أزمة كوبا بنسخة كوريا شمالية

جيرار ديب

قال مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن إن كوريا الشمالية تمتلك قاعدة عسكرية سرّية شديدة التحصين بالقرب من قرية سينبونغ دونغ لي على بعد نحو 17 ميلاً من الحدود الصينية. ونقلت صحيفة وول ستريت جورنال عن مصادر قولها إن كوريا الشمالية أقامت قاعدة عسكرية سرّية قرب حدودها مع الصين، يُعتقد أنها تستخدمها لتخزين صواريخ باليستية بعيدة المدى وقادرة على حمل رؤوس نووية. وتشكّل هذه الصواريخ تهديداً نوويّاً لشرق آسيا والقارّة الأميركية، الأمر الذي يحتاج إلى تطويق الأزمة.

يذكّر تقرير للصحيفة الأميركية بتقارير نقلتها وكالة الاستخبارات الأميركية، وهزّت فيها إدارة الرئيس الأميركي، جون كينيدي، يومها في 14 أكتوبر/ تشرين الثاني 1962، على وقع معلومة استخباراتية من طائرة تجسّس تفيد بوجود منصّات إطلاق صواريخ سوفييتية في جزيرة كوبا. وبعد يومين من الأزمة، اشتعلت أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، كادت تدخل العالم في حرب نووية، إثر هذا الاكتشاف للصواريخ التي جرى نشرها سرّاً على الأراضي الكورية، وتفصلها مسافة 90 ميلاً بحريّاً عن سواحل فلوريدا.

قد تتشابه التقارير العسكرية وظروف الأحداث، خصوصاً أن النهج الذي تعتمده الإدارة الأميركية في سياساتها الخارجية، لم يزل “هو هو” منذ الحرب الباردة عندما كان العالم يشهد انقساماً عاموديّاً بين معسكرين: غربي بقيادة الولايات المتحدة، وشرقي بقيادة سوفييتية. ولأن واشنطن تحتاج تجديد هيمنتها على العالم تجدها تسعى إلى إعادة ترتيب النظام العالمي القائم بما يتناسب مع مصالحها، لكنّ ما يختلف، منذ حقبة الحرب الباردة، أنّ عدو أميركا لم يعد محوريّاً، بل تنوّع وتوزّع على مساحة الكرة الأرضية.

عدو أميركا لم يعد محوريّاً، بل تنوّع وتوزّع على مساحة الكرة الأرضية

ارتكز النهج الأميركي على إيجاد “بعبع” يستطيع من خلال إعلامه تصويره خطراً يهدد الوجود، ليس الأميركي وحسب، بل العالم أيضاً. لهذا دأبت واشنطن منذ صعودها على المسرح الدولي إلى اعتماد هذا السيناريو الذي يجعل من تدخّلاتها في شؤون الدول أمراً ضرورياً. إذ نجحت في ذلك مع البعبع السوفييتي ومع الجماعات الإسلامية المتطرّفة في مقدمتها القاعدة، ولكن، هل سينجح هذا السيناريو في عالم تشظّت قواه الصاعدة، منها كوريا الشمالية؟

تشكل كوريا الشمالية اليوم قطباً منافساً للهيمنة الأميركية في منطقة شرق آسيا، ولكن الخطر التي تحدثه، بحسب مركز الدراسات الاستراتيجية، لا يتعلق فقط بأمن حلفاء واشنطن في هذه الرقعة الجغرافية، تحديداً كوريا الجنوبية، بل هو خطر صواريخها بعيدة المدى التي تطاول العمق الأميركي، وهي قادرةٌ على حمل رؤوس نووية تدميرية.

لا يشبه خطر صواريخ كوريا الشمالية خطر صواريخ كوبا من جهة أخذ القرار بإطلاقها، فهذا ما يثير التخوّف الأميركي، لأنّه مرتبط بردّة فعل الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، الذي قال إن بلاده بحاجة إلى توسيع ترسانتها من الأسلحة النووية، معتبراً أن المناورات العسكرية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية قد تؤدي إلى إشعال حرب في المنطقة.

وقال الزعيم الكوري، في 21 أغسطس/ آب الجاري، في أثناء تفقده السفينة الحربية “تشيه هيون”، إن “البيئة الأمنية حول كوريا الشمالية تزداد خطورة، وتتطلّب إجراء تغيير جذري وسريع في النظرية والممارسة العسكرية القائمة، وتوسيعاً سريعاً للقدرات النووية”.

في الشكل، تتشابه التقارير التي تضمّنت اكتشاف واشنطن منصّات صاروخية سرّية، قادرة على إصابة العمق الأميركية، وعلى حملها رؤوساً نووية. ولكن المضمون يختلف، حيث تعود الصواريخ في كوبا إلى الاتحاد السوفييتي التي نشرها سرّاً في تحدٍّ واضح من الزعيم الروسي نيكيتا خروتشوف، بعد أحداث متسلسلة متصاعدة مع الأميركي، في ظل حربٍ باردةٍ بين البلدين. وكانت معالجة هذه الأزمة عبر القرار التكتيكي للولايات الأميركية بسحب صواريخها من تركيا، مقابل أن تسحب موسكو صواريخها من كوبا.

احتمال دخول العالم حرباً عالمية بات وارداً في ظلّ إصرار أميركي على تطويع الدول

اختلف المسرح السياسي والعسكري الدولي بين أزمة كوبا وكوريا الشمالية، ففي الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفييتي يعتبر قطباً محورياً للدول التي تنطوي تحت العقيدة الشيوعية، والتي تطبّق النظام الاقتصادي اللينيني الستاليني. إذ كانت كوبا بقيادة فيدل كاسترو تشكل عضواً في المعسكر الشرقي، وجرى نشر الصواريخ ضمن ما يُعرف بـ”عملية أنادير”، أتت ردّة فعل سوفييتية بعدما نشرت واشنطن صواريخها داخل تركيا. فالصواريخ ليست كوبية الصنع ولا قرار إطلاقها مرتبط بـ”هافانا”، على عكس صواريخ كوريا الشمالية، حيث قرار التصنيع بيد الزعيم الكوري.

إشكالات معقّدة تواجه الحضور والدور الأميركيين في العالم اليوم، لا سيما أنه ليس هناك من قطب واحد جاذب، فهناك تحالفات تحت مبدأ “الضرورة” بين دولٍ لا تتشابه لا في العقيدة ولا في الأنظمة، بل في الهدف، وهو ما أطلقه التحالف الروسي الصيني، ووافق عليه كل من يدور في فلكهما، “إزاحة أميركا دولة مهيمنة على النظام العالمي”. وهذا ما يعقّد المشهدية الدولية، ويجعلها تشهد على حروب إقليمية، منها ما هي قابلة للسيطرة عليها، كما حصل في الاتفاق بين باكو ويريفان برعاية أميركية، ومنها، رغم التهدئة، ما تزال ترزح تحت نيران الحرب، كما حصل في الاتفاق بين نيودلهي وإسلام أباد برعاية أميركية، إلّا أنّ العودة إلى الحرب واردة في أي لحظة. ومن الحروب التي على ما يبدو أن طريق السلام فيها طويل كالحرب الأوكرانية أو الحرب في الشرق الأوسط.

استطاع ترامب أن يطفئ ست حروب في ستة أشهر من ولايته كما زعم، ولكنّ الاستمرار في النهج الاستفزازي لسياسات بلاده الخارجية قد يشعل حروباً جديدة تأخذ العالم إلى حربٍ كبرى. فقرار الزعيم الكوري الشمالي تسريع زيادة الترسانة النووية لبلاده جرى أخذه بعدما قرأ في المناورات العسكرية بين الجارة سيول والجيش الأميركي تهديداً جدّياً لأمن بلاده القومي، وهذا ما يضع المنطقة والعالم على شفير حربٍ نووية، فأي تراجع أميركي سيعتبر هزيمة، والاستمرار في المناورات ستعتبره كوريا الشمالية بمثابة إعلان حرب. احتمال دخول العالم حرباً عالمية بات وارداً في ظلّ إصرار أميركي على تطويع الدول، والحرب الاقتصادية التي افتتحها نموذجاً، مقابل دول لن تتراجع عن صعودها.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى