
التحرك التركي الأخير لإنشاء قواعد عسكرية دائمة داخل سوريا، بالتوازي مع الزيارات المكثفة لوفود عسكرية وأمنية تركية إلى دمشق، يعكس بداية مرحلة نوعية جديدة تُحدّد شكل الجغرافيا السياسية لسوريا ما بعد الحرب، في تقديري لم تعد تركيا تنظر إلى الشمال السوري كمجرد عمق عسكري تكتيكي، بل كمساحة شراكة أمنية ناشئة، تُستثمر لمنع تفكيك الدولة السورية، وكبح مشاريع التمدد الانفصالي، وإعادة رسم خرائط الصراع بطريقة تتقاطع مع مصالح أنقرة ودمشق معًا، خصوصًا تحت قيادة الرئيس السوري أحمد الشرع الذي يبدو أنه يتجه نحو استعادة مفاصل القرار في الداخل، بأسلوب يوازن بين الرغبة في بسط السيادة والبراغماتية في الاستعانة بقوى إقليمية مؤثرة.
برأيي، توقيت التوجه التركي يحمل دلالات استراتيجية، خاصة أن أنقرة وجدت نفسها أمام ثلاثة تحولات كبرى، أولها انكشاف حدودها الجنوبية أمام مشروع كردي انفصالي تقوده قوات سوريا الديمقراطية، ثانيها تمدد جيوب تنظيم داعش في البادية ومناطق شرق الفرات؛ وثالثها تراجع بعض قدرات الدولة السورية خلال سنوات الحرب، وما أدى إليه من فراغات قابلة للاستثمار من قبل لاعبين خارجيين، ومن ثم فإن أنقرة، حسب المعطيات الميدانية والسياسية، ترى في إقامة قواعد داخل الأراضي السورية فرصة مزدوجة لمنع تشكل كيان كردي على حدودها، والمشاركة غير المباشرة في إعادة ضبط الأمن السوري الداخلي في المناطق الحساسة التي تقترب من حدودها.
المرحلة الأولى من أي انتشار عسكري تركي جديد داخل سوريا ستكون مرحلة وظيفية، تحددها طبيعة التهديدات لا الاستعراض العسكري، من الممكن أن تركز تركيا هذه المرحلة على نشر قواعد قريبة من قوس التوتر الكردي وداعش، مثل موقع مطار منغ قرب اعزاز شمالي حلب، وهو موقع قريب من تل رفعت ومنبج، ويُعد ضمن مجال قسد التقليدي، كذلك يمكن أن تشمل المرحلة الأولى قاعدة كويرس شرقي حلب، التي تتقاطع جغرافياً مع مناطق مهددة باستعادة نفوذ مجموعات كردية، وتسمح لتركيا بالإشراف على المفاصل الشرقية لحلب، من بين المواقع المطروحة أيضاً منطقة تل أبيض ورأس العين شمالاً، إضافة إلى نطاق البادية الشرقية المتاخم لدير الزور، وكلها مناطق قادرة على لعب دور تكتيكي في إطباق الخناق على احتمالات التفكك الأمني أو الإداري.
أعتقد أن دخول تركيا في هذه المرحلة لن يكون مؤطراً فقط بالمنطق الأمني، بل بمنطق التفاهم مع دمشق، لأن قيام هذه القواعد في الشمال السوري ستساعد سوريا الجديدة بقيادة الشرع خلال المرحلة الحالية على إعادة السيطرة على المناطق المتنازع عليها وتفكيك نفوذ القوى ما دون الدولة، وهنا يبدو تقاطع المصالح واضحاً، تركيا تمنع تشكل كيان كردي، والنظام السوري يستعيد سلطة وحدانية على المناطق الحدودية، في هذا السيناريو، لن تظهر القواعد التركية كبنية احتلال، بل كشراكة عسكرية مؤقتة ومرحلية، تعيد توزيع النفوذ بما يصفه البعض بـالسيادة التعاونية.
برأيي، من الضروري قراءة خيارات المواقع باعتبارها خريطة متدرجة على مرحلتين، الأولى قابلة للتنفيذ السريع، وتركّز على المناطق الشمالية والشرقية، ولا تقترب من مناطق حساسة إقليمياً مثل دمشق أو عمق البادية المتصل بجبهات النفوذ الإسرائيلي، لكن المرحلة الثانية وهي الأكثر تعقيداً قد تتجه نحو إنشاء قواعد في مناطق أكثر استراتيجية، لكنها أيضاً أكثر حساسية دبلوماسية، مثل قاعدة التيّس (T-4) في ريف حمص، التي تقع على طريق استراتيجي بين شرقي سوريا وغربيها، ومطار تدمر العسكري في البادية الوسطى، الذي يتقاطع إقليمياً مع ممرات النفوذ الإيراني سابقاً، إضافة إلى منطقة القريتين في ريف حمص الصحراوي، بل وحتى قطنا جنوب دمشق، القريبة من خطوط الثقل الأمني الإسرائيلي.
إنشاء قواعد تركية في هذه المواقع الحساسة لن يكون خطوة تلقائية، بل مشروطة بمنظومة معقدة من التفاهمات الإقليمية والدولية، فمن الممكن نظرياً أن ترى تركيا في مواقع مثل تدمر أو T-4 فرصاً لقطع خطوط نفوذ قسد وفلول داعش والميليشيات، لكن تلك الخطوة لن تحدث دون ترتيبات أخرى تتعلق بإسرائيل وروسيا وحتى الولايات المتحدة وقد تكون هذه المواقع جزءاً من مرحلة ثانية لاحقة، تُنفّذ فقط بعد مرحلة أولى ناجحة، تثبت فيها تركيا أن وجودها داخل سوريا يهدف إلى منع التقسيم والردع الداخلي وليس الهجوم على إسرائيل وأعتقد أن نية الولايات المتحدة بإقامة قاعدة عسكرية في دمشق هدفه منع التصعيد العسكري بين تركيا وإسرائيل بعد إنشاء القواعد العسكرية التركية وهذا مؤشر اقتراب موعد إقامة هذه القواعد.
من ناحية المناطق البحرية أعتقد أن رأس البسيط يمكن أن يمثل خياراً بحرياً منطقياً لتركيا إذا قررت في المستقبل إنشاء قاعدة بحرية على الساحل السوري، المزايا تكمن في كونه منفذاً مهماً على البحر المتوسط وقربه النسبي من خطوط الإمداد التركية عبر البحر، ما يسهل اللوجستيات والتزويد والصيانة للقوات والسفن، لذلك موقع رأس البسيط يمنح أنقرة قدرة على مراقبة مسارات الشحن البحرية والملاحة في جزء استراتيجي من الساحل السوري، بالإضافة إلى وظيفة دعم عمليات بحرية وإنهاء أي عزلة لوجستية محتملة للوحدات المنتشرة في الداخل السوري.
من الممكن أن يكون التوافق مع وجود قاعدة حميميم الروسي أقل احتكاكاً هنا مقارنةً ببعض المواقع الأخرى، لأن رأس البسيط يفتح نافذة بحرية مستقلة لا تتقاطع عملياً مع وظائف قاعدة جوية برية، ما يقلل من احتمالات الاحتكاك المباشر على الأرض وبحسب المعطيات السياسية، هذا الموقع يمكن أن يُصاغ كمنفذ لوجستي قابل للترخيص عبر اتفاقيات ثنائية مع دمشق، تُبنى على ضمانات حول نطاق العمليات ونوع السفن المسموح لها بالرسو، وبما يحفظ الحساسيات الإقليمية، لا سيما إزاء روسيا وإسرائيل.
أرى أن مفاتيح هذه المعادلة، معادلة القواعد التركية في سوريا لا تنفصل عن القيادة السورية الجديدة، فالرئيس أحمد الشرع يبدو في موقع يُمكّنه من صياغة مشروع سيادة مرحلية ذكية، دولة تستعيد جزءاً من نفوذها عبر تأطير تحركات القوى الإقليمية داخلها، بالتوازي مع إعادة بناء المؤسسة العسكرية السورية، واستعادة الأمن الداخلي في أوسع رقعة ممكنة، وهو بذلك يواجه معضلة الثنائية التقليدية بين السيادة والبراغماتية، لكنه يقدّم نموذجاً هجينياً، شراكة عسكرية خارجية لكنها تحت قرار مركزي سوري، ومواجهة للتيارات الانفصالية والداعشية دون الاعتماد على تحالفات غير مستقرة أو مُكلفة.
تركيا لا تبني قواعد عسكرية جديدة داخل سوريا فقط بهدف تحقيق مكاسب استراتيجية، بل لتثبيت توازنات داخل سوريا نفسها وبالمقابل، والحكومة السورية الجديدة ترى في هذه الخطوة فرصة لإعادة بناء السلطة على الأرض، وتقليص دور الوكلاء، واستعادة التوازن في المناطق خارج سيطرة الدولة وهذا ما يجعل التحرك التركي إن وُضِع ضمن إطار قانوني واضح جزءاً من مشروع سوريا الجديدة، لا ذريعة لتدخل مستدام.
وبنهاية الأمر ليس السؤال اليوم عمّا إذا كانت تركيا ستنشئ قواعد داخل سوريا، بل كيف وأين وتحت أي غطاء سياسي وبرأيي، الإجابة مختصرة وهي أن تركيا ستبدأ من الشمال لحماية حدودها ومنع التقسيم، ثم لو سمحت الظروف تزحف تدريجياً نحو النقاط الحساسة، فمن أنشأ قواعد عسكرية في ليبيا وقراباغ والصومال لن يهمل إنشاء القواعد في البلد الجار سوريا الجديدة .
المصدر: تلفزيون سوريا






