
متكئاً على أريكته، وهو يحتسي قهوته، تطرق سمعَه كلمةٌ غريبةٌ أو يقرأها في نصّ ما، يتناول هاتفه النقّال أو حاسوبه، ويفتح منصّة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية باحثاً عن معناها، فيعثر عليها ضمن قائمة من الاستعمالات التي ترجع إلى جذر تلك الكلمة. يجد استعمالها مؤرّخاً للمرّة الأولى، مع الشاهد والمصدر. تلك الحركة لا تستغرق سوى ثوانٍ أو دقائق معدودة، إن لم يأخذه الفضول إلى متابعة سلسلة من المعاني المتطوّرة من استعمالات الاشتقاقات من الجذر نفسه. يغادر بعدها القارئ منصّة المعجم، وربّما يردف ذلك بتعليقات يشاركها من حوله عمّا قرأ، إعجاباً أو استغراباً أو نقداً، شأن كلّ نصّ يمرّ عليه أيّ قارئ. وتنتهي علاقته بمادّة المعجم إلى حين آخر تحفّزه حاجة للعودة إليه.
وهو لا يرى منه إلا نتيجة ما بحث عنه في مدخل مفردة أو مفردات، هي نحو 300 ألف مدخل فيه موزّعة على نحو عشرة آلاف جذر لغوي، ومنتقاة من مدونة نصّية تتجاوز مليار كلمة، ممتدّة على قرون تغطّي تاريخ النصوص العربية المكتوبة أو المروية. هذه الحقائق الإحصائية التي يمكن للقارئ معاينتها في منصّة المعجم تُخفي وراءها إحصاءات أكثر أهميةً، لا يدرك أهميتها القارئ العابر وهو يتابع احتساء قهوته، متكئاً أو مستلقياً. فما كان له أن يصل إلى تلك النتيجة لولا نحو 13 عاماً من العمل المستمرّ والمتطوّر، عكف عليه علماء اللغة والأدب، وخبراء في العلوم المختلفة والرقمنة، متسمّرين خلف مكاتبهم الساعات الطوال، تحدّق عيونهم في منصّة إنجاز المعجم (المخفية): بحثاً وقراءةً وتحقيقاً وتأريخاً وتحريراً وتدقيقاً ومراجعةً وتصحيحاً واعتماداً ونشراً.
لا يغلق معجم الدوحة باب العربية؛ بل يضع أساساً لتأريخ ما تبقّى وما سيأتي من تطوراتها، بوصفه مشروعاً قابلاً للاستمرار والتحديث
وما بين كل خطوة وأخرى جولات من المناقشات والجدل والمراجعات والحذف والإضافة والتعديل، إلى أن تستوي المفردة على سوقها صالحة لأن تتزيّن للقارئ في المنصّة بحلّة تُخفي وراءها منصّة الإنجاز التي تحكي سيرة كل مفردة، وما حفّها من تعليقات المراجعين اللغويين والمصطلحيين والمعتمِدين، وتعليقات الكل على الكل، إلى حين استقرار معنى المفردة وتاريخها وتصنيفها وفق معايير المعجم. وكم من مفردة أخذت من الجهد ما يعدل تحرير جذر لغوي، وأخريات اقتضى الأمر فيهن مراسلات وحوارات وتتبع المصادر، بما فيها المخطوطات، لضبطها وتحرير معناها. ذلك العالم المخفي الذي لا تظهره المنصّة للقارئ العادي لا يعرفه ولا يدرك غوره غيرُ المتخصّصين، ومن عايشه أو شاهد معاناة الخبراء، لا سيّما أولئك الذين رافقوا المعجم في مراحله المختلفة: صاغوا البدايات، وطوّروا الأدوات، وعدّلوا وصحّحوا إلى أن استقرّت المعايير والأسس، وراجعوا المرحلة الأولى على قواعدها، ليخرج كل جذر لغوي عقداً متسلسلاً من المعاني له حكايته التي تستحقّ أن تُروى من جديد.
أكتب عن هذا العالم المخفي من المعجم، وقد عايشته (أشهراً) عن قرب في المرحلة الثانية من إنجاز المعجم. يتوافد الخبراء في كل صباح، يأوي كلٌّ إلى مكتبه، وهم من أقاليم مختلفة تغطّي العالم العربي. عرفتهم من قبلُ الجامعات ومراكز الأبحاث بعلمهم وأدبهم وخبرتهم اللغوية. تمرّ بمكتب الواحد منهم وهو مكبٌّ على حاسوبه يعاقر جذراً لغوياً: قد يكون سلساً، فتلمح أسارير وجهه منفرجة، وقد يكون جذراً عنيداً مُتعِباً، فتلمس المعاناة ظاهرة عليه. وغالباً ما يبثّ شكواه منه، أو من لفظ أو شاهد، فيشارك الخبراء ما يفكّر فيه وما يعانيه، بحثاً عن حلّ لمعضلة أو تصحيف أو تحريف أو نقص أو غموض أو التباس. وقد يبقى اللفظ معلّقاً مدّة طويلة إلى أن تطمئن النفس إلى ما حُرِّر من معناه.
لقد أخذ المعجم من عمر الخبراء العاملين فيه سنيناً، ووهن من صحّة أبدانهم ما وهن، حتى قلت لأصدقاء منهم يوماً (وقد شاهدت عملهم وخضت فيه): ما أشبه العمل في المعاجم بالعمل في المناجم! فوجدوا مقولتي أصدق معبّر عن معاناتهم. ولولا شغفهم بهذه اللغة الشريفة، ومتعة النظر فيها واكتشاف كنوزها، لما كان لهذا المعجم أن يرى النور. ومن عرف قصّة العمل في معجم الدوحة أدرك سبب خلو تاريخ العربية من قبلُ من معجم تاريخي؛ فهو عمل لا ينوء بحمله عالم واحد، كما كان شأن التصنيف في التراث العربي. أمّا وقد هُيِّئت له مؤسّسة تنجزه، ودولة ترعاه، كُتب له أن يرى النور.
صار المعجم ملكاً للقارئ العربي وأمانة للأجيال المقبلة، ومسؤولية رعايته ليست بالاستهلاك بل بالمراجعة والنقد والبناء
إن الزمن الذي أُنجز فيه المعجم قياسي إذا ما أُخذت بالاعتبار الإحصاءات التي اشتمل عليها. والمعاجم التاريخية للأمم معاجم مفتوحة لا تنتهي ما دامت اللغة محكية ومتطوّرة؛ فهي مؤسّسات وطنية للرصد والمتابعة والتأريخ اللغوي. بل إن معاجم تاريخية للغات غير محكية لم تنتهِ من أعمالها؛ فالمعجم التاريخي للغة اللاتينية بدأ منذ أكثر من قرن ونصف القرن، ويتفاءل القائمون عليه بأن ينتهي في نحو نصف قرن مقبل. وعليه يمكن القول إن اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية إنما هو اكتمال تصوّر مؤسّسي لمشروع وضع نواةً صلبةً وراسخةً لتاريخ مفردات اللغة العربية، وحقّق حلماً عجزت عن تحقيقه المجامع العربية وخبراؤها طوال نحو قرن.
لقد أصبح معجم الدوحة اليوم ملكاً للقارئ العربي، وأمانة بين يدي الأجيال المقبلة، وهم مسؤولون عن رعايتها بحثاً ومراجعة ونقداً وبناءً. فهو معين ثري لدراسات جامعية في تاريخ اللغة وفلسفتها، وتاريخ الثقافات، وتطوّر المصطلحات في العلوم كلّها. بل إن لكل جذر في العربية سيرة تُنسج منها قطع أدبية وعِبر ودلالات. وإن من محاسن الأقدار أن يكتمل المعجم في زمن تتعاظم فيه تطلّعات راشدة لتطوير الذكاء الاصطناعي باللغة العربية. فمن شأن إدخال مادّة المعجم ومدوّنته في أدوات الذكاء الاصطناعي، بما انتظم عليه المعجم من تصنيف وتدقيق وتمييز، أن يطوّر اللغة الرقمية العربية، وأن يحسّن من أدائها، وأن يوفّر مصدراً موثوقاً لاستدعاء المعلومات اللغوية من مصادرها. وهذا شأنٌ راهنٌ لا يقلّ في اللغة العربية أهميةً عن معجمها التاريخي الذي كُتب لدولة قطر شرف إنجاز نواته، التي نأمل أن تثمر أدوات تضمن استمرار المعجم لتأريخ ما تبقّى وما هو آتٍ من تطوّرات في اللغة العربية.
المصدر: العربي الجديد






