“همج التلال” والعار

غازي العريضي

وصلت اعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية ضدّ المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم ومراكزهم الدينية إلى حدودٍ غير مسبوقة، فالغطاءان، السياسي والأمني، وعدم المساءلة، وشعور المعتدين بالحماية وإطلاق اليد، دفع بالأمور إلى حدّ الإحراج الكبير لأركان سلطات الاحتلال على أعلى المستويات، الذين قدّموا شهادات واعترافات بحقيقة الوضع القائم، في مرحلة تعيش فيها إسرائيل عزلةً وحصاراً ومقاطعةً في عدد كبير من الدول، بسبب ارتكاب جيشها في غزّة عمليات إبادة جماعية وتطهير عرقي واستهداف المقدّسات (الكنائس والمساجد) والمستشفيات وكل مقومات الحياة.
استهدف المستوطنون قبل أيام مسجداً في بلدة دير استيا غربي مدينة سلفيت وأحرقوه، ودمّروا منازل في بلدة بيت ليد شمال الضفة، واستهدفوا مواطنين فلسطينيين في أكثر من مخيّم، جرفوا منازلهم واعتدوا على عائلاتهم. موجة انفلات إرهابية لم تتوقّف، عملية موت بطيء واقتلاع من جذور يمارسها الإرهابيون ضدّ الفلسطينيين.
ما يجري في الضفة الغربية ضدّ الفلسطينيين ليس حوادث متفرّقة، بل موجة انفلات إرهابية منظّمة
اكتفى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو بالتحذير: “ما يجري يمكن أن يقوّض الجهود ووقف إطلاق النار في غزّة”. الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ وصف الاعتداءات بـ”المروّعة” و”الخطيرة”، معتبراً ما يجري تجاوزاً لـ”الخط الأحمر”، داعياً السلطات إلى وضع حدّ له والقضاء على هذه الظاهرة. ومن هي السلطات؟ أجهزة السلطة الفلسطينية في الضفة مثلًا، أم قادة جيش الاحتلال والمسؤولون الأمنيون الذين يشجّعون المجرمين ويباركون أفعالهم ويكرّرون أن إسرائيل هي “دولة قانون وعدالة”، وأن الجيش الإسرائيلي هو “الأكثر أخلاقيةً في العالم”، في وقت يتحرّك فيه الملايين في شوارع العالم ضدّ “أخلاقية الإبادة”. لم يتمكّن رئيس أركان جيش الاحتلال إيال زامير من التهرّب من المسؤولية عندما قال: “أعمال العنف هذه تتعارض مع القيم الإسرائيلية وتصرف انتباه قواتنا عن إنجاز مهمتهم”. وذهب عدد من المستوطنين إلى مهاجمة جنود الاحتلال، ولم يُوقف أحد منهم، ممّا دفع عدداً من المسؤولين المحلّيين إلى التحذير من خطورة ما يجري.
وقد نشرت “العربي الجديد” (7/11/2025) تقريراً بعنوان “همج التلال”، يتحدّث بالتفصيل عن ممارسات وجرائم يغطّيها المستوطنون “برداء أيديولوجي”. كما قال تقرير نقلته “يديعوت أحرونوت”، وأوردت فيه شهادات مستوطنين يؤكّدون: “نحن أمام نقطة تحوّل. لم يعد بالإمكان الصمت. على الحاخامات وقادة المستوطنين أن يتحمّلوا المسؤولية ويوقفوا هذا الجنون”، و”عندما كان الأمر ضدّ الفلسطينيين اكتفى بعضهم هنا بالإدانات. الآن وصل إلى عتبة الدار” و”نحن على بعد خطوة واحدة من الفوضى”. “هؤلاء الفتيان لا يعترفون بأيّ قانون أو سلطة، يرتدون قمصاناً مكتوباً عليها: شعب إسرائيل نعم، دولة إسرائيل لا. هؤلاء ليسوا من شبيبة التلال؛ المستوطنين الموجودين في التلال ويمارسون اعتداءاتهم المعروفة، إنهم مجموعة فوضوية تخلّت عن الضوابط كلّها، بعضهم يعتدي علينا وعلى الجيش”.
من يطلق يد هؤلاء؟ لماذا لا يندفعون في مثل هذه الممارسات الهمجية الإرهابية عندما يُقرّ في الكنيست قانون بالأحرف الأولى يدعو إلى “إعدام الأسرى”، وعندما يرون مسؤول الأمن القومي إيتمار بن غفير يستبيح المسجد الأقصى، يعتدي بنفسه على أسرى، ويفاخر بنشر صوره، ويطلق العنان لعسكره للاعتداء على المنازل ويقول: “هذه لنا”. وعندما يسمعون وزير المالية بتسلئيل سموتريتش يدعو إلى توسيع الاستيطان واحتلال الأراضي كلّها، لأنها “ملكنا”، وعندما تصدر أصوات وزراء ومسؤولين أمنيين وغير أمنيين تدعو إلى “إبادة” و”حرق” الفلسطينيين، وعندما شهدنا ونشهد ما يجري في غزّة وانتفض العالم ضدّه؟ وذلك كلّه تحت شعار رفض العداء للسامية. فهل ما يقوم به “همج التلال” و”همج المؤسّسات الأمنية” من ممارسات يُعبّر عن قيم سامية وعن احترام للسامية؟
إسرائيل في قمّة اندفاعها نحو مزيد من العنف والتوتّر والانفلات ضدّ الفلسطينيين واستباحة كل شيء، وسيصل “إرهابها” و”عنفها” و”عنصريتها” إلى العرب. ألم تَعِد أميركا بمحاسبة مستوطنين ومسؤولين، فماذا فعلت؟… لا شيء. وكذلك عدة دول غربية. ذهبت أميركا بلسان ترامب إلى حدّ اعتبار نتنياهو “بطلاً”، وتدخّل (ترامب) رسميّاً لدى الرئيس الإسرائيلي للعفو عنه، ومنع محاكمته بتهم “الفساد”، وهو الذي قاد بفخر “الإبادة” ضدّ الفلسطينيين. فهل هذا عمل إنساني أخلاقي قانوني وبطولي؟
وصف جدعون ليفي إسرائيل بأنها من أكثر الأنظمة قسوةً ووحشيةً على وجه الأرض
قال زعيم المعارضة يئير لبيد: “هذا عار على إسرائيل والشعب اليهودي. الوضع خرج عن السيطرة، على الجيش إعادة فرض النظام”. كتب الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي: “هل كان هناك صراع فرنسي – جزائري؟ لا. هناك احتلال وحشي فرنسي في الجزائر انتهى. وهنا ثمّة احتلال وحشي ولا بدّ من أن ينتهي. ثمّة نظام اليوم من أكثر الأنظمة قسوةً ووحشيةً على وجه الأرض. ليس أقلَّ من هذا. وأنا أعلم ما أقول لأنني أغطّي هذا الموضوع منذ 40 عاماً، ولا يمكن تعريف هذا النظام إلا بأنه نظام الفصل العنصري. ثمّة شعبان يتقاسمان أرضاً واحدة، شعب واحد لديه الحقوق كلّها، بينما لا يملك الآخر أيَّ حقوق على الإطلاق. غزّة ليست حرب إسرائيل وحدها. العالم كلّه متورّط فيها، والإبادة تُنفَّذ بأسلحة بريطانية أميركية. إذا كان هجوم واحد دفع كثيرين في إسرائيل لأن يصبحوا لا إنسانيين، فماذا عن الفلسطينيين الذين يعيشون تحت تلك الهجمات منذ عقود؟”.
هذه التقارير، وغيرها من معلومات كثيرة منشورة في إسرائيل، هي برسم الإعلام العربي والمسؤولين العرب في لحظة تقرير المصير أمام ما يعلنه مسؤولون إسرائيليون، وما يمارسونه على الأرض في غزّة والضفة، ويعمّمونه في برامجهم التربوية وتكوين أطفالهم وتربيتهم، وما يقوم به سفراؤهم في الخارج لتنشئة أبناء جالياتهم على “الكراهية” و”الحقد”، ويطلقون دعوات لقتل الطفل الفلسطيني، إنهم يستهدفون “النسل” و”العرق”. هذا هو العار، هذه هي العنصرية، هذا هو العداء للسامية. هؤلاء هم “همج التلال” و”همج الأرض” و”همج مراكز القرار”، وهذه هي “معركة الوعي” في وجه إرهابهم.
المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى