أطفال التوصيل في دمشق وريفها.. حكاية من داخل بناء واحد      

جولي بيطار

في أحد أبنية ريف دمشق، تتصل سيدة ثلاثينية بصاحب البقالية القريبة، بصوت عاجل: “شو عندك طعمات الإندومي؟ ” تنتظر الاجابة ثم تقول: بدي ثلاث علب طعمتهن خضار.” ثم تضيف بسرعة وكأن الوقت ضدها: “وكمان بدي بيدون مي عشرة ليتر وابعتلي علبة لبن معهم، ولا تخلي الصبي يتأخر بالله مستعجلة.”

بالنسبة لأي مراقب من بعيد، المشهد يبدو عادياً جداً، مجرد عملية شراء روتينية، جزء من حياة المدينة اليومية. لكن وراء هذا الطلب البسيط تكمن قصة صعبة: طفل عمره 13 سنة سيحمل “البيدون” الثقيل، يصعد به الدرج الضيق إلى الطابق الخامس، بعينين متوترتين ويدين متماسكتين، يحاول الحفاظ على توازنه، لا يخطئ في مسار الخطوات، ولا يسكب اللبن الذي أضافته السيدة على قائمة الطلبات.

المشهد يعكس تناقضاً صارخاً بين ما يبدو عادياً على السطح، وبين واقع الطفولة الضائع خلف واجهة الحياة اليومية، حيث العمل يحل مكان اللعب والمدرسة، والمسؤولية تفوق عمر الصبي بثلاثة أضعاف.

من البناء نفسه.. شهادات من وعن أطفال التوصيل

وسيم (اسم وهمي) وهو طفل عامل قال بصوت منخفض: ” بشتغل مشان أساعد أمي وأخواتي. أبي توفى من 2015 الله يرحمه، وكانت أمي هي الوحيدة اللي تشتغل ونحن صغار. بس هلق صرت زلمة عمري 14 سنة، يعني عيب عليي أترك أمي تشتغل لحالها وأقعد وروح عالمدرسة أنا! وين عايشين؟”

يتابع الطفل بابتسامة خفيفة رغم التعب: “أحياناً بالصيف بحس بالشوب كتير مو تعب بس شوب، الحرارة بتكون كتير عالية، فبتزيد الطلبات كتير خصوصاً وقت الظهر لأنه ما حدا بحب يطلع من بيته، بس ما بحس بالتعب، هاي رزقة من الله. الشي المنيح أنو ما ببرد بالشتوية، لأني عم أحرك وما بقعد بلا شغلة.”

كلماته البسيطة تكشف عالمه الصغير الذي يختلط فيه العمل بالمسؤولية المبكرة، حيث الطفولة نفسها تتبدد بين إرهاق الشوارع وحرارة الشمس، وبين رغبة صادقة في مساعدة الأسرة والحفاظ على رزقتها.

أما أماني، إحدى جارات البناء، فهي تعتمد بشكل أساسي على خدمة التوصيل للأطفال: “أنا عايشة لحالي هون مع بنتي، كتير بحتاج حدا يساعدني. أوقات بعد ما وصل عالبيت بتذكر إني نسيت أشياء، وبضطر أطلبهم. بزعل لما وسيم ورفيقه يحملوا شغلات تقيلة أكيد، أنا عندي بنت وبعرف، وما بهون عليي تحمل شي تقيل. بس أنا عالأقل بحاول كون لطيفة كتير معهن وبعطيهن أكثر من ثمن التوصيل بضعف أوقات، وأوقات لما وصي لبنتي ميرا على بسكوت أو شيبس بوصي على ضعف الكمية مشان أعطيه ياهن، أول كم مرة كان يقلي أنا مو صغير ما بحب هالشغلات فصرت قله عادي أنا كبيرة وبحبن معلش بتتسلى فصار يقبل. كمان بالصيف بعطيه مي أول ما يوصل، بحاول حسسه انه هو ابني، واني عم اطلب منه بالمونة مو أمر.”

كلماتها تكشف العلاقة الإنسانية التي تنشأ بين الجيران والأطفال العاملين، إذ يقدّر بعضهم مجهودهم ويحاول تخفيف العبء عنهم، في حين يبقى الطفل متحمساً ومسؤولاً في الوقت نفسه، ما يعكس تناقض الواقع اليومي بين البراءة

أما خالد، جار آخر بالبناية، فيرى الأمور ببساطة: “هلق نحن بالبيت مو كتير منطلب، بس يعني بحس ما فيها شي طالما هاد شغله. بالعكس، عم ننفعه يعني.”

أزمة بين الحاجة والإمكانيات

صاحب السوبر ماركت يوضح، لموقع تلفزيون سوريا، هذا الواقع ببساطة: “هلق أنا بشوف أنه ما فيها شي. الأولاد سريعين وبيعرفوا شغلهم، وبساعدوا الأهالي بنفس الوقت. الشباب الأكبر؟ ما في واحد بيرضى يشتغل هالشغل، مع إنه أنا بعطيهم راتب مانه قليل وكمان شو بياخدوا من العالم إلي بوصلولهم الطلبات بياخذوه. الأولاد هدول موجودين بالحي من زمان، بيعرفوا كل الأبنية والسكان، وبوصلوا الطلب بسرعة.”

رأيه يعكس توازن الحاجة الاقتصادية للطفل من جهة، واعتماد أصحاب المحلات عليهم كحل عملي من جهة أخرى، في ظل شوارع ضيقة وطلبات كثيرة. هذا التناقض يجعل الأطفال ضحايا مزدوجين: ضحايا الفقر وضحايا المخاطر اليومية.

بين الطلبات والرصيف، وبين حرارة الشمس وحركة السيارات، تتبدد طفولتهم في شوارع المدينة. الأطفال الذين يُفترض أن يقضوا وقتهم في المدرسة أو اللعب يجدون أنفسهم مسؤولين عن إعالة أسرهم، محاطين بالمخاطر اليومية. المدينة تظل شاهدة على وجوه صغيرة تحمل أحمالاً كبيرة، في حين تستمر الحياة حولهم صاخبة وغير مبالية، وكأن الطفولة نفسها صارت سلعة تُنقل مع كل طلب يوصلونه إلى أبواب البيوت.
يقول وسيم ختاماً عندما سألته عن المدرسة: “مدرسة شو؟؟ لا لا ما بحبا ولا بتحبني، مليت آنسة من الحكي خليني روح أشتغل بستنفع أكثر بعدين هلق بعصب عليي أبو وليد (اسم وهمي لصاحب المحل)، ما بدك جبلك شي من المحل؟ جبنا خبز تازا..”.

مخاطر صحية وأمنية

العمل للأطفال في التوصيل ليس خيارهم، بل ضرورة اقتصادية. إذ تلجأ الأسر لإشراك أطفالها لتغطية جزء من مصروف البيت، في حين يعتمد السوبرماركت عليهم لتغطية الطلبات الكثيرة في أحياء مكتظة، خصوصاً في ظل غياب أي بديل من الشباب الأكبر سناً.

ويواجه الأطفال العاملون في توصيل الطلبات يومياً مجموعة من المخاطر الجسدية والنفسية. فحمل الطلبات الثقيلة على الأرصفة الضيقة يعرضهم للإصابات المتكررة نتيجة للتعثر أو سقوط العبوات، في حين تشكل الشوارع المزدحمة والعبور بين السيارات المتوقفة والمارة والدراجات النارية المسرعة تهديداً دائماً لأمنهم الشخصي.

كما أنّ التعب الجسدي يمتد ليشمل الإرهاق النفسي، إذ يقضون ساعات طويلة يمشون تحت حرارة الشمس في الصيف أو برودة الطقس في الشتاء، حاملين أوزاناً تفوق قدراتهم الصغيرة.

هذا الواقع اليومي يجعل من حياة الأطفال المشاة المراهقين اختباراً مستمراً للصبر والقوة، ويكشف هشاشة حماية الأطفال في ظل حاجة أسرهم إلى مصدر رزق إضافي.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى