
شهدت الساحة العراقية أخيراً تطوّرَيْن متزامنَيْن يعكسان حجم التعقيد الذي يحيط بملفّ الفصائل المسلّحة ودور مؤسّسات الدولة في احتوائه. فمن جهةٍ، أشاد رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي فائق زيدان، باستجابة قادة بعض الفصائل المسلّحة لنصيحته بالتعاون في حصر السلاح بيد الدولة، في خطوة بدت للوهلة الأولى كأنّها تمهيد لمسار جديد نحو ضبط الأمن وتعزيز سيادة القانون. ومن جهة أخرى، جاءت انتقادات أميركية حادّة من عضو الكونغرس، الجمهوري جو ويلسون، الذي اعتبر تصريحات زيدان “تجاوزاً للصلاحيات القضائية وإشادة غير مُبرَّرة بجهات مسلّحة”. ويفتح هذا التزامن بين إعلان إيجابي داخلي وردّ خارجي متحفّظ الباب أمام تساؤلات أعمق حول طبيعة المرحلة السياسية والأمنية في العراق، وحدود الدور القضائي في بيئة مليئة بالتجاذبات.
كان رئيس مجلس القضاء الأعلى قد أعلن (20 ديسمبر/ كانون الأول الجاري) أن قادة عدة فصائل وافقوا على التعاون في ملفّ حصر السلاح بيد الدولة، مبرّرين ذلك (بحسب قوله) بأن “الحاجة الوطنية للعمل العسكري قد انتهت”. وتحمل هذه العبارة دلالة مهمة؛ إذ تشير إلى قبولٍ (ولو على مستوى أولي) بانتقال الفصائل من الدور العسكري إلى العمل السياسي، مع الإقرار بأن الظروف التي كانت تُستخدم لتبرير وجود السلاح خارج إطار الدولة لم تعد قائمة. ويرى فائق زيدان أن رؤيته تنطلق من عدّة مسارات، أهمّها مسار سياسي تدرك معه الفصائل أن البيئة الإقليمية والدولية لم تعد تتحمّل استمرار الجناح المسلّح غير المنضبط في العراق، وأنه آن الأوان أن تتحوّل إلى أداة سياسية ثابتة تحكمها مواد القانون العراقي وسيادته. ورغم أهمية إعلان هذه الخطوة، لم يتضمّن التزاماً نهائياً بنزع السلاح، ولا خطّةً تنفيذيةً واضحةً، ما يجعل التعاون أو الاتفاق “مبدئياً” أو “إطارياً” أكثر منه تفاهماً مُلزِماً. بمعنى آخر: الطريق لا تزال طويلةً بين إعلان النيّات وواقع الحصر الكامل للسلاح.
تؤكّد واشنطن أن ملفّ السلاح يجب أن يُدار أمنياً وحكومياً، لا عبر خطاب قضائي أو سياسي قد يُستثمر لتوسيع شرعية الفصائل
ورغم انتظار الولايات المتحدة لمثل هذا القرار من الفصائل “الخارجة عن سلطة الدولة العراقية”، أثار بيان فائق زيدان حساسية واشنطن لأسباب عديدة، في مقدّمها عدم ثقة الإدارة الأميركية بهذه الفصائل لارتباطها المباشر بولاية الفقيه والحرس الثوري الإيراني، وأيضاً لتاريخها “العدواني” تجاه القوات الأميركية في العراق وإسرائيل. وقد عبّر عضو الكونغرس المهتمّ بشؤون العراق، جو ويلسون، عن ذلك، منتقداً في الوقت نفسه بيان زيدان الذي “شكر” الفصائل المسلّحة على تعاونها، وقال: “هذا لا يليق بسلطة قضائية يُفترض أن تكون محايدة”. كما اعتبر أن تدخّل القضاء في ملفّات ترتبط بالسلاح والفصائل يمسّ بالخطّ الفاصل بين مؤسّسات الدولة القضائية والجهات المسلّحة الخارجة على القانون، وأن البيان بالمجمل قد يُفهم نوعاً من “الاعتراف” أو “التطبيع” مع جماعات تعتبرها واشنطن من محور الإرهاب المُهدِّد مصالحها في المنطقة، وأن قادتها مشمولون بعقوبات أميركية.
يقول الواقع الأميركي إن من غير المُتوقَّع أن تكون تصريحات ويلسون موقفاً فردياً، بل هي انعكاس لمزاج سياسي عام في واشنطن، التي عبّرت في مناسبات عديدة عن دعمها لعراق مستقرّ ذي سيادة. وهو ما أكّده أخيراً مبعوث الرئيس الأميركي الخاص إلى العراق، مارك سافايا، فحذّر من أن “لا مكان للمليشيات المسلّحة في العراق”، وأن البلاد أمام مفترق طرق حاسم لتحديد دور الفصائل في المستقبل. من هنا، تنظر الولايات المتحدة بريبة إلى أيّ خطوة يمكن أن تُظهر الفصائل المسلّحة في العراق شريكاً شرعياً أو طرفاً يحظى بإطراء رسمي؛ أي إنّ ملفّ السلاح يجب أن يكون أمنياً وحكومياً حصراً، لا قضائياً أو سياسياً. كما أن أيّ إشادة بقادة الفصائل قد تُستخدَم في الخطاب السياسي للفصائل لإضفاء شرعية أكبر على وجودها. والأهم أن توقيت الإعلان جاء في لحظة حسّاسة تشهد تصاعد التوتر الإقليمي بين إسرائيل وإيران، وأنّ الفصائل العراقية الخارجة عن سلطة الدولة العراقية ضمن دائرة الاتهام لدورها المباشر في هذا الصراع.
في واشنطن أيضاً، هناك قناعات تستند إلى وقائع فاعلة على الأرض العراقية، على الرغم من التحذيرات الأميركية المباشرة لحكومة محمّد شيّاع السوداني؛ إذ حذّرت واشنطن (على مستويات سياسية وعسكرية ودبلوماسية) من زيادة نفوذ الفصائل الموالية لإيران داخل العراق، ومن تراخي القضاء العراقي في التعامل مع الملفّات المتعلّقة بجرائم هذه الفصائل وتجاوزاتها. والقلق الأكبر هو تغلغل هذه الفصائل داخل البيت السياسي العراقي بما يمنحها مساحات أكبر للتدخّل في التشريعات والقرارات السياسية للدولة.
اختبار لقدرة الدولة العراقية على تحويل وعود حصر السلاح إلى واقع
يعمل السوداني بحذر لإقناع الطرفَيْن بحلول وسطية؛ فهو من جهة يحاور قادة الفصائل لإدماجها في القوات المسلّحة العراقية أو تسليم أسلحتها للدولة والتحوّل إلى العمل السياسي، ويستبعد تماماً المواجهة العسكرية معها لما يعنيه ذلك من أخطار حرب أهلية قد تطيح العملية السياسية برمّتها، حيث تكون لغة السلاح المنفلت هي المتحكّمة في المشهد من دون حدود زمنية حاسمة. فيما ترى واشنطن أن نهج السوداني هذا بطيء، ومحفوف بالمخاطر، وقد يرسّخ شرعية السلاح خارج إطار الدولة ما لم يُنفّذ بشكل صارم وفوري.
وسط هذه الأجواء تأتي تصريحات رئيس مجلس القضاء الأعلى محاولةً لتجسير الهوّة بين الطرفَيْن، وللدفع بالجو الحذر والخطير السائد في العراق نحو التهدئة. لكن في الوقت ذاته، فإنها تفتح الباب أمام تدقيق خارجي مشدّد، خصوصاً من الولايات المتحدة التي تخشى أن يؤدّي إشراك الفصائل في مشروع الدولة، من دون تفكيك أجنحتها المسلّحة فعلياً، إلى تعزيز نفوذها لا تقليصه. وبين جهود التهدئة الداخلية، وفق مبادرة زيدان، ومخاوف الخارج (الولايات المتحدة)، تبدو المرحلة المقبلة اختباراً لمدى قدرة الدولة العراقية على تحويل الوعود إلى واقع، وعلى إقناع المجتمع الدولي بأنّ مشروع سيادة الدولة في العراق يسير في الاتجاه الصحيح.
المصدر: العربي الجدديد


