أحجية حضور بوتين اللقاء مع زيلينسكي

بسام مقداد

مفاجآت كثيرة حملتها زيارة زيلينسكي إلى البيت الأبيض، برفقة رئيسة المفوضية الأوروبية وأمين عام حلف الناتو وعدد من كبار القادة الأوروبيين. ومن مفاجآت اللقاء الكبيرة، كان الجو الودي الحار الذي خلقه ترامب في اللقاء مع زيلينسكي والقادة الأوروبيين. فلم يتخطَ إطراؤه وثناؤه أياً من المشاركين في القمة، الذين كان يذكر كلاً منهم بالإسم ويُتبعه بمديح شخصي، ما أثار دهشة الجميع التي تستروا عليها بابتسامات عريضة. لكن جورجا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا، لم تتمكن من كتم دهشتها وتمويهها بابتسامة، بل فجرتها بقهقة ملأت فناء البيت الأبيض.

لكن استقبال ترامب الحار للمشاركين لم يتمكن من محو مشاهد الاشتباك الكلامي الصاخب بين زيلينسكي وكل من ترامب ونائبه في المكتب البيضاوي آخر شباط/فبراير المنصرم. وليس سراً أن ذكريات ذلك اللقاء قد شكلت أحد أسباب، وليس أهمها بالطبع، اندفاعة القادة الأوروبيين لمرافقة زيلينسكي في لقائه مع ترامب، ليس لحمايته من تكرار المشهد، وهو الذي يخوض الحرب منذ سنوات. فقد مد القادة الأوروبيون يد المساعدة لزيلينسكي ليتخطى مرارة ذلك اللقاء، حرصاً على نجاح اللقاء المفصلي مع ترامب، إثر قمته مع بوتين وما أسفرت عنه من نتائج دمرت جهود أكثر من ثلاث سنوات لعزله عن العالم. وقد بادر رئيس الوزراء البريطاني إلى نصح زيلينسكي بالتغيير قليلاً في مظهره الخارجي وارتداء جاكيت، وكذلك الإكثار من كلمة “شكراً” في الحديث مع ترامب. وبالفعل فعلت فعلها نصائح الزعيم البريطاني التي عمل بموجبها زيلينسكي، وردد كلمة “شكراً” 16 مرة في حديثه مع ترامب، الذي أثنى مع نائبه على مظهره الخارجي، ونجا اللقاء من فشل شباط/فبراير.

وفي اليوم الذي سبق القمة، ذكرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أن زيلينسكي طلب منها الانضمام إلى “ائتلاف الراغبين” من القادة الأوروبيين الذين سيرافقونه إلى واشنطن، حسب موقع reforme.news البيلوروسي في 17 الجاري.

من السذاجة الافتراض بأن زيلينسكي كان يسعى لحشد أكبر عدد من قادة أوروبا لمرافقته إلى واشنطن، بسبب الخشية من تكرار مشهد لقاء شباط/فبراير المنصرم، بل كان يسعى مع القادة الأوروبيين إلى إقناع ترامب بثبات موقف أوروبا، وإصرارها على الوقوف إلى جانب أوكرانيا، واقتناعها بضرورة مواصلة دعمها بوجه غزو بوتين الذي استضافه ترامب في قمة آلاسكا.

وقد نجح زيلينسكي والقادة الأوروبيون والأمين العالم لحلف الناتو في إقناع ترامب بالمشاركة الأميركية الأهم في توفير الضمانت الأمنية لأوكرانيا، بوجه التراجع الروسي المحتمل عن أي اتفاقية وقف إطلاق النار، المؤقت أو الدائم، بعد أن كان ترامب يرفض مجرد الحديث عن هذه الضمانات. والنجاح الآخر للقمة الذي حققه زيلينسكي والقادة الأوروبيون تمثل في الإقرار بضرورة عقد قمة ثنائية بين بوتين وزيلينسكي، تتبعها قمة ثلاثية تضم ترامب.

وعلى الرغم من أن بوتين سبق أن أعلن قبل قمة آلاسكا عدم رفضه فكرة اللقاء الثنائي مع زيلينيسكي، حسب موقع vesty الإسرائيلي الناطق بالروسية في 7 الجاري ، وعاد وأبدى موافقته هذه في الاتصال الذي أجراه معه ترامب على هامش قمة واشنطن، يبقى موقفه الفعلي من هذا اللقاء أحجية غامضة.

موقع الخدمة الروسية في دويتشه فيله الألمانية DW عنون في 19 الجاري أحد نصوصه عن قمة واشنطن بالقول: “هل حقاً سيلتقي بوتين وزيلينسكي؟”. الخبير الألماني الأول اذي تحدث إليه الموقع رأى أن قمة واشنطن لم تقرب الطرفين الروسي والأوكراني خطوة واحدة من اتفاقية السلام، وذلك لأن لا مصلحة للرئيس الروسي بالسلام، ويواصل الحرب بكل شراستها. الخبير الثاني كرر رأي الأول. أما الخبير الألماني الثالث فقد شكك في أن بوتين سيلتقي فعلاً مع زيلينسكي، إذ أنه يردد دائماً بأن زيلينسكي ليس رئيساً شرعياً لأوكرانيا.

طرحت “المدن” عدة اسئلة بشأن قمة واشنطن على خبيرين أوكرانيين في الشؤون الدولية.

رئيس المركز الأوكراني للبحوث السياسية فلاديمير فيسينكو Vladimir Fesenko، قال إنه يقيّم نتائج زيارة زيلينسكي لواشنطن تقييماً إيجابياً، ولعدة أسباب. أولاً، أصبح من الممكن بعد الزيارة، تحييد مخاطر التنازلات أحادية الجانب وغير المقبولة بالنسبة لأوكرانيا في عملية مفاوضات السلام. ثانياً، أمكن خلال المفاوضات في واشنطن، تجنب الإشكالات والصراعات في التواصل مع ترامب، والتي كان الكثيرون يخشونها بشدة. ثالثاً، بدأ العمل على تحديد الضمانات الأمنية لأوكرانيا. فبعد الإشكال المعروف مع زيلينسكي، كانت الولايات المتحدة ترفض رفضاً قاطعاً البحث في الضمانات الأمنية لأوكرانيا. ويصف التقدم الذي تم إحرازه في قضية الضمانات الأمنية بأنه تقدم كبير.

وعما إذا كانت أوكرانيا مستعدة للتخلي عن الجزء غير المحتل من منطقة الدونباس مقابل هدنة مؤقتة ترفضها روسيا، رفض الخبير رفضاً قاطعاً احتمال قبول أوكرانيا بذلك، خصوصاً أن روسيا ترفض البحث في هدنة مؤقتة. وحتى لو تم اقتراح ذلك مقابل وقف لإطلاق النار، فمثل هذا السيناريو غير مقبول بالنسبة لأوكرانيا.

وعما إذا كان زيلينسكي قد طرح على ترامب فكرة إجراء استفتاء للأوكران حول كل مطلب من مطالب روسيا التي ترفضها أوكرانيا، وذلك لدحض ما يكرره بوتين عن لا شرعية تمثيل زيلينسكي للأوكران، نفى الخبير نفياً قاطعاً مثل هذا الاحتمال، وقال إن ترامب ومعظم شركاء روسيا لا يشككون بشرعية زيلينسكي.

وعن اقتراح بوتين عقد اللقاء في موسكو، يصفه الخبير بالفخ الذي يهدف إلى خلق وضع نزاعي في عملية التفاوض، ومن ثم اتهام اوكرانيا بإفشال المفاوضات، أو أنها طريقة لإطالة أمد المفاوضات.

رئيس “المركز الأوكراني للتحليل السياسي” أوليغ ليسني Oleg Lisny يعتبر أن لقاء ترامب زيلينسكي هو جزء من العملية التفاوضية الجديدة التي بدأت في آلاسكا. وهذه العملية تفترض مشاركة شخصية محتملة للرئيس الروسي بشكل أو بآخر. وهو يقوّم إيجابياً لقاء الرئيسين، وأهم نتائجه برأيه: الضمانات الأمنية المقبلة لأوكرانيا.

وعن التخلي لروسيا عن أراض أوكرانية غير محتلة مقابل هدنة مؤقتة، يقول الخبير بأن أوكرانيا لا تزال تعتبر ان وقف إطلاق النار الشامل، هو أحد الشروط الضرورية لبدء حوار بناء مع موسكو بشأن آليات وقف الحرب. لكن في الوقت عينه، ترفض أوكرانيا رفضاً قاطعا أن تدفع لروسيا مقابل موافقتها على هدنة مؤقتة ثمناً من أراضيها التي تعجز عسكرياً عن احتلالها منذ 12 عاماً. وهذا الموقف لا يستند فقط إلى أحكام الدستور، بل وإلى عدم رغبة معظم الأوكران دفع مثل هذا الثمن الباهظ مقابل إمكانية بدء المفاوضات مع روسيا.

وعما يكرره بوتين عن عدم شرعية زيلينسكي واضطراره لطرح فكرة الاستفتاء العام على ترامب، يقول الخبير إن زيلينسكي رئيس شرعي لأوكرانيا، ولا أحد يشكك بشرعيته سوى بوتين. والأخير يطرح الكثير من المطالب ليس لإحلال السلام، بل لكسب الوقت من أجل إحراز المزيد من المكاسب على الجبهة، من دون التعرض لضغوط العقوبات من جانب الولايات المتحدة.

وعن اقتراح بوتين عقد اللقاء في موسكو، يقول الخبير إن زيلينسكي مستعد للقاء بوتين لأنه يريد نهاية حقيقية للحرب. ووفقًا للمنطق البسيط، ينبغي إجراء المفاوضات في بلد محايد يناسب الطرفين. أما الاجتماع في موسكو فهو مستحيل، فهل كان بوتين ليوافق على إجراء مفاوضات في كييف؟

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى