
في ريف إدلب، لم يكتفِ نظام الأسد بقتل البشر وتهديم الحجر، بل استهدف كل ما على الأرض من حياة، فقلع الأشجار، واقتلع جذور الحياة نفسها، مئات الدونمات من أشجار الزيتون والتين، باتت اليوم أرضًا قاحلة تئنّ من الخراب، بعدما استبيحت باسم “التعفيش” والحقد والانتقام.
لطالما كانت أشجار الزيتون هي مرآة الريف السوري، عنوان الصمود ورمز الانتماء، في إدلب وحدها، كانت كروم الزيتون تغطي آلاف الهكتارات، وتنتج سنويًا آلاف الأطنان من الزيت عالي الجودة، الذي طالما صدّرته سوريا إلى الخارج، ولم تكن تلك الأشجار مجرد مصدر رزق، بل كانت إرثًا زراعيًا وعاطفيًا، تمتد جذوره في وجدان السوريين كما في ترابهم، كل شجرة زرعها أبٌ ليورثها لابنه، وكل قطرة زيت كانت تُحفظ في جرة لتكون زاد الشتاء، وقُوت العائلة، وذكرى البيوت التي دُمّرت.
لكن النظام، الذي لم تُشبع نهمه المجازر والبراميل والسجون، أطلق العنان لميليشياته وشبّيحته، الذين عادوا بعد تهجير الناس لينهشوا ما تبقّى، فلم يكتفوا بتكسير الأبواب ونهب الأثاث، بل اقتلعوا الأشجار من جذورها، وقطعوها وأحرقوها، وكأنهم في سباق لاجتثاث كل ما هو أخضر، وكل ما يرمز للحياة والعودة.
الزيتون كذاكرة وهوية
هنا في محافظة إدلب وريفها لا يمكننا أن نتحدث فقط عن الحياة دون ذكر الزيتون وعلى أنه مجرد نبات أو شجر يُزرع، بل هو ذاكرةٌ متجذرة في الوجدان الشعبي، وعصب اقتصادي، وعلامة من علامات الهوية الجماعية.
ثقافيًا، ارتبط الزيتون في إدلب بالأمثال الشعبية، بالأغاني الريفية، بطقوس المواسم، بالولائم التي كانت تُعدّ على زيت الزيتون أيام الحصاد، واجتماعيًا، كان موسم القطاف مناسبة عائلية بامتياز، يتجمّع الجيران والأقارب، يفرشون الشوادر تحت الأشجار، ويرافق العمل غناء.
اقتصاديًا، شكلت زراعة الزيتون العمود الفقري لمعظم قرى جبل الزاوية وريف معرة النعمان الشرقي وريف إدلب الجنوبي، قبل الحرب، وكانت إدلب تُعدّ من كبرى المحافظات المنتجة للزيتون والزيت في سوريا، وتصدّر منتجاتها إلى الداخل السوري وحتى إلى الأردن وتركيا، الآلاف من العائلات كانت تعتمد على الزيتون كدخل رئيسي، سواء في الزراعة أو في المعاصر أو في التجارة الموسمية للزيت.
بعد اندلاع الثورة عام 2011، تحوّلت الشجرة إلى ضحية أخرى في مسلسل الاستهداف، القصف لم يفرّق بين بيتٍ وبستان، وحقول الزيتون باتت مسرحًا للقذائف والغارات، ثم جاءت مرحلة الاجتياح والتهجير، ومعها أُفرغت القرى من سكانها، وترك المزارعون بساتينهم خلفهم، لكن الجرح الأعمق لم يأتِ من الحرب فقط، بل من فعل متعمّد لاحق: اقتلاع الأشجار، تقطيعها، بيعها كحطب، أو ببساطة تدميرها نكاية بالسكان.
ياسر الديبو، مزارع من ريف معرة النعمان الشرقي جنوبي إدلب، يقول لموقع تلفزيون سوريا: “ما كنت أُعدّ أشجاري بالعدد، بل بالملامح، كنت أعرف كل شجرة كما يعرف الأب أولاده، واحدة جذعها أعوج، وأخرى ظلّها طويل، وثالثة تزهر أبكر من غيرها، كان بيني وبينها لغة سرية لا يفهمها أحد سواي”.
حين اندلعت الحرب وبعد اشتدادها والحملة العسكرية الشرسة من قِبل قوات نظام الأسد وحلفائها عام 2019 في ريف المعرة جنوب إدلب، اضطر ياسر لمغادرة أرضه تحت ضغط القصف والدمار، لكنّه كان يعتقد أن عودته مسألة وقت، وأن الشجر سيبقى بانتظاره، لكنه حين عاد، بعد ستة سنوات من التهجير، لم يجد سوى أرضٍ عارية.
وتابع: “لم أجد من الأشجار سوى جذوع مقطوعة، وبعض الحطب المتناثر.. حتى الطيور هجرت المكان، كان الحقل يوماً يُشبه الجنة، فأصبح كالمقبرة.”
صمتَ ياسر قليلًا، ثم أردف: “هذه ليست مجرد أشجار، هذا تاريخنا، تعبنا، ذكرياتنا.. اليوم لم يتبقَّ شيء، كأن الذي قطع الأشجار، قطع حبلنا السُّريّ بهذه الأرض”.
يختتم كلماته بنظرة بعيدة: “الشجرة يمكن أن تُغرس من جديد، لكن ما مات في القلب لا يُزرع ثانية”.
على عتبة بيته القديم في أطراف معرة النعمان، يجلس الحاج مصطفى محمد ديب، شيخ في العقد الثامن من عمره، ووجهه تجاعيد ممتدة كجذوع الزيتون، لم تكن حياته منفصلة عن الشجر، بل كانت امتدادًا له، يتحدث يقول لموقع تلفزيون سوريا: “أنا من جيلٍ لم يعرف البلاستيك ولا الزيت المستورد، كنا نزرع الشجرة مع قدوم المولود، ونوصي بها في الوصية، ونقسم عليها في النزاعات. الزيتون كان شاهداً على أفراحنا وأتراحنا”، الحاج مصطفى يتذكر بدقةٍ خارطة البستان الذي ورثه عن أبيه، ويذكر أسماء الشجرات كما لو كنّ بناته: “البيّاضة”، “الخضراء”، “المعوجّة”، لكن حين زار أرضه بعد طول غياب، لم يجد سوى الفراغ.
يضيف محمد ديب: “رجعت وكأني غريب، لا ظلّ، لا رائحة، لا غصن يعرفني، أحسست كأن الأرض زعلت منّي، أو كأنها تنكرت لي لأنني لم أحسن حمايتها”.
ما آلم الشيخ المسنّ ليس فقط أن أشجاره قُطعت، بل أن فِكرة العودة أصبحت بلا معنى.. يتساءل:
“ما نفع العودة إلى أرضٍ فقدت وجهها؟ إلى بيتٍ بلا ظلّ؟ الزيتون كان أمانًا، وأصبح الغياب خيانة مضاعفة”، ويضيف بعد تنهيدة طويلة: “في حياتي كلّها، لم أظن أن شجرة الزيتون تُقتل.. كنت أظنها خالدة، مثل الأم، لكنهم قلعوها من الجذر، كما يُقتلع القلب من الجسد.”
من قطع الزيتون ومن المستفيد؟
لم يكن اقتطاع أشجار الزيتون في إدلب عملية عشوائية أو بدافع الحاجة، بل تمّت ضمن سياق منظم وهادف، شاركت فيه ميليشيات موالية لنظام الأسد، وبتغطية أمنية مباشرة، في قرى مثل كفرسجنة ومعرة حرمة وحاس وتلمنس ومعرشمشة وجرجناز، إذ تم تجريف الحقول واقتلاع الأشجار وبيعها كحطب أو خشب، في مشهدٍ أعاد إلى الأذهان سياسة الأرض المحروقة، منفّذو الجريمة ليسوا مجرد لصوص، بل هم عناصر من الشبيحة وبعض التشكيلات الرديفة للنظام، دخلوا المناطق بعد تهجير سكانها قسرًا، وتعاملوا مع الأرض وكأنها غنيمة حرب.
يقول أهال التقاهم موقع تلفزيون سوريا إن قطع الأشجار تم بهدوء بعد المعارك، لا خلال الاشتباكات، ما يؤكد أن الفعل لم يكن رد فعل أو ضرورة عسكرية، بل فعل انتقامي بارد ومدروس.
يرى الصحفي والناشط عبد الحليم الرحمون، ابن بلدة تلمنس شرقي معرة النعمان، أن شجرة الزيتون شاهد على صمود الإنسان السوري في وجه الزمن والجفاف والسياسة معًا.
يؤكد الرحمون في حديث لموقع تلفزيون سوريا أنه سمع شهادات عديدة لفلاحين ممن شاهدوا أشجارهم تُحرَق أو تُقطع وتُباع بالكيلو”.
تقول رُبا رشيد، ناشطة مجتمعية من بلدة كفرباسين التابعة لريف المعرة الشرقي، إن فقدان الأراضي الزراعية بعد الحملة العسكرية عام 2019 لم يكن مجرد ضرر مادي للعائلات، بل ضربة مباشرة لهويتها الاجتماعية والاقتصادية، خصوصًا بالنسبة للعائلات التي ارتبطت بالأرض عبر أجيال، تنتمي رشيد إلى عائلة معروفة بالزراعة وامتلاك مساحات واسعة من الأراضي المثمرة، وتوضح في حديثها لموقع تلفزيون سوريا أن ما تعرضت هو تدمير متعمّد للبنية الزراعية ولرموز الانتماء المحلي، “نحن لا نتحدث فقط عن اقتلاع أشجار أو هدم منازل، بل عن محو معالم حياة كاملة، بيت والدي دُمّر بالكامل، والأراضي التي ورثناها لم تعد تُعرَف، لا بالحدود ولا بالأشجار التي كانت تميزها، كل شيء جُرّف أو خُلط أو قُطع”.
وتؤكد رشيد أن كثيرًا من أهالي البلدة العائدين لم يستطيعوا التعرف إلى أراضيهم بدقة، بسبب إزالة الأشجار وسحق العلامات الفاصلة بين الملكيات، مما خلق حالة من الفوضى القانونية والاجتماعية، “الأرض كانت تمثل مصدر رزق، لكنها أيضًا كانت تمثل الاستقرار الاجتماعي. ومع غيابها، تراجعت فكرة العودة الكاملة، ليس فقط لأن المكان تغيّر، بل لأن علاقته بالناس قُطعت بشكل مقصود”.
تؤكد حلا العاهي وهي مواطنة من معرة النعمان وناشطة صحفية، أن شجرة الزيتون في ريف إدلب تتجاوز كونها مصدر رزق، لتُمثّل رمزًا عميقًا للانتماء والصمود في الوجدان الشعبي، وتجسيدًا لعلاقة الإنسان بأرضه، وترى أن ما تعرّضت له من قصف وقطع وتجريف خلال السنوات الماضية لم يكن عارضًا، بل نابعًا من سياسة ممنهجة اتبعتها قوات النظام البائد وميليشياته، بهدف طمس هوية الريف السوري واقتلاع رموزه الثقافية.
وتعتبر الناشطة السياسية مريم عمر في حديثها لموقع تلفزيون سوريا، أن قلع أشجار الزيتون في ريف إدلب لا يقتصر على ضرر اقتصادي أو بيئي، بل يُعدّ جزءًا من سياسة ممنهجة لإعادة تشكيل المشهد الديمغرافي في سوريا، لاسيما أن إدلب كانت من أبرز مناطق إنتاج الزيتون، ما يجعل الشجرة جزءًا من الهوية الثقافية والرمزية للمنطقة.
وتشير إلى أن استهداف الشجر يحمل رسالة واضحة: “لا عودة إلى هنا”، معتبرة أن قطع الأشجار يُسهم في ترسيخ قناعة لاواعية لدى الأهالي بأن الأرض لم تعد عامرة، وأن المستقبل لا مكان فيه لعودتهم، وهو ما تصفه بـ”الهندسة الديمغرافية المقصودة”، إذ تم استخدام القطع كأداة انتقام ووسيلة إفقار، وحتى تجارة حطب من قِبل الميليشيات الموالية للنظام البائد.
قال هائل الجاسم من جبل شحشبو في ريف إدلب الجنوبي وصاحب أرض لم يتبقَّ فيها شجرة زيتون واحدة، في تصريح لموقع تلفزيون سوريا: “خلال سنوات الثورة، ومع الاحتكاك بالناس، لاحظنا أن إدلب بلا هوية واضحة في وعي كثير من السوريين، نتيجة ما مارسته ميليشيات النظام من طمس متعمّد لهوية المحافظة، حتى عند تهجير سكان من مناطق أخرى إلى الشمال، رأى كثيرون إدلب كمدينة صغيرة عادية، بلا رمزية خاصة.
أضرار على البيئة
لم يقتصر الضرر الناتج عن اقتلاع أشجار الزيتون في ريف إدلب على البُعد الزراعي أو الرمزي فحسب، بل امتد ليُحدث خللًا بيئيًا متصاعدًا في المنطقة، فآلاف الأشجار التي أُزيلت بفعل القصف أو القطع المتعمّد، كانت تشكّل غطاءً نباتيًا مستقرًا يُسهم في حماية التربة، وتنظيم الرطوبة، والحد من الانجراف، إن الفراغ الذي خلّفه هذا الدمار لم يملأ بأي جهود بديلة، حيث غابت حتى اللحظة خطط التشجير أو مشاريع التعويض البيئي سواء من الجهات المحلية أو المنظمات المعنية، وهذا الغياب عمّق من هشاشة النظام البيئي في بلداتٍ تعتمد بشكل مباشر على الزراعة الموسمية والبعلية، ما ينذر بتدهور طويل الأمد في جودة التربة وتنوّعها الحيوي، وفي الوقت الذي يُنتظر فيه تدخّل علمي واضح من الجهات البيئية والبلديات والمنظمات، ما يزال الأهالي يواجهون نتائج هذا الخراب بأدوات بسيطة، وأمل ضعيف بإعادة إحياء أراضٍ كانت ذات يوم عامرة بالزيتون.
قال المهندس والباحث الزراعي موسى البكر، لموقع تلفزيون سوريا، إن اقتلاع أشجار الزيتون التي تجاوز عمر بعضها عشرات السنين، خلّف أضرارًا كبيرة على البيئة والتربة في ريف إدلب، موضحًا أن التربة فقدت جزءًا من خصوبتها، وأصبحت تميل نحو التصحّر نتيجة غياب الغطاء النباتي وفقدان عناصر عضوية أساسية.
في المقابل يشير البكر إلى وجود حلول علمية ممكنة، من بينها فلاحة الأراضي المتضررة بطرق مدروسة، وإعادة زراعتها تدريجيًا، مما قد يعيد لها خصوبتها وينقذ ما تبقى من دورة الحياة الزراعية في المنطقة.
قال المهندس أنس الرحمون، المختص في أبحاث المناخ والبيئة، في تصريح لموقع تلفزيون سوريا، إن اقتلاع الأشجار في مناطق ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي، ولا سيما أشجار الزيتون واللوزيات والفستق الحلبي والتين، جرّد المنطقة من غطائها الأخضر بنسبة تتجاوز 90%، وهو ما انعكس بشكل مباشر على البيئة والطقس وحتى على استقرار السكان.
وأوضح الرحمون في تصريحات لموقع تلفزيون سوريا أن غياب الأشجار والمسطحات الخضراء أسهم في تصاعد حدّة موجات الحر وازدياد العواصف الغبارية، فضلًا عن ارتفاع الرطوبة الجوية المرافقة لارتفاع درجات الحرارة، وهذا كله “يخلق مناخًا غير مستقر، ويزيد من وتيرة التغير المناخي العالمي بانعكاساته المحلية”.
هل من حلول؟
وعن الإجراءات العاجلة التي يمكن اتخاذها للحد من تفاقم هذه الأضرار، أشار الرحمون إلى أن “الخطوة الأولى والأساسية هي إعادة التشجير، بما يشمل إطلاق حملات منظمة بالتعاون مع المجالس المحلية والمنظمات المعنية”.
كما دعا إلى تأمين قروض ومساعدات للمزارعين لتمكينهم من إعادة زراعة أراضيهم، إلى جانب دعم الآبار السطحية والارتوازية وتشغيلها عبر شبكات الطاقة الشمسية، ما يسمح بتنظيم عمليات الري ومنع استنزاف المياه، وخلق منظومة متكاملة تُعيد للمنطقة توازنها البيئي تدريجيًا.
وختم بالقول: لا يمكن الحديث عن استقرار زراعي أو مناخي في ريف إدلب دون استعادة الأشجار.
في تصريح خاص لموقع تلفزيون سوريا، قال الأستاذ حمو ديب، مدرّس الجغرافيا إن المناطق التي تعرضت لاقتلاع الأشجار باتت أشبه بمناخ شبه صحراوي، حيث ارتفعت درجات الحرارة، وتغيّر الهواء، وأصبحت الرياح جافة قاسية بعد أن فقدت المنطقة ظل الأشجار الذي كان يُحدث توازنًا طبيعيًا، وبيّن أن ظاهرة النتح، التي تقوم بها الأشجار لتبريد أوراقها، كانت تلعب دورًا مهمًا في ترطيب الجو وتهدئة حدّة الحرارة.
وختم الأستاذ ديب تصريحه بالتشديد على أن إعادة التشجير يجب أن تكون أولوية وطنية وإنسانية، داعيًا إلى دعم المزارعين ماديًا ومعنويًا كي يتمكنوا من إعادة غرس الأرض.
ختاماً، في مذبحة الزيتون التي ضربت ريف إدلب، لم تُقطع أشجار فحسب، بل قُطعت جذور حياة كاملة، وطمست ذاكرة وأمانًا كان الناس يتشبثون به. لكن في عمق الألم يكمن الأمل، فبين أنقاض الحقول الجرداء، يبدأ الحنين للحياة والعودة، وحيثما ثار الحقد على الأرض، تنبثق إرادةٌ بإعادة زرع الزيتون وإحياء الأرض.
تظل الأسئلة قائمة، والتحديات ضخمة، لكن صوت الأهالي وصرخة الأرض ستظلّ تدفع باتجاه غدٍ أكثر خضرةً وحياة.
المصدر: تلفزيون سوريا