
عامًا بعد عام، تشهد العلاقات الدولية بروز مسلّمات تدعونا إلى إعادة التفكير في كل ما عهدناه من مفاهيم ومنظورات لتفسير حركية العالم. فحيثما أدرنا رؤوسنا، وجدنا الأقوى دائماً على حقّ؛ فلا حقّ يعلو على ما يقرّره من حرب، ولا على ما يقرّره من سلام، وفق رؤيته هو لا غير. تمامًا ما نراه بين أميركا وفنزويلا، مثلًا، أو بين روسيا وأوكرانيا؛ إذ يردّد كلٌّ من ترامب وبوتين أن نيكولاس مادورو وفولوديمير زيلينسكي رئيسان غير شرعيَّيْن، وأن ما تقوم به الولايات المتحدة وروسيا هو إصلاح لأوضاع غير سويّة. وإذا أضفنا إلى ذلك الموقف في فلسطين، تكون الدائرة قد اكتملت على مسلّمات حان الوقت للإقرار بأنها تتلخّص في قاعدة: الأقوى دائماً على حقّ، وأن لا قانونَ دولياً ولا شرعيةَ يمكنهما تغيير الواقع إلى واقع آخر. إنها، بحقّ، انقلابات بلبوس مسلّمات كنا نردّد (في نظريات العلاقات الدولية) أنها تحوّل للمسلّمات (Paradigm Shift)، أو باراديغميات جديدة يجب أخذها في عين الاعتبار عند تفسير ما يحدث في العالم من حركية. يشهد العام 2025، الذي يشارف على مغادرتنا، احتمال إقرار انقلابات/ تجذّر مسلّمات في العلاقات الدولية وفي تفاعلاتها الصراعية بصفة خاصّة؛ فثمّة مشهدان، أوكرانيا وفلسطين، يعمل الفاعلون الكبار على تسطير شكلٍ ومضمونٍ لعلاقات ليس بعدها إلا الاستسلام أو الانتحار. وبهما يكون تمثّل الانقلاب، رمزاً وواقعاً، حدثاً سيكون له ما بعده على المستويات كلّها.
بدايةً، ما نطلق عليه هنا انقلابات/ تحوّل المسلّمات يعني توجيهاً وممارسةً لتفاعلية صراعية جديدة تماماً؛ إذ كانت المتغيّرات تتداخل والتفاعلات الصراعية غير وجودية، يُسمح فيها بجزء من الانتصار أو الوجود الرمزي، ليحلّ معها (خصوصاً في عامنا هذا وبمناسبة أوكرانيا وفلسطين) تطبيق مقاربة انفلات العقل والحكمة، وتجسيد إرادة بقاء جزء من البشرية، ونفي وجود أيّ معيارية، قيمية أو إنسانية، إن بقيت بعض من تماثلاتها، في علاقات الكبار وتفاعلاتهم.
المستقبل في منظور بعض الفاعلين هو لعبة ثلاثية فقط: روسيا والصين وأميركا، مع نزعة لتغييـب الاتحاد الأوروبي أو تفكيكه
إنها التفاعلات الصراعية الصفرية في أتمّ تجسيد لها، وما يرمز إليها من إعادة الحديث عن نظرية التطوّر وتطبيقها على الحضارات البشرية بمعناها المحوري: البقاء للأقوى، وسيادة الانتقاء باعتباره المتغيّر الوحيد، وما يمثّله من قارونية الرؤية من دون أيّ رؤى أخرى؛ بل الإله الوحيد والاعتبار الأكبر للوجود هو اكتساب الذهب الحقيقي أو ما يرمز إليه من أتربة نادرة، وتفوّق شبه تام في السيارات الكهربائية وبطّارياتها (الصين)، وشرائح الجيل الثامن، وشركات العالم الافتراضي العملاقة، وتكنولوجيا التفوق السحابي (أميركا)، أو تفوق تكنولوجيا السلاح واستراتيجياً تحديد الخطوط الحمر للجغرافيا الروسية (روسيا). وهي حقائق تصنع ذلك التنافس الشديد بطبيعة وجودية التموضع وسيناريوهاته في عالم كلّه شكوك وتعقيد، إلى درجة أن بعضهم توقّف في جدال التنظير للعلاقات الدولية عند هذا التعقيد ليجعل منه منعطف مستقبل التخصّص يحاول منذ جدال الواقعية والمثالية الأول تفسير حركيات العلاقات الدولية بمنظورات بعضها يكمّل بعضها الآخر، إلى غاية تلك النقطة التي تشكّل نقطة النهاية أو الانقلاب، ربّما، كما سيأتي.
قد يكون من الأجدى الانطلاق في تفسير ما يشكّل، في صراع أوكرانيا، الانقلاب الأكبر في العلاقات الدولية؛ ذلك أن ثمّة مناحي عدّها بعضهم تلك التي ستصنع ذلك السلام الذي يراه ترامب وصديقه بوتين في أوكرانيا، مع ضحية جانبية هي الأكبر في قبّعتها الجغرافية (ونعني بها أوروبا العجوز) أو في قبّعتها الاقتصادية التكاملية، أي الاتحاد الأوروبي الذي دعا إيلون ماسك (وجه من وجوه الانقلاب الحالي) إلى تفكيكه، لأنه لم يعد فاعلاً ولا فعّالاً، بل من الواجب تغييبه لأن مستقبل اللعبة الدولية ثلاثي، ليس إلا: بين روسيا والصين وأميركا.
في ما يخص أوكرانيا، يعني الانقلاب الذي نحن بصدده الإقرار بما فقدته من أراضٍ، من القرم إلى الأراضي التي أعلنها بوتين روسيةً، وخطوطاً حمراء لا يتم الوصول إلى السلام إلا بإقرارها جغرافيا روسية في أراضٍ كانت (وفق بوتين) أوكرانية، مع إيراد ترامب في مخطّط السلام الذي يعرضه على البلدَيْن المتحاربَيْن، ما يبرز إدراك تاجر العقارات الأميركي لمعنى السلام ومضمون التفاعلات الانقلابية الجديدة بمسلّمات التسيّد بالقوة من دون رقيب أو من يحاسب؛ فاستُبعد الأوروبيون، بل شهدنا ذلك التهكّم بالقارّة العجوز من ترامب ومن الفاعلين في الاقتصاد الأميركي من رجال أعمال يدركون التفاعلات الدولية بالرؤية الترامبية ذاتها، ليس إلا.
طبعاً، يتضمّن الانقلاب دعامات أساسية تشكّل إسمنت تلك الوقائع التي يريد ترامب وبوتين إدراجها في عالم الغد في باب التفاعلات الصراعية، وهي كلّها في المجال الأمني/ الدفاعي من ناحية، وتداعيات ذلك على عالم الاقتصاد والتكنولوجيا من ناحية أخرى، في رؤية لا يُحسب فيها المنتصرون، بل هناك حساب للخاسرين، وهم هنا كلُّ من يقف في وجه التيّار الجارف الأميركي والروسي والصيني.
يتمثل “الانقلاب الأكبر” في أوكرانيا في سلامٍ يُصاغ على قاعدة الإقرار بما فقدته كييف من أراضٍ
ويأتي الانقلاب الثاني، الأكثر تجذّراً في التفاعلات الصراعية الدولية، من غزّة في أعقاب كل الانعكاسات التي تولّدت من “طوفان الأقصى” وسقوط سرديات الكيان الصهيوني بالكلّية؛ فيتضمّن ذلك الانقلاب وجهَيْن لم يكن لأحد أن يتصوّر أنه بالإمكان تحريك حدودهما، وهما هنا السرديات الصهيونية ومخطّط إنهاء الحرب بإعادة تشكيل إقليم الشرق الأوسط برمّته.
ظنّ كثيرون في منطقتنا وفي العالم، على حدّ سواء، أن “طوفان الأقصى” حرب استراتيجية بحتة، المقصود منها تحريك المياه الراكدة في قطاع غزّة من محاصرة/ مقاطعة وهجمات لا متناهية، إضافة إلى تقتيل وتنكيل يومي لا حدود لهما؛ في حين أن يحيى السنوار، وباقي الفصائل الفلسطينية المُقاوِمة، كان هدفها (إلى جانب ما ذُكر من أهداف) تحقيق الأسمى المتمثّل في إعادة عقارب القضية الفلسطينية إلى الصفر، أي إلى ما قبل إنشاء الكيان الصهيوني، بتذكير العالم بحيثيات قضية فلسطين من الألف إلى الياء بعد صفقة القرن التي ظنّها الغرب صلاة جنازة على فلسطين.
إلى جانب هذا الانقلاب العكسي غير المُنتظَر، ثمّة انقلاب آخر يمكن تسميتها بصفقة القرن، بأشكال ومضامين أقلّ ما يمكن وصفها به أنها (في الإدراك الغربي، الأميركي على وجه الخصوص) تكرار للصراع الحضاري، ليس بين الغرب والجنوب الشامل، بل بين الغرب والإسلام. أو ما أطلق عليه عبد الباري عطوان، منذ حوالي العقد ونصف العقد، “عالم التوحّش”، من ناحية، ومنسّق السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل “الغابة” مقابل “الحديقة” التي هي أوروبا والغرب، باعتبارهما مكان وجود الحضارة والإنسانية والقيم، لكن بالمفهوم/ الإدراك/ الرؤية الغربية الحصرية، من ناحية أخرى.
هذان هما الانقلابان اللذان يرى كثير من المحلّلين أنهما الشغل الشاغل لعالم الغد، فتتأكّد أربع حقائق: تتمثّل الأولى في تسيّد ثلاثي الصين وروسيا وأميركا على هرمية النظام العالمي. تليها، ثانياً، إرادة تفكيك الاتحاد الأوروبي وإلغاء دور أوروبا في حركيات النظام الدولي. ثم ثالثاً تربّع القوة بمضامينها الصلبة والناعمة والذكية مشهدَ النظام الدولي، باعتبار أن من يمتلك مضامين تلك القوة ويحسن تعبئتها/ تحريكها يصبح متسيّداً، حقّاً، للمشهد العالمي. لتختتم تلك الحقائق بحقيقة رابعة حيوية متصلة بقدرة ممتلك أدوات القوة على تغيير معالم الجغرافيا وتحويلها إلى أراضٍ تُضمّ، خطوطٍ حمراء تُسطّر؛ وكأنّنا في برلين في نهاية القرن التاسع عشر عندما رُسمت، بالمسطرة، حدود الاستحواذ على القارة الأفريقية كلّها.
“السلام” الذي يتصوره ترامب وبوتين بوصفه سلاماً وفق مسلّمة التسيّد بالقوة، لا وفق تسوية متوازنة أو مرجعية قانونية
في النهاية، يصبح العام 2025، بسبب تلك المعطيات، السنة التي لا مثيل لها معرفياً بتشكيلها لمنعطف التفاعلات الصراعية المفرطة، في اعتبار أن القوة هي الحلّ الوحيد والأداة التي تكفل رسم حقائق العلاقات الدولية، كما أنها السنة التي تمثل، فعلاً، نقطة التعقيد في فهم حركيات النظام الدولي وتفسير أحداثه. وقد يزداد حجم التعقيد عمقاً طبعاً، إذا وقعنا في حيرة عدم تمكنّنا من الإجابة عن سؤال مآلات العالم بعد بروز قوة الآلة أمام ذكاء الإنسان، واحتمال أن يكون الصراع المقبل بين الإنسان والآلة. نحن أمام معضلة الذكاء الاصطناعي والإشكاليات التي يطرحها: هل يمكن للإنسان أن يحدّ من تيّاره الجارف؟ وهل يجد الحلول أمام احتمالات استفحال الاتكالية، في اعتبار الآلة مكان الإنسان في العمل، وفي الكتابة، بل في الإبداع أيضاً؟… نحن هنا أمام تعقيد له ما بعده إذا جُسِّد الانقلابيون المذكورون في كل من أوكرانيا وفلسطين من دون رقيب ولا حسيب، وقد يكبر أكثر فأكثر إذا استفحل الانقلاب الآخر في معركة وجودية تنهي عصر التفاعلات الصراعية بين البشر لتنقله إلى عالم آخر بين البشر والآلة.
العام 2025 عام انقلابات حقّاً، وما بعده تعقيد ما بعده تعقيد. فهل بعد التعقيد انقلاب يشبه ذلك الانقلاب الذي كنا نعرفه كلّما طغى جدال ما وأضحى خارج السيطرة، لتعيده الانتقادات إلى جادة الصواب، إذ تولد عن السلوكية الجارفة ما بعد السلوكية؟ وكما حدث للحداثة التي أوقف تيّارها الجارف رؤية ناقدة لها تولّدت منها ما بعد الحداثة؟ أم أن التعقيد هو آخر عهد الإنسان بحقول معرفية وتفاعلات صراعية أضحت مولدة (كما الآلة) للتعقيد وكفى؟
كنا نتحدّث قبل فترة أن مراجعة العلم تحتاج إلى ثورات تجدّد بنيته، وإذا بنا الآن أمام مسلّمات وانقلابات تحتاج إلى أن ننسى ما درسناه؛ حيث كنا نحلم باحتمال أن تكون للشرعية الدولية وللقانون الدولي إمكانية للجم اندفاع قوة الفاعلين المهيمنين على العلاقات الدولية. ولكن هيهات: الأقوى دوماً على حقّ، وما سمّيناه “انقلابات” أو “تحوّلاً” للمسلّمات ما هو إلا وضع ينبئ بأن ثلاثية القوة والمصلحة والقدرة على إدارة الفوضى لصالح الأقوى، هي مسلّمات صنعت العالم، وتعتمل فيه، وستبقى في المستقبل أساس العالم، ولا أساس غيره.
المصدر: العربي الجديد






