
تردّدت أخيراً أحاديث إعلامية وتخمينات عن احتمالات دخول السلطة في مصر في مسار حوار ومصالحة مع المعارضة، وبشكل خاص جماعة الإخوان المسلمين. وقد تجدّد هذا النقاش بعدما نشرت صحيفة الشرق الأوسط قبل أيام تصريحات عن قيادات سياسية مصرية معارضة في تركيا تشير إلى أن الأجواء مناسبة وملحّة للمضي في هذه الخطوة، وعبّرت عن استعداد القيادات الإخوانية في الخارج لهذا الحوار مع الدولة المصرية. تناولت التصريحات أهمية بناء تحالف سنّي لمواجهة المخاطر الإقليمية والأمنية في المنطقة العربية، وأن مثل هذا التحالف يتطلّب مصالحة مع جماعة الإخوان المسلمين، التيار الأهم داخل الحركات الإسلامية. وفي تطور لافت لا يخلو من دلالات سياسية، أدخلت الصحيفة تعديلاً على التقرير، ينفي وجود اهتمام رسمي أو شعبي في مصر بأي مصالحة مع “الإخوان”. وجاءت هذه التصريحات الإعلامية بالتزامن مع زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي المهمّة والسريعة إلى السعودية والتقى فيها ولي العهد محمّد بن سلمان. في الوقت نفسه، صدر عن جماعة الإخوان المسلمين (جناح صلاح عبد الحق) بيانٌ إعلامي يشدّد على نهجها السياسي السلمي والمعتدل، ويعبّر عن حرصها على استقرار الدولة المصرية، ويجدّد الاستعداد للحوار. وقد حدّد في البيان مطالب سياسية إصلاحية لبناء الثقة وتخطي الاحتقان الداخلي في البلاد. ورغم هذه التلميحات والنيات، تبقى مسألة المصالحة والحوار الواسع بين السلطة والمعارضة تعبيراً عن رغبة سياسية ليس أكثر في واقع سياسي يفتقد محفّزات دخول السلطة المصرية في هذا المسار من الأساس، وأيضاً إخفاق القطاع الأكبر من المعارضة المصرية في الخارج، وهي جماعة الإخوان المسلمين بفصائلها، في إظهار وجه سياسي وفكري جديد يحقّق مشروعية ومقبولية سياسية شعبية ودولية لإجراء مثل هذه المصالحة.
تشير حسابات العقل إلى أن الوقت بالفعل بات ملحّاً في مصر داخلياً وخارجياً لإطلاق حوار ومصالحة شامله مع كل أطياف المعارضة المصرية في الداخل والخارج، وتحقيق وئام وسلام مدني تتطلبه مصر لمواجهة الواقع الاقتصادي والاجتماعي المروّع، ومواجهة التحديات السياسية الإقليمية غير المسبوقة في ظل التصعيد العسكري الإسرائيلي، وتداعيات الحرب الإيرانية الإسرائيلية أخيراً. ويكفي مرور 12 عاماً من القمع والإقصاء والنزيف المجتمعي الذي أضعف قدرات الاقتصاد والدور السياسي الخارجي والدولي لمصر. لكن من المهم، في هذا السياق، فهم الحوافز التي قد تدفع السلطة المصرية في السياق السياسي الراهن للدخول في عملية مصالحة حقيقية مع المعارضة. لن تمثل الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وحدها هذا الحافز من دون وجود تعبئة سياسية منظّمة داخلياً وخارجياً تبني على الواقع الاقتصادي المأزم للضغط على السلطة المصرية. لكن ما جرى منذ إطلاق ما عرف بالحوار الوطني هو عكس ذلك، فقد نجحت السلطة في تقسيم المعارضة في الداخل والخارج بمثل هذه المبادرات الخاوية، ثم شاركت بعض من قياداتها في الداخل في انتخابات رئاسية هزلية، ثم انتخابات برلمانية عديمة الفائدة تجري حالياً فقط لتأمين مقاعد برلمانية هامشية بمنطق المصلحة الضيقة من دون توفر ضمانات سياسية لتغيير النهج الاستبدادي والأمني المهيمن على المجال العام في مصر.
نجحت السلطة في تقسيم المعارضة في الداخل والخارج بمبادرات خاوية
وقد يمثل وجود تيار إصلاحي عاقل داخل مؤسّسات الدولة، خصوصاً المؤسّسات السيادية، حافزاً للحوار والمصالحة. لكن الواضح في مصر أن هذا التيار إما لا وجود له أو أنه يعاني من ضعف وتهميش كبيريْن، وكل خطوه يعتزم القيام بها تُقابَل بخطواتٍ أكثر غلاظة لإفشاله، وهو ما يظهر في استمرار الإجراءات الأمنية التعسّفية ضد السياسيين والنشطاء والإعلاميين، بمن فيهم بعضٌ من المحسوبين على نظام الحكم، فضلاً عن الفشل في التعامل الجادّ مع ملفّ سجناء الرأي والسجناء السياسيين، خصوصاً من قيادات التيار الإسلامي. وتستمر الدعاية الإعلامية الحادّة ضد المعارضين، والتصريحات التحريضية والعنيفة لمسؤولين في الدولة، منهم وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، ضد تظاهرات النشطاء المصريين في الخارج أمام السفارات المصرية من أجل دعم غزة. في هذا السياق، قال مسؤولون مصريون في النسخة المعدّلة من التقرير الذي نشر في صحيفة الشرق الأوسط إن “الحوار مع الإخوان مرفوضٌ سياسياً وشعبياً”، واصفين مواقف الجماعة “بالعدائية ضد الحكومة المصرية”. ويبقى العامل الخارجي، وهو الأهم في السياق السياسي المصري، نظراً إلى اعتماد الدولة علي مصادر الدعم الإقليمي والدولي. ومع تراجع الأدوار الأوروبية والأميركية في دعم التغيير السياسي في مصر، يمثل دور الأطراف الإقليمية العامل الأكثر تأثيراً حالياً في المشهد الداخلي المصري، حيث تشكّل هذه الأطراف صمّام أمان للاستقرارين السياسي والاقتصادي في مصر. في هذا السياق، هناك حديث يتردّد عما إذا كان هناك توتّر أو فجوة تتسع في العلاقات المصرية السعودية، واحتمالات أن يصبّ هذا التوتر في اتجاه حدوث انفتاح ما بين الدولة والمعارضة في مصر. لكن هذا السيناريو غير مؤكّد، خصوصاً أن أولويات الأطراف الإقليمية لا تلتقي بالضرورة مع أولويات الحركة السياسية أو الحقوقية المصرية.
أولويات الأطراف الإقليمية لا تلتقي بالضرورة مع أولويات الحركة السياسية أو الحقوقية المصرية
رغم وجاهة طرح فكرة المصالحة بين الدولة والمعارضة المصرية بأطيافها كافة، بما فيها الإخوان المسلمون، في ظل التحدّيات الداخلية والدولية الحالية، إلا أن هذه الفكرة تظل مجرّد تعبير عن رغبة ونيات حسنة، في واقع سياسي يفتقد الحوافز التي تجبر دخول الأطراف، خصوصاً السلطة الحاكمة في مصر، هذا المسار، وتقديم تنازلاتٍ جادّة تغيّر من المشهد السياسي الجامد الراهن في مصر.
المصدر: العربي الجديد