هل الثقافة في سوريا شأنٌ نافل؟

حسن النيفي

يعزو كثيرٌ من السوريين اندلاع النعرات الطائفية والعرقية وشيوع الخطاب العصبوي وارتفاع نبرة التحريض والتجييش، واشتغال وسائل الإعلام ووسائل التواصل بسعير التشاجر والتراشق اللفظي، إلى جملة من الأسباب، لعل أبرزها انعدام الثقة بين السوريين، وغياب حقيقي لجسور التواصل القائمة على الحوار واحترام الآخر.
كما يرى كثيرون أيضاً أن ما يطفح على المشهد السوري – اليوم – لم يكن وليد الحالة الراهنة بقدر ما هو نتاج تراكمي لعقود من الزمن، وقد حال دون ظهوره وجود سطوة سلطوية متوحّشة طالت الجميع ولم تترك مجالاً أو ثغرة لبروز أي صوت سوى صوت السلطة، التي أعقب زوالَها انفجارٌ بركاني لجماعات متعددة من السوريين – عرقية ودينية وإثنية – وكلّ منها يجعل من مظلوميته متراساً يتلطّى خلفه، الأمر الذي جعل المشهد السوري زاخراً بتصارع المظلوميات. ولا شك أن الخطاب المتناسل من تلك المظلوميات المتشاجرة لا يرقى إلى أن يجسّد مدخلاً عقلانياً لحوار مجتمعي يؤسس لتفاهمات متوازنة بين الجماعات السورية.
هل حوارات السوريين ولقاءاتهم ومساهماتهم الفكرية والثقافية والسياسية التي تهدف إلى انتظام حياتهم وقوننة العلاقة بين الأفراد والدولة ينبغي أن تكون مرهونة على الدوام بفرصة يمليها القدر؟
إلى ذلك، لم يفلح التحرر النسبي من سطوة السلطة في أشطار عديدة من الجغرافيا السورية فيما بعد آذار 2011 في أن يكون فضاءً تستعيد فيه القوى السورية قدرتها على المبادرة. بل يمكن القول: إن انحسار الحراك السلمي وهيمنة السلاح، إضافة إلى التدخل الدولي المباشر في الشأن السوري – ميدانياً وسياسياً – قد عزّز من حالة الاحتقان المجتمعي، وحال دون وجود فضاء ثقافي وسياسي يمكن للسوريين من خلاله أن يبادروا إلى صياغة مستقبل بلادهم وفقاً للمصالح والحاجات المشتركة، وبعيداً عن منطق الغلبة وقوّة الشوكة والاعتماد على مفاهيم الإقصاء والاستئثار. وكذلك لا يمكن تجاهل أسباب عديدة أخرى كانت كابحاً حقيقياً أمام إنجاز مشروع وطني ينهض على إرادة السوريين ويعبّر عن تطلعاتهم، وربما كانت الرواسب الإيديولوجية والوعي التقليدي المنبثق عنها لدى النخب السورية، فضلاً عن غياب الأطر السياسية ذات التأثير الاجتماعي، من أبرز تلك الأسباب.
لعل حاجة السوريين إلى الحوار فيما بينهم منذ الأيام الأولى التي أعقبت سقوط نظام الأسد لم تعد ترفاً سياسياً أو ثقافياً، بقدر ما بدت خطوة مفصلية لا يمكن تجاوزها، نظراً للواقع المتشظّي للبلاد السورية جغرافياً وسياسياً وعسكرياً. ولئن كان من الصحيح أن إزالة الأسد وحاشيته كانت التحدّي الأكبر أمام القوى السياسية والعسكرية للمعارضة، إلّا أن تجاوز ذاك التحدّي لم يُفضِ إلى سبيل سلس لحصد ثمار التحرير والاستمرار في حالة التعافي، بل أفضى إلى مواجهة تحدّيات أخرى ربما لا تقلّ تعقيداً عمّا سبق. ولعل ما يعزّز من تشعّب التحديات المستقبلية وجود أكثر من سلطة على الجغرافيا السورية، وكذلك تعدد القوى العسكرية ذات الارتباط الخارجي، فضلاً عن غياب أي أثر سياسي مجتمعي يتمثل بأحزاب أو جماعات أخرى.
بات الإعلان عن مؤتمر وطني سوري تشارك فيه جميع الأطياف العرقية والدينية السورية شعاراً بارزاً يجسّد أهم استحقاقات المرحلة الوطنية في مرحلة ما بعد التحرير، ولم يعد هذا الاستحقاق مطلباً شعبياً بقدر ما بات أحد أجندات الحكومة الانتقالية كما ظهر في حينه، باعتباره السبيل الأمثل الذي يمهّد أمام السوريين دخولهم في حوارات معمّقة حول مستقبل بلادهم. كما تُعدّ هكذا خطوة مدخلاً مناسباً للوصول إلى عقد اجتماعي ناظم لعلاقات السوريين بين بعضهم البعض وبينهم وبين الدولة. إلّا أن الخطوات الإجرائية تجاه المؤتمر المنشود وآليات انعقاده خرجت بالهدف عن مساره المأمول وأفرغته من معظم مدلولاته المرجوّة، حين اختزلته الحكومة إلى ندوة عبر يوم واحد، في سياق لا يختلف كثيراً عن كثير من الندوات التي تقيمها بعض المنظمات العاملة في الشأن السوري. وهكذا أُهدرت فرصة كبيرة انتظرها السوريون بتلهّف كبير. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه على الدوام:
هل حوارات السوريين ولقاءاتهم ومساهماتهم الفكرية والثقافية والسياسية التي تهدف إلى انتظام حياتهم وقوننة العلاقة بين الأفراد والدولة ينبغي أن تكون مرهونة على الدوام بفرصة يمليها القدر؟ وإن ذهبت تلك الفرصة، أليس بوسعهم استحضارها؟ أليسوا هم المعنيين بواقع حياتهم ومستقبلهم؟ فلماذا توضع الفرصة المتوخاة دائماً بيد جهة ما، يُخيّل للآخرين أنها قاهرة لإرادة الشعب؟
يمكن القول بكل تأكيد: إن تجاوز المجتمع لمجمل الإشكالات البنيوية التي تحول دون تعافيه وتجعله مُستهلَكاً بصراعاته الداخلية (الصراعات الطائفية والإثنية والمناطقية وأزمة المواطنة) إنما هو مرهون بقدرته على امتلاك القدرة على التفكير المُنتج للوعي أولاً، وهذه المسألة ذات صلة وثيقة بمفهوم الثقافة باعتبارها نشاطاً عقلانياً يهدف إلى التأثير المباشر في البنية المجتمعية – وفقاً لماكس فيبر – فلماذا لا تكون الثقافة هي الإطار المرجعي والناظم لحراك السوريين السياسي؟ أليست الثقافة هي القدرة على الإبداع والتجاوز؟ ألم تكن هي المحرّك الأكبر لأهم التحوّلات الاجتماعية في العالم؟ أم أنها مجرد نشاط نافل للترف وتزجية الوقت وطقوس للهوايات التي يمارسها الأفراد وقت فراغهم؟
لقد تشكلت الحكومة السورية المؤقتة في شهر آذار من العام الجاري، وكانت وزارة الثقافة إحدى الوزارات المهمة. وفي بلد خرج لتوّه من الدمار وورث كمّاً هائلاً من الخراب المادي والمعنوي معاً، ويعاني من انفجار طائفي وعرقي وتشظٍّ جغرافي واجتماعي، في حالة كهذه ليس من المنطقي وليس من المعقول أن تحافظ وزارة الثقافة على حياديتها ظنّاً منها أن الفعل الثقافي لا علاقة له بالمصائر السياسية للبلاد، وكذلك ظنّاً منها أن الثقافة هي مُنتَج نخبوي يأتي نتيجة ازدهار وقوة السياسة والاقتصاد وليس نشاطاً مُساهماً في ازدهارهما وتعافيهما معاً.
من المؤكّد أن هذا المقترح أعلاه لا يجسّد تطلّعاً فردياً جديداً بقدر ما بات مطلباً يتحدث به الكثيرون ممّن يرون في الثقافة حصناً منيعاً لوعي المجتمعات المُهددة بمزيد من الخراب، وليس نشاطاً مجانياً بعيداً عن المحددات الوجودية للمرء.
لقد كان لوزارة الثقافة منذ أن تشكّلت حراكٌ متنوّع، لعل أبرز وجوهه أنها أقامت مهرجاناً شعرياً (مهرجان البردة)، ولعلها أقامت عدة فعاليات إبداعية أخرى مشابهة في المحافظات السورية. وهذه الأنشطة بمجملها لا يمكن التقليل من أهميتها والحاجة إليها، ولكن ما هو مؤكد أنه لا يمكن اختزال المشهد الثقافي وكذلك اختزال مهام الوزارة بهذه الفعاليات فحسب، بل ثمة ما هو أكثر أهمية، على الأقل في الوقت الحاضر، وليس الأمر قائماً على مفاضلة ذاتية بقدر ما يخضع لمبدأ الحاجة والضرورة التي تؤكد أن ما تشهده البلاد من أزمة متعددة الجوانب تهدد حاضر السوريين ومستقبلهم، وتتمثل بعدة مسائل سبق ذكرها، يوجب على وزارة الثقافة أن ترى ذاتها معنيّة قبل الدوائر السياسية بالتعاطي الفاعل مع أوجه الأزمة. وهذا لا يمكن تحقيقه من خلال النوايا والأفكار الارتجالية والرغبات، أو من خلال الكلمات والخطب الاستعراضية التي تفيض بالحماس والعواطف، بل يوجب العمل على إنشاء خطط مدروسة يُنتجها أصحاب الاطّلاع والاختصاص، وتتحوّل إلى برامج يُعمل على تنفيذها وفق جدول زمني محدد. إذ ليس بعسير على السيد وزير الثقافة أن يلتقي بمستشاريه ومعاونيه وأصحاب الاهتمام والاختصاصات المختلفة من مثقفين ومفكرين سوريين، ليعملوا على إيجاد برنامج شامل لحوار وطني يشمل مجمل القضايا والإشكالات التي تتقوّم عليها الأزمة، ثم يُطلق هذا البرنامج على امتداد كل المحافظات السورية ويُدعى إليه جميع المثقفين على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم وانتماءاتهم، على أن تكتفي وزارة الثقافة بدور الراعي والميسّر لهكذا مسار بعيداً عن الوصاية والتدخل في سيرورة الحوار وما يؤول إليه من توافقات أو اختلافات. ويمكن بعد عام كامل – على سبيل المثال – أن تُقدّم الخلاصات بكل ما تشمله من تفاهمات أو وجهات نظر متقاربة أو نقاط خلاف، للقيادة السياسية في البلاد، باعتبارها حصيلة لتطلعات السوريين وتصوراتهم حيال ما تواجهه البلاد من أزمات. وليس من العسير أيضاً أن تتحول الخلاصات ذات التوافقات المهمة إلى وثائق وطنية، ليس للاحتفاظ بها في أدراج الوزارة أو أرشيفها، بل من أجل تحويل ترجمتها الفعلية إلى مطلب شعبي عام.
يُخيَّل للكثير – في ظل ما شهدته البلاد من أحداث خلال الأشهر التسعة الماضية – أن ثمّة ألواحاً من الجليد ما تزال قائمة بين المكونات السورية، ولا يمكن إذابتها عبر القنوات السياسية للحكومة فحسب، بل لا بد من حراك ثقافي أكثر شمولاً وجذريةً من السياسة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى أن تأخذ الثقافة دورها كحامل للوعي ومحفّز على التفكير الحر الذي يتجاوز التخوم الإيديولوجية التي راكمتها العقود السابقة.
لعله من المؤكّد أن هذا المقترح أعلاه لا يجسّد تطلّعاً فردياً جديداً بقدر ما بات مطلباً يتحدث به الكثيرون ممّن يرون في الثقافة حصناً منيعاً لوعي المجتمعات المُهددة بمزيد من الخراب، وليس نشاطاً مجانياً بعيداً عن المحددات الوجودية للمرء. نأمل من وزارة الثقافة أن تشاطر أنصار الثقافة هذا الاهتمام.
المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى