الشيباني في موسكو.. هل تعيد سوريا الجديدة صياغة العلاقة مع روسيا؟

عبدالناصر القادري

وصل وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى العاصمة الروسية موسكو على رأس وفد سوري، في أول زيارة من نوعها بعد سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024، ومرور أكثر من 8 أشهر على تحرير سوريا من قبضة النظام المخلوع، بخطوة دبلوماسية لها ما بعدها على الصعيد الدولي والإقليمي.

وتحمل هذه الزيارة دلالات استراتيجية عميقة تتجاوز مجرد كونها محطة دبلوماسية، فهي مؤشر على أن دمشق الجديدة تُعيد رسم خطوط العلاقة مع موسكو، على أسس جديدة توازن بين المصالح السياسية السورية والواقع الجيوسياسي الإقليمي والدولي.

ورغم أن روسيا كانت إحدى أسباب معاناة السوريين إثر تدخلها العسكري الداعم للنظام منذ 30 أيلول 2015، ما قلب الواقع العسكري لصالحه وتسببت بمعظم عمليات التهجير القسري، وارتكبت جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ودمرت مدناً على رؤوس ساكنيها، إلا أن الواقع الدولي يفرض نوعاً من العلاقة بين سوريا الجديدة وروسيا ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم بعد الولايات المتحدة، أو ما يمكن تشبيهه بـ “اضطرارية العلاقة” ومصلحة سوريا في الوضع الراهن.

روسيا والهيمنة على سوريا

ويبدو أن سوريا اليوم تعيش في مفارقة مختلفة، إذ إنه في ظل حكم النظام (المخلوع)، تحولت العلاقة السورية-الروسية إلى نموذج من التبعية الكاملة؛ سياسية وأمنية واقتصادية، حيث فتحت دمشق أبوابها أمام القواعد العسكرية الروسية ووقعت اتفاقيات طويلة الأمد لمصلحة موسكو، مقابل حماية النظام سياسياً وعسكرياً من الانهيار.

وشملت مساحة النفوذ بعداً اقتصادياً وتجارياً من خلال اتفاقيات وصفقات ومذكرات تفاهم طويلة الأمد، جميعها مجحفة ولم يأخذ بالحسبان فيها أي مصلحة للسوريين، أبرزها توقيع شركة “ستروي ترانس غاز” (CTG) الروسية الخاصة عام 2019 عقداً يتيح لها استثمار مرفأ “طرطوس” لمدة 49 عاماً.

وفي 2018 هيمنت موسكو على فوسفات روسيا عبر عقد للشركة نفسها مع “الشركة العامة للأسمدة” في حمص عقداً لاستثمار ثلاثة معامل أسمدة لـ40 عاماً قابلة للتمديد.

عسكرياً بدت روسيا مستميتة للحفاظ على نفوذها في المياه الدافئة بالبحر الأبيض المتوسط، حيث وقع نظام الأسد مع موسكو اتفاقية غير محددة عام 2015 تسمح بوجود مجموعة طائرات روسية في سوريا، تمركزت في مطار “حميميم” بريف اللاذقية، وأصبحت المنصة الرئيسة للعملية العسكرية الروسية في سوريا التي بدأت في 30 من أيلول من العام ذاته.

وفي نهاية عام 2015، تم تعزيز القاعدة بنظام دفاع جوي، كما شاركت وحدات من الشرطة العسكرية في توفير الأمن.

كما وقّعت موسكو والنظام عام 2017، اتفاقيتين تحددان استخدام القواعد العسكرية الروسية في سوريا لمدة 49 عاماً، وذلك حتى عام 2066، مع خيارات للتمديد التلقائي لمدة 25 عاماً أخرى.

وهنا يظهر حجم الهيمنة الروسية عسكرياً واقتصادياً على سوريا والتي زادت بشكل مضطرد اعتباراً من عام 2015، بعد 4 سنوات من الدعم السياسي والدولي الكامل من خلال استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لمنع إدانة النظام على مستوى الأمم المتحدة.

هل حاولت موسكو منع سقوط نظام الأسد؟

منذ تدخلها العسكري المباشر في سوريا عام 2015، بدت موسكو وكأنها الضامن الأول لبقاء نظام بشار الأسد. هذا الانطباع ظل سائداً حتى الأيام الأخيرة التي سبقت تحرير دمشق، لكن الواقع على الأرض كان أكثر تعقيداً. ففي حين كانت الآلة العسكرية الروسية قادرة على قلب موازين المعركة، اتخذت القيادة الروسية قراراً بعدم الانخراط المباشر في إنقاذ النظام خلال معركته الأخيرة.

رغم استمرار الغارات الروسية حتى مساء 7 كانون الأول 2024، وهو اليوم الذي سبق مباشرة انهيار النظام، إلا أن طبيعة هذه الغارات تغيرت بشكل واضح، حيث استهدفت مواقع مفتوحة أو بعيدة عن خطوط الاشتباك، ما اعتُبر مؤشراً على نية موسكو تجنّب استهداف قوى المعارضة بشكل مباشر. هذا التغير المفاجئ ترافق مع إشارات صامتة أرسلتها روسيا لبعض الأطراف الدولية والإقليمية تؤكد فيها أنها لن تتدخل إذا كان هناك انتقال سياسي منظم وسلس يضمن مصالحها الأمنية والعسكرية في سوريا.

تسريبات من طهران أظهرت أن الإيرانيين شعروا بأن موسكو خدعتهم في اللحظات الأخيرة، في حين صرح وزير الخارجية التركي، في مقابلة متلفزة، بأن روسيا كانت قادرة على إيقاف سقوط العاصمة لكنها “قررت عدم فعل ذلك”. ويُعتقد أن موسكو رأت أن بقاء الأسد بات عبئاً على مشروعها في سوريا، خاصة بعد انحسار نفوذها الإقليمي وتزايد التوتر مع الغرب، فاختارت إعادة التموضع خلف “شرعية جديدة” تضمن لها حضوراً دائماً دون أن تدفع كلفة سياسية أو عسكرية باهظة.

من هذا المنظور، يبدو أن موسكو تعاملت مع لحظة سقوط النظام بوصفها فرصة لإعادة صياغة دورها في سوريا الجديدة، بدل أن تكون مجرد قوة حماية لنظام متآكل. فهي احتفظت بقواعدها، وضمنت لنفسها دوراً في عملية ما بعد الأسد، لكنها تخلّت عن فكرة الدفاع عنه حتى النهاية، ومع ذلك استقبلته في موسكو مع كثير من سبائك الذهب ومليارات الدولارات بمجموعة من أفخر الشقق السكنية على مقربة من الكرملين في موسكو.

الزيارة الأولى

علم سوريا الجديد الذي كان يمثل الثورة السورية، مرفوعاً على سيارة فاخرة اجتازت شوارع موسكو تحمل وزير الخارجية السوري ومن خلفه الوفد المرافق الذي ضم:

-الأمين العام لرئاسة الجمهورية ماهر الشرع (الطبيب المتزوج من مواطنة روسية وكان يعيش في روسيا حتى عام 2022 ويتحدث الروسية ويعتقد أنه كان له دور في التنسيق مع روسيا قبل وخلال عملية ردع العدوان 2024).

 – وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة

– رئيس الاستخبارات السوري حسين السلامة

– مستشار وزير الخارجية السوري إبراهيم العلبي

– مدير مكتب وزير الخارجية السوري محسن مهباش.

زيارة الشيباني على رأس الوفد هي الأولى من الحكومة السورية الجديدة لأحد أهم حلفاء النظام القدامى، والتي تأمل دمشق أن تعاد صياغتها وفق لغة مصالح جديدة، في ظل وضع سياسي داخلي مستقر وصعب بالوقت نفسه، حيث ما زالت ملفات السويداء وقسد عالقة.

فالحكومة الجديدة التي طبعت علاقاتها مع الولايات المتحدة في لقاء شديد الأهمية مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب بالعاصمة السعودية الرياض، مارست دوراً مهماً بما يخص توقيع اتفاق آذار بين دمشق وقسد، إلا أن تنفيذه لم يحقق حتى اليوم.

ومن هنا تبحث دمشق عن علاقة متوازنة مع القوة العظمى الثانية في العالم، التي تملك نفوذاً عسكرياً حقيقياً في سوريا، لا يمكن نكرانه، وكان لها دور بناء في تقليل خسائر سقوط النظام مع كف يدها خلال معركة ردع العدوان.

دمشق، لا تريد أي تصعيد مع أي جهة دولية أو إقليمية في ظل الوضع العسكري والاقتصادي المتردي، إلا أنها أيضاً لا تقبل استمرار الهيمنة أو الامتيازات المجحفة التي كان النظام المخلوع قد أعطاها لموسكو مقابل الحماية.

وقد ظهر ذلك، في خضم التصريحات التي أطلقها كل من الشيباني ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الذي أكّد دعم بلاده لتنمية العلاقات مع دمشق على أساس الاحترام والمصلحة المتبادلة، وقال إن روسيا تثمّن الخطوات التي تتخذها سوريا لحماية البعثات الدبلوماسية الروسية، مشيراً إلى أهمية تكثيف الحوار بين الجانبين للحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها.

وشدد على معارضة موسكو محاولات زعزعة استقرار سوريا، واستخدامها ساحة لتصفية الحسابات، وأكد أن المبادرات التي أطلقها الرئيس السوري أحمد الشرع تسهم في تجاوز الأزمة. ودعا إلى رفع العقوبات المفروضة على سوريا فوراً، مشيراً إلى اتفاق مع دمشق لإعادة النظر في الاتفاقيات الثنائية.

وأعرب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن أمل روسيا في حضور الرئيس السوري أحمد الشرع القمة الروسية العربية الأولى المقررة في موسكو في تشرين الأول المقبل.

من جانبه أكد الشيباني أنه “وجدنا انفتاحاً كبيراً من الجانب الروسي، ونعتقد أن هذه العلاقة ستتطور إلى شراكة استراتيجية متميزة في القريب العاجل”.

وقال إن سوريا فتحت أبوابها للعالم بعد الإطاحة بالنظام المخلوع، وتسعى لعلاقات قائمة على الاحترام والمصلحة المشتركة، داعياً إلى تعاون كامل مع روسيا في دعم مسار العدالة الانتقالية بما يضمن حقوق الضحايا.

واعتبر الشيباني أن العلاقات مع موسكو تمر بمنعطف حاسم، وأن الحوار معها يمثل خطوة استراتيجية تدعم مستقبل سوريا، مؤكداً تشكيل لجنة لإعادة تقييم الاتفاقات مع روسيا بما يخدم مصالح السوريين في مرحلة إعادة الإعمار.

واتهم الشيباني الاحتلال الإسرائيلي بتغذية العنف عبر اعتداءاته المتكررة على الأراضي السورية، وقال إن هذه الهجمات تعقد المشهد وتزعزع الاستقرار، مشددًا على أن أي سلاح خارج إطار الدولة سيؤدي إلى الفوضى كما حصل في السويداء، وأن الدولة وحدها تضمن أمن المدنيين.

ووعد الشيباني بمحاسبة كل من ارتكب انتهاكات في السويداء، محذراً من محاولات استغلال الأحداث للتدخل في الشأن السوري، وقال: “تعبنا من الحرب خلال 14 سنة، ونريد لم شمل السوريين في الداخل والخارج، وهذا يتطلب بيئة مناسبة ودعماً من الأصدقاء”.

ولفت إلى أنه تم الاتفاق على تشكيل لجنة وزارية مشتركة بين البلدين للنظر في الاتفاقيات السابقة، مضيفاً أن “العلاقات بين روسيا وسوريا تمر بمنعطف تاريخي حاسم”.

وأكد لافروف في ختام المؤتمر دعم روسيا لجهود الحكومة السورية في تحقيق الاستقرار، بما في ذلك التحضير لانتخابات مجلس الشعب المقررة في أيلول المقبل.

صحيح أن روسيا مدت يدها لدمشق مبكراً، إلا أن تنسيقاً خفياً جرى بين إدارة العمليات العسكرية بقيادة أحمد الشرع والحكومة الروسية بعلم تركيا كانت قد بدأت قبيل شن العملية.

وفي 29 كانون الثاني  2025، زار وفد روسي رفيع برئاسة ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية والمبعوث الخاص للشرق الأوسط، العاصمة السورية دمشق، حيث التقى الرئيس أحمد الشرع، في أول زيارة رسمية روسية بعد سقوط نظام بشار الأسد.

وتركزت المباحثات على احترام سيادة سوريا، ودعم موسكو للتغييرات الجارية، إضافة إلى بحث دور روسيا في إعادة بناء الثقة مع الشعب السوري من خلال التعويضات، والإعمار، وآليات العدالة الانتقالية. وأكدت الإدارة السورية الجديدة التزامها بمسار قائم على العدالة والكرامة، داعية إلى معالجة أخطاء الماضي، واحترام إرادة السوريين في أي مسار لإعادة العلاقات مع موسكو.

ماذا يبحث الوفد في موسكو؟

ومع التموضع الجيوسياسي الجديد الذي نال اعترافاً دولياً مهماً، من المرجح أن يبحث الوفد السوري في موسكو العديد من الملفات خصوصاً مع شخصيات الوفد التي أجرت الاجتماعات، وهو ما سيشمل:

  • إعادة الاتفاق مع الاحتلال الإسرائيلي ضمن اتفاق 1974 أو اتفاق أمني جديد يعطي لسوريا الجديدة مساحة للمناورة السياسية بعيداً عن التطبيع الكامل الذي يطمح له بنيامين نتنياهو، خصوصاً بعد ما جرى في السويداء والاستهداف الإسرائيلي المباشر لمبنى وزارة الدفاع السورية والتأثير على قرار حكمت الهجري الساعي للانفصال في السويداء.
  • حدود النفوذ الإيراني الذي ساهمت روسيا – ضمنياً أو علناً – في تغطيته سابقاً، بعد الزيارة الشهيرة التي أجراها الجنرال قاسم سليماني (اغتالته الولايات المتحدة عام 2020)، وعلى إثرها تدخلت موسكو عسكرياً في سوريا ضمن توافق دولي، ثم انتهى دورها بعد عملية ردع العدوان نهاية عام 2024.
  • مساعي الحكومة الجديدة لإنهاء تصنيف الإرهاب الموجود في مجلس الأمن من خلال توافق أميركي روسي.
  • المطالبة بتسليم الرئيس المخلوع بشار الأسد وكبار المجرمين الموجودين في روسيا إلى العدالة في سوريا.
  • بحث  ملف “قسد” في إطار العلاقة الموجودة ووجود شرطة عسكرية روسية للمراقبة في مطار القامشلي.
  • بحث ملف تسليح الجيش السوري الجديد باعتبار أن معظم أسلحة الجيش السوري تاريخياً كانت تعتمد على السلاح السوفيتي والروسي.
  • مستقبل القواعد العسكرية الروسية في الساحل السوري.
  • مصير الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية الموقعة في عهد النظام.
  • موقف موسكو من عملية إعادة الإعمار والقمح الروسي ومسألة طباعة العملة.
  • التنسيق الأمني وملف محاربة الإرهاب.

ويمكن القول، إن ما ستكسبه دمشق من روسيا أكبر مما ستكسبه موسكو من سوريا في الوضع الراهن على الأقل، والسبب طبعاً أن سوريا انتقلت إلى معسكر سياسي جديد كلياً، بيضة القبان فيه هي الولايات المتحدة وأوروبا وليس المعسكر الشرقي الذي تقوده روسيا والصين.

سوريا الجديدة لا تنكر أهمية روسيا كلاعب دولي وإقليمي، لكنها تسعى إلى علاقة توازن وتحقيق مصالح. فوزير الخارجية الشيباني لا يأتي إلى موسكو طالباً الحماية أو الدعم، بل مندوبًا عن حكومة تمثّل السوريين من خلال شرعية ثورية حققت انتصاراً واقعاً، هدفها صياغة سياسة خارجية جديدة، تُنهي شكل ومضمون السياسة الخارجية والعسكرية القديمة التي يبدو أنها تسير باتجاه “صفر مشكلات” مع المحيط والعالم.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى