
يحدُث أن تُسأل عما إذا شهد تاريخ العرب مرحلةً أكثر بؤساً وانحطاطاً مما هو عليه راهنُهم الماثل قدّام الجميع. لكنك لستَ مؤرّخاً، وليس في مقدورك الحسم في مسألةٍ تتعلق بمسار الأمة في قديمها وجديدها، غير أنك تستطيع أن ترجّح أن العُري العربي الفادح في الزمن الذي نعيش غيرُ مسبوقٍ منذ الاستقلالات بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، فأنّ قناصل فرنسا وبريطانيا كانوا، قبل مائة عام وأزيد قليلاً، من يرسّمون حدود كيانات دولٍ عربيةٍ راهنة، إبّان الاستعمار والانتداب والحماية، حالٌ تستدعيه إلى بالك، وأنت تنظُر في سحنة المبعوث الأميركي توم برّاك، وهو يُطنب في الغزل بالرئيس السوري أحمد الشرع، ويحدّث اللبنانيين الذين يطالبون بوقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على بلدهم إن الولايات المتحدة ليس في وسعها أن تطلب هذا من حكومة تل أبيب، لكنه يحرص على تظهير تباسُطه مع المسؤولين في بيروت، وهو يطالبهم بالتجاوب مع خططه لنزع سلاح حزب الله، بكيفيّة أميركية إسرائيلية محضة. وذلك زميلُه ستيف ويتكوف يقرّر من عنديّاته خططاً لغزّة التي يدخُلها، معزّزاً بحراساتٍ مهولة، ليعلن إن لا مجاعة هناك، ويبرّئ جيش الاحتلال من الوحشيّة في المذبحة اليومية التي يقترفها. وأهل غزّة متروكون، في حرب الإبادة والتجويع، لمصائر لا شأن بها لمن يسمّون أنفسهم شرعية فلسطينية، ولا لأي دولةٍ عربية، ولو توصَف إقليميةً كبرى.
إذ تُضاعف نكبة غزّة مشهد الفضيحة العربية خزياً وانكشافاً، فإنها الشاهد الأكثر دلالةً على أن الذي تعبُر فيه الأمة حالياً أشدُّ من كل سابقاته، فأن تُهزَم جيوشٌ عربيةٌ في حربٍ وقعت في 1967 كان حدثاً ثقيل الوطأة، إلا أنه لم يكن مستبعداً بالنظر إلى مقدّمات ووقائع وأحوال عربية معلومة، أما أن تستفرِد إسرائيل بجزءٍ من الشعب الفلسطيني لإبادته، بالتجويع والقصف والفتك يوميّاً، وبالتهديم والتدمير، وبقتل كل شروط الحياة الآدمية، ولا تملك الأمة سوى التضامن والتبرّع بأغذيةٍ تصل أو لا تصل، فذلك، لعمْري، غير مسبوق، في نمطِه، وفي حدّة شناعته على مستوى ما يُحدِثه من ارتجاجٍ في الوعي العام، ومن اهتزازٍ في مفاهيم الأمة والعروبة والإنسانية، أثقلُ كثيراً مما فعلته هزيمة حزيران، على الرغم مما صنعْته هذه من جرحٍ عميق في الوجدان العام… لم يكن متصوّراً، ولا متخيّلاً، في أشدّ الكوابيس قتامة، أن يُشاهَد فلسطينيون يُجوّعون إلى حد الموت، وتتفرّج الأمة عليهم، ولا تملك من أمرها شيئاً لتحريرهم.
ترتهن إدارات دول عربية غير قليلة لإرادة الأجنبي، الأميركي والأوروبي، في غير ملفٍّ وشأن. وتسحب مشيخة الأزهر بياناً أصدرته يستصرخ العالم من أجل إنقاذ الغزّيين، ثم تبرّر فعلها هذا بما هو كاريكاتيري مُحزن. وتُبقى دولٌ عربيةٌ على علاقاتٍ عاديةٍ وعلى سفارات متبادلة مع دولة الاحتلال التي تقرّر حكومتها تمويت أهل غزّة، وتحويلهم إلى جموعٍ من الجوعى يتسوّلون طعاماً، ويُقتل منهم من يُقتل. ليس من حدٍّ أدنى لقرارٍ عربيٍّ على شيءٍ من المروءة (دعك من الشجاعة)، يقول للأميركي الآن وليس غداً وقتُ وقف المذبحة. لكنهم لم يفعلوا شيئاً من هذا في غضون كل الاعتداءات والاستباحات على لبنان، قبل صيف 1982 وما بعده. ليس من قدرةٍ لدى النظام العربي على أن يكون واحداً موحّداً في مواجهةٍ حقيقيةٍ، ميدانيةٍ وسياسيةٍ وعملية، ضد العدو الإسرائيلي الذي يراه من يراه، محقّاً على الأرجح، مُفاجأً بكل هذا الهوان العربي العريض، وبكل هذا الترخيص له بأن يفعل ما يريد من تمويتٍ في الغزّيين، وبأن ترتضي دولٌ عربيةٌ لنفسها أن يُجاز لها أن تُصبح كما منظمّات إغاثةٍ وحسب.
لنُشهِر اليأس، ولا شيء غيره نملكه، نحن الشعوب العربية، فلم يعُد الإحباط كافياً، بعد أن استهلكنا ما فينا من غضب. لنُشهره أقصى ما فينا من طاقةٍ نبذلها في هذه اللحظة العربية، المريعة في ابتذالها، وفي ركاكتها. أما إذا عنّ لنتنياهو، وأصحابُه في واشنطن، وقفٌ للمذبحة أياماً أو أسابيع أو شهوراً، فلنا أن نرتاح من عبء اليأس، بعض الوقت، لنستأنفه في ملمّاتٍ ونوائب أخرى في غزّة وغيرها، فالمتوقّع ركضٌ عربيٌّ أسرع إلى قيعانٍ أعمق وأعمق.
المصدر: العربي الجديد







لماذا هذا الوهن بموقف الأنظمة العربية تجاه ما يجري بغزة؟ هل شهد تاريخ العرب مرحلةً أكثر بؤساً وانحطاطاً مما هم عليه راهنُهم؟ إن العُري العربي الفادح في هذا الزمن غيرُ مسبوقٍ منذ الاستقلالات بدءاً من خمسينيات القرن الماضي، إدارات دول عربية غير قليلة لإرادة الأجنبي، الأميركي والأوروبي، هل إشهِار اليأس من الشعوب العربيةيكفي؟ لأن الإحباط يعُد كافياً، بعد استهلاكها كل الغضب.