
مرّ أكثر من أسبوعين على اعتماد مجلس الأمن القرار 2797 حول قضية “الصحراء الغربية” بتأييد 11 عضوا من أعضاء المجلس الـ15، من دون أن تُنشر النسخة النهائية للقرار على المنصّة الرسمية، فالبحث في قاعدة البيانات الخاصة بالقرارات، بجميع اللغات الرسمية، يُظهر رسالة موحدة مفادها أن “المستند غير متوفر حاليا”. وفي المقابل نجِد قرارات صدرت في اليوم نفسه، وعن الجلسة نفسها، مثل: القرار 2796 بشأن ليبيا، والقرار 2798 الخاص بكولومبيا، ما يثير أكثر من تساؤل عن أسباب التأخر في نشر القرار تحديدا.
لا مراء في أن القرار الذي قدمت واشنطن مسودته الأولى إلى مجلس الأمن يبقى أهم تطور في مسار النزاع منذ 1991، لكونه يفتح مرحلة جديدة في مسار القضية الصحراوية التي دخلت منعطفا جديدا، انتقلت معه الأمم المتحدة من دور مراقبة النزاع إلى مواكبة تسويته، فالقرار وفقا لأغلب المراقبين، يكشف عن تحول في فلسفة الأمم المتحدة نفسها، بالحديث عن “فرصة غير مسبوقة للتوصل إلى سلام دائم” بدل العبارة المألوفة التي تدعو إلى “استمرار المسلسل السياسي”، لتتجاوز بذلك وظيفة الوسيط الذي يُدير التوتر نحو الرعاية أملا في التوصل إلى تسوية نهائية.
عودا إلى النص المتداول، نكتشف أن القرار اعتمد مقاربة تقوم على “الواقعية القانونية” عوض “المنهج القانوني الجامد”، ما انعكس بوضوح على صياغة مضمون القرار الذي اعتبر، لأول مرة، وبعد 18 عاما خطة الحكم الذاتي أرضية جادة للتفاوض لإيجاد حل عادل ومقبول للطرفين. نعم، اليوم فقط، وبعد قرابة عقدين مهدورين، تكتشف الأمم المتحدة فجأة أن خطة الحكم الذاتي التي طرحها المغرب عام 2007 جادة!
ابتهج المغاربة بالقرار، وخرجوا إلى شوارع المدن الكبرى للاحتفال، وكأن الأمم المتحدة منحت الرباط صكَ اعتراف نهائي بمغربية الصحراء، فيما مضمون القرار لا يتخطى حدود رسم أرضية للتفاوض بين الطرفين، وذلك بتأكيده أن “الحكم الذاتي الحقيقي يمكن أن يكون هو النتيجة الأجدى، ويشجع الطرفين على طرح أفكارهما، لدعم التوصل إلى حل نهائي يقبله الطرفان”. صحيح أن القرار تبنى المبادرة المغربية بوصفها إمكانية للحل، من دون أن يوضح هل الحكم الذاتي أساس التفاوض أم غايته أم هما معا بدايته ونهايته؟ فبنود القرار تتناقض في ما بينها ولغته تفتح مجالا للخلاف، فأحيانا يعتبر مقترح الحكم الذاتي أساس التفاوض دون شروط مسبقة ثم لا يلبث أن يطالب المغرب والبوليساريو بتقديم مقترحات بناءة ردا على مقترح الحكم الذاتي؟
يفسر طيف واسع من الخبراء المغاربة هذا التضارب بين بنود القرار بقولهم إن مفهوم الحكم الذاتي تجسيد لمبدأ تقرير المصير داخل السيادة المغربية، وإن الأمم المتحدة بهذه الخطوة تطوي صفحة تعدد الخيارات إلى صيغة الخيار الوحيد القابلة للتفاوض. هكذا يكون القرار قد حدّد، بحسب هؤلاء، وبشكل مسبق سقف التفاوض. لكن ماذا لو رفضت جبهة البوليساريو الحكم الذاتي الذي يبقى في أدبيات القانون الدولي مجرد صورة من صور تقرير المصير؟ وانسجاما مع هذا التأويل كان حريا بالقرار إنهاء مهام بعثة “المينورسو” التي كانت وظيفتها الأساسية تنظيم الاستفتاء، فأي معنى لتمديد عام بعد صدور القرار 2797؟
نظام الحكم بالصيغة القائمة حاليا، بما في ذلك شعارات الجهوية المتقدمة، لا تتيح إمكانيات تطبيق حكم ذاتي حقيقي
ندع القرار بكل علله جانبا، مع الإقرار بأنه يدشن مسارا جديدا في ملف الصحراء، لنعود صوب الداخل المغربي بأسئلة مؤرقة بحاجة إلى أجوبة واضحة وسريعة. أسئلة تعيد إلى الواجهة مقولة لطالما رددها العقلاء في المملكة مفادها أن مفتاح مشكلة الصحراء يكمن بين يدي صنّاع القرار في الرباط، فلا نجاح لأي حكم ذاتي في أقاليم الصحراء إلا بوجود ديمقراطية حقيقية في البلاد.
اليوم تؤكد الأمم المتحدة هذا الأمر باستعمال عبارة “حكم ذاتي حقيقي”، ما يعني أن المنتظم الدولي يرى النسخة الحالية من الخطة المغربية غير مقنعة، أو غامضة بتعبير المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء الغربية ستيفان دي ميستورا، الذي دعا الرباط حتى قبل اعتماد القرار إلى تقديم تفاصيل إضافية تفسر بوضوح مقترحها. وقد تعهد الملك محمد السادس بتحيين وتفصيل مبادرة الحكم الذاتي في خطاب رسمي إلى الشعب، يوم 31 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عقب صدور القرار الأممي.
شاع الحديث بين شريحة واسعة من الخبراء، بمن فيهم أسماء عُرِفت بالروية والتعقل، عن ورطة جبهة بوليساريو والجزائر، وكأن المغرب في منأى عن أي تداعيات للقرار، فيما الواقع خلاف ذلك تماما. فالمغرب أيضا أمام مأزق كبير ينكشف تدريجيا مع زوال مفعول لحظة الانتشاء الجماعي، فيوم العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني اجتمع ثلاثة من مستشاري الملك بزعماء الأحزاب الوطنية الممثلة في البرلمان لحثهم على إعداد تصوراتهم بشأن تحيين مبادرة الحكم الذاتي، في خطوة مفاجئة، على اعتبار أن تدبير هذا الملف السيادي كان دوما حصريا بيد المؤسسة الملكية.
ليس مطلوباً من الرباط أن تخترع العجلة، ففي العالم نماذج قريبة من الحالة المغربية، رغم تباين السياقات التاريخية لها
ينتظر المغرب امتحان عسير في القادم من الأسابيع يدخله في سباق مع الزمن من أجل استدراك ديمقراطي، تحضيرا للتحول الكبير في بنية الحكم وطبيعته في المملكة تنفيذا لمضمون القرار الأممي، لأن نظام الحكم بالصيغة القائمة حاليا، بما في ذلك شعارات الجهوية المتقدمة، لا تتيح إمكانيات تطبيق حكم ذاتي حقيقي. فالأمر يستدعي تقديم أجوبة دقيقة تنجح في التوفيق بين المفهوم الفدرالي والكونفدرالي، بتوضيح العلاقة بين المركز والحكومة في الإقليم، وكيف ستباشر الدولة صلاحياتها السيادية (الدفاع، الأمن، الدبلوماسية، العملة…) في منطقة الحكم الذاتي؟ وماذا عن شكل وهيكلة برلمان الإقليم وطبيعة التمثيل السياسي فيه (أحزاب جهوية/ أحزاب وطنية)؟ وكيف سيتم تحديد الهيئة الناخبة؟
ليس مطلوبا من الرباط أن تخترع العجلة، ففي العالم نماذج قريبة من الحالة المغربية، رغم تباين السياقات التاريخية لها، وتبقى تجربة شعب أنويت في تأسيس إقليم نونافوت بكندا أحدثها، ونموذج مقاطعة بولزانو (جنوب تيرول)، في إيطاليا، وكذا ارتباط جزيرة غرينلاند بمملكة الدانمارك التي تكبرها من حيث المساحة بحوالي 50 مرة… وغيرها من النماذج التي نجحت في تأسيس كيان شبيه بالدولة داخل الدولة المركزية، وذلك رهين بقدرة هذه الأخيرة على تكريس ديمقراطية حقيقية.
أيا تكن النواقص التي شابت صياغة القرار الأممي، فإن تجاوزها يبقى رهينا بقدرة المغرب على اجتراح صيغة تجمع بين النقيضين (حكم ذاتي/ دولة مركزية). مهمة لن تكون حتما سهلة مع وجود أقاليم، مثل الريف، تشترك مع الصحراء في قواسم مشتركة تؤهلها للمطالبة بالحكم الذاتي، فهل تكون الصحراء سببا في إعادة هندسة نظام الحكم في البلاد؟
المصدر: العربي الجديد






