بين النفي والتأكيد.. دمشق بين الغموض والتفاهمات الأمنية مع إسرائيل

تدلُ التصريحات الرسمية المتضاربة بشأن إجراء الحكومة السورية مفاوضات مع إسرائيل على ازدواجية الخطاب السياسي في هذا الملف المليء بالغموض. كانت بداية التصريحات المتضاربة مؤخرًا، مع نفي وزارة الخارجية والمغتربين صحة الأنباء المتداولة عن قرب توقيع اتفاق أمني مع إسرائيل في أيلول/سبتمبر المقبل قبل يومين. وفي مقابل ذلك، أكد الرئيس، أحمد الشرع، خلال استقباله وفدًا إعلاميًا عربيًا، بوجود تفاهمات أمنية مع الجانب الإسرائيلي بشأن جنوب سوريا ووقف إطلاق النار، وهو ما يُعد إشارة صريحة لتقدم المسار التفاوضي.

وعلى الرغم من أن هذا التناقض في التصريحات ليس الأول من نوعه، إلا أنه يدل على وجود خطابين مزدوجين، الأول موجّه إلى الداخل السوري، في مقابل توجّيه الخطاب الثاني للأطراف الخارجية، وما بينهما يبدو أن هذه الازدواجية بدأت ترسم مسار هذه المفاوضات. كما أن إعلان الشرع ليس بجديد، إذ سبق أن أفادت وكالة “سانا” بأن وزير الخارجية والمغتربين، أسعد الشيباني، التقى بمسؤولين إسرائيليين في باريس بوساطة أميركية، مشيرة إلى أن هدف اللقاء بحث “خفض التصعيد في الجنوب السوري”.

ومن هنا، نجد أن جميع هذه الرسائل تُدار عبر وسطاء ومنابر خارجية، لا عبر مخاطبة السوريين مباشرة. وبين النفي والتسريب، يبقى السؤال معلقًا: لماذا لا تُصارح دمشق مواطنيها بما يجري؟ وإذا كان هناك بالفعل “اتفاق أمني” قيد البحث مع إسرائيل، فهل يملك السوريون ترف البقاء آخر من يعلم؟

ازدواجية الخطاب.. داخليًا وخارجيًا

في حديثنا عن إن كان الغموض الحالي الذي يلف المفاوضات امتدادًا لسياسة الغموض مع إسرائيل منذ 1974، يرى الدبلوماسي السابق، بشار الحاج علي، في حديثه لموقع “الترا سوريا” أن “ما يحدث اليوم ليس مجرد امتداد آلي لسياسة الغموض التي اعتمدتها دمشق منذ اتفاق فك الاشتباك عام 1974، بل هو شكل جديد من الغموض يخدم غاية مختلفة”. ويضيف موضحًا “السلطة الجديدة تسعى قبل كل شيء إلى تثبيت شرعية خارجية تتيح لها فتح أبواب الاعتراف الدولي، لكنها تدرك أن أي إعلان صريح عن تفاهمات مع إسرائيل سيُفجر الشارع السوري ويضعف موقعها في الداخل”، الأمر الذي يدفعها لتقديم خطاب مزدوج “نفيٌ وتجنب للتصريح أمام الشعب، ورسائل مضمونة للفاعلين الإقليميين والدوليين بأنها منخرطة فعليًا في ترتيبات أمنية جديدة”.

أما الكاتب جعفر خضور، فيرى من جهته أن الإصرار على النفي غير مرتبط بالتوصل لتفاهمات بين سوريا والكيان الإسرائيلي، بدلًا من ذلك يرى أن “نفي وجود تفاهم يعني نفيًا لأساس التفاهم”، مضيفًا أن عدم الرغبة في التصريح عن الاتفاقية الأمنية المزمع إبرامها بين الطرفين، يرجع إلى “عدم القدرة على تقديم صورة حول طبيعة وشكلية الاتفاق الأمني، الذي لم ينضج حتى اللحظة”، لافتًا إلى أن خطاب الحكومة السورية تطور بعد لقاء باريس، في إشارة إلى التأكيد على وحدة الأراضي السورية.

وتوقف خضور في حديثه عند ما أثارته التقارير بشأن تقسيم سوريا، موضحًا أن هذا الملف لن يكون مطروحًا على الطاولة، وذلك بسبب “الضغوط الأميركية”، واصفًا عدم التطرق لهذا الملف بأنه “جائزة ترضية” للحكومة السورية أولًا، بالإضافة إلى “توجيه رسائل هادئة للجنوب السوري، أو شمال شرق سوريا، لن يكون على الطاولة”، وأضاف مستدركًا “أن ذلك لا يعني أنها لن تكون كبسولة تسبب صدعًا في رأس الحلول السياسية السورية، عندما يشاهدون أن سوريا غير منفتحة على الحلول الدبلوماسية”.

كما أعاد خضور التذكّير بالتطورات السياسية التي شهدتها المنطقة خلال العام الماضي، مشيرًا إلى أن إسرائيل أصبحت “تعتبر أنها العنصر الفاعل في الملف السوري، واليد العليا في المنطقة بشكل عام”، والذي يربطه بالتطورات الإقليمية التي حصلت، بما في ذلك العدوان الإسرائيلي على غزة، بالإضافة إلى اليمن. وعلى هذا الأساس، لا يعتقد أن هناك “غموض كان يحيط مسار المفاوضات السورية الإسرائيلية، بل كان هناك تصريحات من الجانب السوري تحدد معيار طبيعة العلاقة”، منوهًا بأن “سوريا لم تنجح حتى الآن في بناء سردية إعلامية واضحة تخدم توجهاتها الدبلوماسية”.

من جانبه، يشير الباحث في مركز “جسور” للدراسات، وائل علوان، في حديثه لـ”الترا سوريا” إلى أن الحكومة السورية “تسعى إلى بناء مصداقية وشفافية عالية جدًا، سواءً أكان مع الجمهور داخل سوريا أو مع الأطراف الدولية والإقليمية”، بوصفه “أحد أهدافها الرئيسية”، والذي تعمل عليه بطريقة “مختلفة ومناقضة” لآلية عمل النظام السابق، الذي كان يعتمد “المراوغة” في سياسته الداخلية والخارجية.

وأعاد علوان التذكير بأن الحكومة السورية “نفت ما تم إعلانه من موعد ثابت لعقد اتفاق، وأن الأمر قد وصل إلى تفاهمات، في حين أنها لا تنفي نهائيًا أنها تقوم بمسار طويل من المفاوضات”، معتبرًا أن الحكومة السورية تسعى لما وصفه بـ”كسب الفرصة الكبيرة”، والتي رأى أنها تتمثل “بالوساطة والضغط الأميركي على حكومة نتنياهو”، لافتًا إلى أن “حكومة نتنياهو لا تريد أن تقدم شيئًا” في هذه المفاوضات، في محاولة للحصول على “مكتسبات مجانية بشكل انتهازي”.

يصف الكاتب والباحث في العلاقات الدولية، فراس علاوي، التصريحات المتضاربة بين الرئاسة السورية ووزارة الخارجية بأنها “تبادل في الأدوار السياسية”، وهو ما يُعطي “نوعًا من أوراق التفاوض”. كما أنه لا يرى أي “غموض” في نهج الحكومة السورية إزاء مفاوضاتها مع إسرائيل، مدللًا على ذلك بأنه “حتى الآن لا يوجد شيء رسمي”، معتبرًا أنه “من الخطأ إصدار تصريحات واضحة خلال سير المفاوضات، لأنه قد ينعكس سلبًا على الإدارة السورية”.

يتفق الكاتب الصحفي، أحمد مظهر سعدو، مع الآراء السابقة التي لا ترى أي “غموض” في التصريحات الخاصة بالمفاوضات مع إسرائيل، مذكّرًا بحديث الشرع مع الصحفيين العرب. وأضاف أن الشرع “معني بالوصول إلى تفاهمات أو اتفاقات من المرجح أن تكون تحديثًا جديدًا لاتفاق فض الاشتباك الموقع بين حافظ الأسد وإسرائيل عام 1974″، مرجحًا ذلك في ظل عدم إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام شامل ودائم مع إسرائيل.

ويضيف مستدركًا أن “إسرائيل غير جاهزة ولا مستعدة للانسحاب من الجولان المحتل منذ عام 1967، كما أنه لا يمكن للحكومة السورية أيضًا أن توقع على اتفاق ليس فيه عودة الجولان كاملًا”. كما يرجح أن تدور الاتفاقات الأمنية مع إسرائيل حول “المنطقة العازلة التي دخلتها إسرائيل بعد 8 كانون الأول/ديسمبر”، لافتًا إلى أنها “أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الوصول إليها”.

شرعية داخلية أم خارجية؟

أما بالنسبة للرسائل المزدوجة التي تبعثها بها دمشق على المستويين الداخلي والخارجي، يعتبر الحاج علي هذه الرسائل “سياسة واعية، وليست سهوًا”، موضحًا أن “الخطاب موجَّه للخارج، لأن الشرعية الخارجية بالنسبة للسلطة الجديدة أهم من الشرعية الداخلية في هذه المرحلة”، لافتًا إلى إدراك الحكومة السورية عدم قدرتها على “إقناع الداخل السوري بسهولة”.

وفي هذا السياق، يلفت علوان إلى أن الحكومة السورية “جادة في إعلانها دخول مسار المفاوضات، وأنها تلتقي مع الوفود الإسرائيلية بشكل مُعلن ورسمي”، مذكّرًا بأن الحكومة السورية نفت سابقًا، ومن ثم أكدت إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، معيدًا ذلك إلى “الشفافية وبناء الثقة”، مشيرًا إلى عدم وجود “غموض” في المفاوضات، عكس ما كان عليه النظام السابق، وهو ما يجعلها “تُعلن محدداتها في المفاوضات والهدنة الأمنية”.

الثمن داخليًا باهظ

وفيما يتعلق بانعكاسات أي اتفاق أمني محتمل على الداخل السوري، لاسيما في درعا والسويداء، يؤكد الحاج علي على عدم إمكانية “فصل هذه الخطوة عن التحولات الجارية في المنطقة”، والتي يلخصها بـ”التقارب الخليجي – الإسرائيلي، محاولات لتثبيت هدوء على الحدود السورية – الأردنية، وضغوط لإبعاد النفوذ الإيراني عن سوريا وأي خطر ممكن في الجنوب”، لافتًا إلى أن “دمشق الجديدة تحاول أن تقدّم نفسها كطرف قادر على لعب دور المسؤول في إدارة الحدود، وهذا بحد ذاته رسالة للغرب وللخليج”.

ومع ذلك، لا يستبعد الحاج علي أن يكون “الثمن داخليًا باهظًا”، مرجعًا ذلك إلى أن أي “اتفاق أمني سينعكس مباشرة على الجنوب (درعا/السويداء)، وقد يُنظر إليه محليًا كمحاولة لحقن الدماء، لكنه في الوقت نفسه قد يُفسَّر كإقرار عملي بوصاية إسرائيلية على الشريط الحدودي”.

من جانبه، يؤكد خضور أن انفتاح إسرائيل على التفاهم مع سوريا تارة، والذهاب إلى تقسيمها تارة أخرى، مرتبط بالتطورات الإقليمية، لا سيما في قطاع غزة التي “ترى أن لها اليد العليا فيها، وبالتالي تصبح قادرة على رسم صورة المستقبل السوري”، لافتًا إلى أن التقديرات الإسرائيلية تتحدث عن “التخلص من النفوذ الإيراني في سوريا”، في مقابل ظهور حليف جديد لدمشق يتمثّل في تركيا، وهو ما تنظر إليه إسرائيل على أنه “يشكل خطرًا”، وبالتالي فإن انفتاح السلطات الجديدة على إسرائيل “ليس وليد اللحظة”، مشيرًا إلى الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي أرسلتها السلطات الجديدة منذ اليوم الأول لسقوط الأسد.

وعند هذه النقطة، يشير خضور إلى “الأخطاء الاستراتيجية التي دفعت ثمنها دمشق” في سياق تعاطيها مع الأحداث الدامية التي شهدتها السويداء منتصف تموز/يوليو الماضي، حيثُ يُنظر إلى هذه التفاهمات بأنها “ترتيب أمني تم تحت حدّ السيف”، بعد التوغلات الإسرائيلية، وما رافقها من سيطرة على مسطحات مائية ونقاط استراتيجية هدفها “تثبيت أمر واقع في الجنوب السوري وبعض مناطق ريف دمشق. أما فيما يخص انعكاس الاتفاق الأمني على الجنوب السوري، لا يستبعد خضور انعكاسه على الوضع الاجتماعي، واصفًا استراتيجية إسرائيل في الجنوب السوري بأنها “استراتيجية حضن الدب”، عبر تقديم المساعدات وما إلى ذلك.

واعتبر أن من بين الرسائل التي تبعثها إسرائيل، هناك رسالة تتلخص في أنها “لن تتخلى عن فكرة إقامة كانتون درزي في جنوب سوريا، لكنها في المقابل لا تريد أن تدفع باتجاه تقسيم سوريا، قبل أن يتم تنظيم العديد من الاتفاقيات، خاصة قسد”، لافتًا إلى أن الوضع القائم في السويداء حاليًا، كانت إسرائيل تعمل عليه منذ نحو عامين، في صورة مشابهة للدروز في فلسطين المحتلة، وذلك عبر تقديم الدعم للسويداء، بهدف أن تكون “نموذجًا أكثر تطورًا للحكم الذاتي”، معيدًا التذكير بأن السويداء كانت تتمتع بحكم شبه ذاتي وفي عهد النظام السابق، لكنه كان “منضبط روسيًا”، وبالتالي فإن السويداء “سيلعب فيها العامل الأمني والاجتماعي دورًا كبيرًا”، فيما سيلعب العامل “الأمني الإقليمي” دورًا في درعا.

في حين يربط علاوي انعكاس أي اتفاق أمني على جنوب سوريا بـ”مسار بدء المفاوضات ومدة الاتفاقيات”، معربًا عن اعتقاده بأن يكون هناك ما يشبه “المنطقة العازلة من دون سلاح في الجنوب”، ما سيؤدي إلى “استقرار من خلال تطوير اتفاق 1974”

التركّيز على “كسب مفاتيح الاعتراف

وعلى مستوى التفاهمات الأمنية، إلى جانب ارتباطها بالتطورات الإقليمية، فضلًا عمّا يعنيه توجيه التصريحات العلنية إلى الإعلام الخليجي في مقابل استبعاد الرأي العام السوري، يرى الحاج علي أن الحكومة السورية “تُركَّز على كسب دعم الإعلام الخليجي والفاعلين الإقليميين الذين يملكون مفاتيح الاعتراف”، لكنه يحذّر في المقابل من أن “هذه الازدواجية ستُعمّق أزمة الثقة مع السوريين، الذين اعتادوا على مفارقة بين الخطاب والواقع، ومع مرور الوقت، يصبح أي رصيد خارجي بلا قيمة إذا لم يقترن بشرعية داخلية حقيقية”، مشيرًا إلى أن “السلطة تراهن على الخارج، لكنها تغامر بأن تخسر الداخل نهائيًا”.

وفي السياق، نوّه خضور في حديثه بالبيان الصادر عن الخارجية والمغتربين الذي أدان التوغل الإسرائيلي في منطقة بيت جن، مشيرًا إلى أن لا يمكن قراءته “إلا على أنه تلميح ضمني لاقتراب نضوج التفاهم الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي”، مؤكدًا أن “الوضع في الجنوب السوري لا يقل خطورة عمّا حدث في بيت جن، بل هو أكثر خطورة”، وعلى هذا الأساس يقرأ البيان بأنه رسالة تشير إلى “خروج” إسرائيل عن “التفاهم الأمني الذي ينضج”، وهو ما يستوجب “إدانة للقفز فوق سطور التفاهم المرتقب”، لافتًا إلى ضرورة أن يكون ملف المعتقلين السوريين “رغم حساسيته” على الطاولة.

وفي المقابل، يعتقد علوان أن الولايات المتحدة “اقتنعت من الحلفاء الإقليميين، وخاصة السعودية، أن الوقت غير مناسب للذهاب إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، لا سيما مع تعنت الجانب الإسرائيلي بالانسحاب من الأراضي السورية” التي احتلها بعد 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، بالإضافة إلى رفض مناقشة الانسحاب من الجولان. خاتمًا حديثه بالإشارة إلى محاولة دمشق الاستفادة “من السعودية وتركيا لكسب موقف أميركي يستطيع كبح جماح إسرائيل، ويُعيدها إلى اتفاق مستدام، على أساس اتفاق 1974”.

بينما يذهب علاوي إلى اعتبار المفاوضات “جزءًا من إعادة ترتيب العلاقات الإقليمية الجديدة التي تنشأ الآن بدعم خليجي وتركي”. وعلى هذا الأساس، يشير إلى أن الانفتاح السوري على إسرائيل، يُعد جزء من “إعادة رسم خارطة التوافقات الإقليمية في المنطقة”، المرتبط بالاستراتيجية الأميركية – الخليجية التي تهدف إلى “الاستقرار في سوريا أو في المنطقة بشكل كامل، أو حتى الذهاب إلى حروب مفتوحة في المنطقة”.

المصدر: ألترا سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى