
أعلنت شركة غوغل عن إزالة سوريا من قائمة العقوبات الخاصة بمكتب مراقبة الأصول الأجنبية الأميركي (OFAC) ابتداءً من 13 آب 2025، مما يتيح استئناف الخدمات الإعلانية في البلاد لأول مرة بعد سنوات من الانقطاع؛ حيث يشمل القرار رفع القيود المفروضة على ثلاث منصات رئيسية وهي: “إعلانات غوغل”، و”غوغل آد إكستشينج”، و”مدير الإعلانات”، بعد أن كانت تمنع سابقاً استهداف المستخدمين السوريين أو إنشاء الحسابات من عناوين IP داخل سوريا. وسيُطلب من الناشرين والمعلنين السوريين استعادة حساباتهم عبر إجراءات تحقق يدوية تشمل تقديم وثائق رسمية، وإثبات هوية، والالتزام بشروط الخدمة المحدثة، بحسب الشركة.
وبحسب سياسة غوغل، فإن إعادة دمج سوريا في منظومتها الإعلانية يتيح الوصول إلى نحو 22 مليون نسمة، ما يمثل توسعاً كبيراً في نطاق التسويق الرقمي في البلاد. وترى الشركة أن عودة سوريا إلى المنظومة الإعلانية يتماشى مع مبادرات التحول الرقمي الأوسع في المنطقة، ويتزامن مع جهود إعادة بناء البنية التحتية وإجراءات تحقيق الاستقرار الاقتصادي، بالتوازي مع إعلان وزير الاتصالات والتقانة عبد السلام هيكل أن فريقاً من الوزارة يعمل يومياً مع ممثلين عن الحكومة الأميركية وشركات التكنولوجيا لتنفيذ إزالة سوريا من قائمة الدول المقيّدة.
بدأ حظر غوغل على سوريا استناداً إلى الأمر التنفيذي رقم 13338 الذي وقّعه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش في 2004، وتوسّع مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 ليشمل قيوداً على الخدمات المالية والتكنولوجية، وفقاً لموقع (PPC.LAND).
أثر غياب خدمات غوغل والعقوبات التقنية على الاقتصاد السوري
لقد كان غياب خدمات غوغل الإعلانية واحداً من أبرز مظاهر العقوبات التقنية التي أسهمت في تكريس عزلة السوق السورية عن الاقتصاد الرقمي العالمي. فمنذ إدراج سوريا ضمن قائمة العقوبات الأميركية، حُرمت الشركات المحلية والأفراد من الاستفادة من أدوات الإعلان الرقمي التي أصبحت العمود الفقري لاقتصاد المعرفة الحديث. وفي الوقت الذي كانت فيه أسواق الشرق الأوسط الأخرى تتوسع بسرعة في مجالات الإعلان عبر الإنترنت والتجارة الإلكترونية، بقيت سوريا أسيرة حلول بدائية ومكلفة لا تلبي حاجات السوق.
أمام هذا الواقع، لجأ رواد الأعمال السوريون إلى مسارات بديلة وملتوية، أبرزها استخدام شبكات VPN لتجاوز الحجب الجغرافي، أو الاعتماد على وسطاء مقيمين في دول أخرى لإدارة الحملات الإعلانية وتحصيل الإيرادات. كما فتح العديد من المبدعين وأصحاب المحتوى حسابات خارجية بأسماء أقارب أو شركاء في الخارج لضمان وجود قناة اتصال مع منصات غوغل. إلا أن هذه الحلول لم تكن مستدامة، إذ ترتب عليها تكاليف إضافية، مخاطر قانونية، وصعوبات في إدارة الأعمال بطرق شفافة.
انعكست هذه القيود على عدة مستويات، فالشركات الناشئة واجهت صعوبات في الوصول إلى جمهورها المحلي والعالمي، مما أضعف فرص النمو والتوسع. أما التجارة الإلكترونية فبقيت محدودة الانتشار، إذ لم تستطع الشركات الصغيرة الإعلان عن منتجاتها وخدماتها عبر القنوات العالمية. كذلك، حُرم الإعلام الرقمي من عوائد AdSense، ما قلل من استدامة مشاريع إعلامية مستقلة. كما فقد المعلنون المحليون القدرة على الاستهداف الفعّال للجمهور واضطروا للاعتماد على وسائل تقليدية أقل تأثيراً وأكثر كلفة.
تأثير عودة خدمات غوغل على الاقتصاد الكلي
يمثل رفع غوغل لسوريا من قائمة العقوبات فرصة جديدة لاقتصاد أنهكته العزلة والقيود الدولية، خصوصاً في المجال الرقمي. فالاقتصاد الكلي السوري، الذي يعتمد اليوم بشكل كبير على القطاعات التقليدية مثل الزراعة والتجارة المحلية والخدمات، يفتقر منذ سنوات إلى البنية الرقمية التي تسمح له بالاندماج مع الأسواق الإقليمية والعالمية. إعادة إدماج سوريا في منظومة الإعلان الرقمي عبر غوغل من شأنها أن تعيد فتح قنوات اقتصادية مغلقة منذ أكثر من عقد، الأمر الذي قد يخلق ديناميكية جديدة في السوق المحلية.
أحد أبرز الانعكاسات يتمثل في تنشيط قطاع الإعلان الرقمي، إذ ستتمكن الشركات السورية من الترويج لمنتجاتها وخدماتها على منصات غوغل بشكل مباشر، ما يسمح لها بالوصول إلى جمهور محلي ودولي على حد سواء. وبالنسبة لقطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة، فإن هذه الخطوة قد تمثل نافذة إنقاذ حقيقية، حيث تتيح لهم أدوات منخفضة الكلفة نسبياً للتسويق والوصول إلى المستهلكين.
كذلك، فإن رفع الحظر يحمل أهمية خاصة لقطاع العمل الحر والاقتصاد المعرفي، حيث يمكن للمستقلين السوريين استعادة حضورهم على المنصات الرقمية، والتعامل مع عملاء عالميين من خلال قنوات أكثر رسمية وشفافية. وإذا ما اقترنت هذه الخطوة بإصلاحات في مجال أنظمة الدفع الإلكتروني، فإنها قد تدخل تدفقات مالية جديدة إلى البلاد، وتزيد من ارتباط الاقتصاد السوري بالاقتصاد الرقمي الإقليمي.
مع ذلك، فإن التأثير لن يكون فورياً ولا شاملاً، فضعف البنية التحتية للاتصالات، وانخفاض معدل انتشار الإنترنت السريع، بالإضافة إلى استمرار المشكلات المرتبطة بالنظام المصرفي والعقوبات المالية، كلها عوامل ستحد من الاستفادة السريعة من هذا الانفتاح. وبالتالي، يمكن القول إن الخطوة تمثل بداية مسار طويل لإعادة إدماج سوريا في الاقتصاد الرقمي العالمي، لكنها تظل مرهونة بقدرة البلاد على معالجة التحديات التقنية والمالية والتنظيمية التي تعيق هذا الاندماج.
التأثير على الشركات المحلية ورواد الأعمال
رفع الحظر يعد خطوة مهمة ستغيّر ملامح بيئة الأعمال الرقمية. فعلى مدى سنوات، كانت هذه الشركات محرومة من أدوات أساسية للتسويق الرقمي، الأمر الذي جعل قدرتها على المنافسة ضعيفة داخل السوق المحلية، فضلاً عن استحالة الوصول إلى أسواق خارجية بطرق شرعية ومنظمة. ومع عودة خدمات غوغل الإعلانية، يتوقع أن يجد أصحاب المشاريع الصغيرة والناشئة فرصة لإعادة تعريف استراتيجياتهم التسويقية وفق معايير عالمية أكثر فاعلية وشفافية.
ستتمكن المؤسسات الصغيرة، مثل المتاجر الإلكترونية والمطاعم ومزودي الخدمات التعليمية، من استخدام إعلانات غوغل لاستهداف شرائح محددة من الجمهور، ما يرفع من كفاءتها التسويقية ويقلل من اعتمادها على الوسائل التقليدية المكلفة مثل اللافتات الطرقية أو الإعلانات الورقية. كذلك، فإن الشركات الناشئة في مجالات التكنولوجيا، والتعليم عن بعد، والخدمات المالية الرقمية، ستستعيد جزءاً من قدرتها على النمو، خصوصاً مع إمكانية دمج أدوات غوغل في عملياتها التشغيلية والتسويقية.
أما رواد الأعمال الذين عملوا سابقاً بطرق ملتوية من خلال حسابات خارجية أو وسطاء، فسيتمكنون الآن من تنظيم أعمالهم بشكل قانوني، الأمر الذي يعزز ثقة المستثمرين المحليين والإقليميين في مشاريعهم. ومع ذلك، تبقى التحديات قائمة، وعلى رأسها غياب وسائل دفع إلكترونية معترف بها عالمياً، وهو ما قد يحد من قدرة الشركات على الاستفادة الكاملة من عوائد الإعلانات أو من خدمات Google AdSense. وعليه، فإن الأثر المباشر سيكون تحفيز بيئة الأعمال الناشئة وفتح قنوات جديدة للنمو، لكن الاستفادة القصوى ستتطلب إصلاحات أوسع على مستوى البنية التحتية المالية والتشريعية لضمان استدامة هذه الفرص.
في هذا الإطار، يقول محمد الديري، رائد الأعمال الرقمي ومؤسس Greach Digital، في حديث خاص مع موقع تلفزيون سوريا: “إن عودة خدمات Google Ads إلى سوريا هي خطوة بحجم السيف؛ تفتح باباً كان مغلقاً لسنوات، لكنها في الوقت نفسه تحمل بين طياتها ما يشبه حبة السم. نعم، الفرصة هائلة للشركات السورية، للمسوقين، وللمشاريع الناشئة… لكن من لا يعرف كيف يستخدمها سيحرق ميزانيته بدل أن يبني سوقه”.
التأثير على الأفراد والمجتمع
لا يقل أثر عودة خدمات غوغل إلى سوريا أهمية على المستوى الفردي والاجتماعي عن أثرها الاقتصادي الكلي. فعلى صعيد الأفراد، يشكل القرار نافذة جديدة لفرص العمل، خصوصاً في مجالات التسويق الرقمي، وصناعة المحتوى، والخدمات التعليمية الإلكترونية. كثير من الشباب السوريين الذين كانوا يضطرون لاستخدام حسابات خارجية أو وسطاء سيتمكنون الآن من كسب الدخل عبر الإنترنت بشكل شرعي ومنظم، سواء من خلال الإعلانات على مواقعهم وقنواتهم أو عبر تقديم خدمات عبر منصات عالمية باتت أكثر سهولة في الوصول.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن رفع الحظر سيؤدي إلى تحسين الوصول إلى المعلومات والخدمات الرقمية، ويقلل تدريجياً من اعتماد المستخدمين على وسائل ملتوية مثل شبكات VPN. هذا الانفتاح سيعزز الشفافية ويدخل المستخدم السوري في دائرة الاستهلاك والإنتاج الرقمي العالمي بشكل أكثر مباشرة.
يتوقع أن يشهد المجتمع السوري تحولات ثقافية ملحوظة مع تزايد الاهتمام بالتعليم الرقمي والتسويق الإلكتروني، ما يخلق وعياً متنامياً بأهمية “الاقتصاد المعرفي” كركيزة أساسية للتنمية المستقبلية. فهذه التحولات قد تحفّز الأجيال الشابة على توجيه طاقاتها نحو الابتكار الرقمي بدلاً من الاقتصار على الوظائف التقليدية.
في هذا الإطار، يضيف الديري: “نحن أمام لحظة فارقة: من يتعلم بسرعة، يبني استراتيجيات دقيقة، ويعرف كيف يدير أدوات الإعلان باحتراف، سيتحول إلى لاعب أساسي في السوق الرقمي السوري. أما من يدخلها بعشوائية، فسيكون مجرد وقود في معركة المنافسة. فالمعادلة بسيطة: غوغل أعادت لنا الأدوات، لكن النجاح لن يكون لمن يملك المال فقط، بل لمن يعرف كيف يحوّل هذه الأداة إلى قوة تنافسية مستدامة”.
التأثير الجيو-اقتصادي والإقليمي
إن عودة سوريا إلى منظومة الإعلانات الرقمية عبر غوغل لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحولات الرقمية الكبرى في الشرق الأوسط، حيث تشهد أسواق مثل السعودية والإمارات والأردن وتركيا نمواً متسارعاً في مجالات الإعلان الرقمي والتجارة الإلكترونية.
هذا التطور يضع سوريا أمام فرصة لإعادة ربط نفسها بالاقتصاد الرقمي الإقليمي، بعد سنوات من الانقطاع والعزلة.
فعلى مستوى التعاون الإقليمي، قد تصبح السوق السورية الناشئة مجالاً لاهتمام شركات التكنولوجيا في المنطقة، خاصة تلك التي تسعى للتوسع نحو أسواق جديدة منخفضة الكلفة وقابلة للنمو؛ إذ إن وجود قاعدة سكانية كبيرة، مع بداية إعادة الانفتاح الرقمي، يجعل سوريا سوقاً محتملة للشركات المتوسطة التي تبحث عن فرص في بيئات غير مكتظة بالمنافسة مثل الخليج.
مع ذلك، فإن المشهد لم يكتمل بعد، فمواقف شركات عالمية كبرى مثل آبل ما تزال غير واضحة تجاه السوق السورية، ما قد يبقي فجوة في منظومة الدفع الرقمي والتطبيقات المتكاملة.
بشكل عام، يعتبر رفع غوغل لسوريا من قائمة العقوبات خطوة فارقة في مسار إعادة دمج الاقتصاد السوري بالاقتصاد الرقمي العالمي، إذ يفتح الباب أمام فرص واسعة للشركات والأفراد والمجتمع ككل، بدءاً من تنشيط قطاع الإعلان الرقمي، وصولاً إلى تعزيز مكانة سوريا في خارطة التحولات التكنولوجية الإقليمية. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة ليست حلاً كاملاً، بل مجرد بداية لمسار طويل ومعقد يحتاج إلى تضافر جهود الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني من أجل تحويل الفرص إلى مكاسب ملموسة ومستدامة.
وبالرغم مما يحمله رفع الحظر من فرص اقتصادية واجتماعية، فإن الطريق أمام اندماج سوريا في الاقتصاد الرقمي العالمي ما زال مليئاً بالتحديات البنيوية والسياسية. أول هذه التحديات يتمثل في البنية التحتية للإنترنت والكهرباء، حيث لا تزال نسبة انتشار الإنترنت منخفضة نسبياً، وتعاني الشبكات من بطء الخدمة في بعض المناطق، ما يحدّ من قدرة الأفراد والشركات على الاستفادة الكاملة من أدوات غوغل الإعلانية أو المشاركة في سوق الاقتصاد المعرفي.
العائق الثاني يتمثل في غياب منظومات دفع إلكترونية معتمدة عالمياً والبطاقات البنكية الدولية، ما يجعل عمليات تحويل الأموال واستلام الإيرادات معقدة ومكلفة. كما يبرز الضعف القانوني والتشريعي كعائق ثالث، إذ يفتقر الاقتصاد السوري إلى إطار قانوني واضح ينظم التجارة الإلكترونية، ويحمي الملكية الفكرية، ويشجع الاستثمارات في قطاع التكنولوجيا. ومن هنا تبرز الحاجة الملحة إلى استراتيجيات وطنية متكاملة تتضمن تحديث البنية التحتية للاتصالات، وتطوير أنظمة دفع محلية ودولية موثوقة، وسن تشريعات داعمة للاقتصاد الرقمي، وتعزيز الشراكات مع القطاع الخاص والمغتربين.
المصدر: تلفزيون سوريا