القوى الإستعمارية الإمبريالية، لتكون لخدمة الإمبراطورية البريطانية وبعد الحرب العالمية الثانية إنتقلت الولاية للإدارة الأمريكية، وكما قال بايدن “لتكون عينهم ويدهم بالمنطقة”، هذه الدويلة ستنفذ اجندة ولي أمرها، وإن إختلفت أحياناً ولكن عندما تعترض اجندته تفرض عليها الأمر.

زر الذهاب إلى الأعلى