مدينة محكومة بالتهميش.. دير الزور تواصل دفع ثمن “ماضيها” وملامح الغضب تتصاعد

محمود الفتيح

يصعب تخيّل حجم التهميش الذي طال محافظة دير الزور على مدى أكثر من خمسة عقود ونصف، في ظل سياسة مركّزة قلّما طالت مدينة سورية أخرى بهذا القدر من الإهمال، فقد امتنع حافظ الأسد عن زيارتها طوال ثلاثين عاماً من حكمه، في حين احتاج بشار الأسد إلى سبع سنوات بعد تسلّمه الرئاسة حتى يزورها للمرة الأولى والأخيرة عام 2007، مستهلاً خطابه بعبارة: “محافظة دير الزور، محافظة الخير والعطاء”، ليؤكد النظرة الرسمية التي حصرت دور المحافظة في كونها مجرّد خزان نفطي وسلّة زراعية استراتيجية، من دون أي اعتبار لمعاناة سكانها أو افتقارهم لأبسط مقومات التنمية.

يفتح التهميش الممنهج الذي طال دير الزور ضمن استراتيجية نظام الأسد الباب أمام تساؤلات حول جذوره السياسية العميقة، إذ يرجّع باحثون ذلك إلى أن المحافظة كانت مركزاً بارزاً لمعارضي تيار الأسد داخل حزب البعث في ستينيات القرن الماضي، من بينهم يوسف زعيّن، رئيس الوزراء الذي شغل حافظ الأسد منصب وزير الدفاع في حكومته، وفوزي رضا، عضو القيادة القومية، ومحمد عيد عشاوي، الذي تقلد وزارتي الداخلية والخارجية، وجميعهم عُرفوا بمواقفهم الصارمة تجاه الأسد والمطالبة بتنحيته. كما ساهمت محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها الضابط الناصري جاسم علوان، في ترسيخ النظرة إلى دير الزور كمنطقة غير مضمونة الولاء.

واليوم، رغم نجاح الثورة وسقوط نظام الأسد، لم يحظَ أبناء دير الزور بنصيبهم الكامل من الفرح الذي عمّ مناطق سورية أخرى، إذ ما تزال المحافظة منقسمة بين مناطق تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) التي تواصل ارتكاب انتهاكات جسيمة، ومناطق خاضعة لسيطرة الدولة لكنها بقيت على هامش الاهتمام، فلم تشهد إطلاق مشاريع أو أي زيارة من الرئيس أحمد الشرع أو أعضاء الحكومة، باستثناء زيارة يتيمة لوزير الطوارئ والكوارث رائد الصالح، رغم أن المدينة تعاني دماراً هائلاً طال نحو 80 في المئة من بنيتها.

منذ بدء إعداد هذا التقرير، تواصلنا مع المكتب السياسي في محافظة دير الزور للحصول على إجابات عن الأوضاع الراهنة، وإتاحة الفرصة للرد على الاتهامات بالتقصير، غير أن المكتب رد بأن “هذه القضايا لا تندرج ضمن نطاق صلاحياته”. وبينما منحنا وعداً بإحالة الموضوع إلى السيد المحافظ غسان السيد أحمد، أُبلغنا بتعذّر ذلك بسبب سفره خارج المحافظة وانشغاله، ولم تنجح المحاولات اللاحقة في الوصول إليه.

دير الزور على صفيح ساخن

تتزايد مؤشرات الغضب الشعبي في محافظة دير الزور من حالة التهميش، بدءاً من احتجاجات بائعي الخضر واحتكاكهم مع عناصر الشرطة بعد قرار نقل السوق الشعبي، مروراً ببيانات صادرة عن مثقفين ووجهاء تطالب بتغيير القيادات السياسية والخدمية، وصولاً إلى دعوات احتجاجية مجهولة المصدر ظهرت مؤخراً.

وفي هذا السياق، وجّه عدد من الشخصيات المحلية بياناً إلى الرئيس أحمد الشرع تحت عنوان “البيان الوطني لأبناء دير الزور”، طالبوا فيه بإنهاء التهميش ومعالجة مظاهر الفساد، منتقدين انتشار المحسوبيات والولاءات العشائرية، وداعين إلى تشكيل لجنة رئاسية مستقلة تزور المحافظة وتستمع لمطالب الأهالي، مع إعادة هيكلة الإدارة المحلية على أساس الكفاءة.

معاذ الطلب، صحفي من أبناء دير الزور وأحد المشاركين في صياغة البيان، أوضح لموقع “تلفزيون سوريا” أن الموقعين يمثلون وجوهاً معروفة وفاعلة في الثورة، وقد لاقى البيان ترحيباً واسعاً كونه عبّر عن تطلعات شريحة كبيرة من أهالي المحافظة.

وأضاف أن توقيت صدور البيان جاء نتيجة تململ واضح لدى أبناء دير الزور داخل المحافظة وخارجها بسبب تردي الخدمات، وغياب الشفافية، واستمرار المحسوبيات في المؤسسات الرسمية، فضلاً عن الوضع الخاص لدير الزور التي دُمّرت بنسبة تتراوح بين 75 و80 في المئة.

تباين في المواقف تجاه البيان وسط غياب الرد الرسمي

ورغم الإقبال من قبل النخب المحلية والفعاليات الثورية على مضمون “البيان الوطني”، أشار معاذ الطلب إلى وجود آراء مغايرة ترى ضرورة منح الإدارة الجديدة فرصة لإثبات كفاءتها وبدء عملية إعادة الإعمار، ما يعكس تبايناً في المواقف تجاه مستقبل دير الزور وآليات تشكيل السلطة فيها.

وبيّن الطلب أن السلطات الرسمية لم تُصدر حتى الآن أي ردّ على البيان، في حين حاول بعض الأفراد داخل الدوائر الحكومية التواصل مع عدد من الموقعين في مسعى لثنيهم عن موقفهم، إلا أن تلك التحركات بقيت فردية، ولا تعبّر عن موقف مؤسساتي واضح من قبل الدولة.

جدل حول التعيينات في دير الزور واتهامات بالمحاصصة العشائرية

تتصاعد في محافظة دير الزور موجة انتقادات شعبية حيال آلية التعيين في المناصب الخدمية، وسط اتهامات من جهات محلية بوجود محاصصة قائمة على أسس عشائرية ومناطقية.

وكانت فعاليات مجتمعية حذرت من أن هذه الممارسات تهدد بتفكيك النسيج الاجتماعي للمحافظة، وتُضعف فرص التمثيل العادل بين مكوناتها.

الصحفي ياسر العيسى، وهو من أبناء دير الزور، أكّد لموقع “تلفزيون سوريا” أن المحسوبيات العشائرية باتت واضحة في التعيينات الإدارية، مشيراً إلى أن هذا النهج تجاوز حدود الانقسام بين الريف والمدينة، وأثار انتقادات حتى داخل العشائر ذاتها.

من جانبه، أشار الطلب إلى وجود جهود ميدانية لا يمكن إنكارها، لكنها تصطدم بعوائق ذاتية تحول دون تحقيق إنجازات ملموسة، في ظل استمرار ضعف الاهتمام الحكومي وتدني الميزانية المخصصة للمحافظة مقارنة بالمحافظات السورية الأخرى.

وحذر الطلب من أن استمرار التهميش يفاقم حالة الاحتقان الشعبي، ما يجعل الأوضاع مرشحة للانفجار في أي لحظة. لافتاً إلى أن دعوات الاحتجاج تعبّر عن غضب حقيقي ناجم عن تردي الخدمات وغياب التواصل مع الإدارة المحلية، فضلاً عن ضعف الكفاءة في تسيير الشأن العام، سواء على مستوى المكتب التنفيذي أو إدارة الشؤون السياسية.

 

مخاوف من تصاعد العنف وغياب المحاسبة

يشهد الواقع الأمني في دير الزور حالة من الهشاشة وعدم الاستقرار، نتيجة الفوضى التي خلّفتها الميليشيات التابعة للنظام وإيران على مدى سنوات ما قبل سقوط نظام بشار الأسد، من خلال توسيع نفوذها والتلاعب بالتركيبة الديمغرافية. كما ساهمت هذه الميليشيات في تسهيل انتشار معامل تصنيع المخدرات وترويجها بين فئة الشباب، في ظل الانتشار العشوائي للسلاح وغياب آليات فعالة لضبط الأمن.

وتتفاقم تعقيدات هذا المشهد مع استمرار وجود عناصر ميليشيا “الدفاع الوطني” من أبناء المحافظة، الذين ما يزالون يحتفظون بأسلحتهم، مستفيدين من الحماية العشائرية وشبكات المحسوبية، ما يرسّخ الفساد الإداري ويعيق أي جهود نحو التعافي وإعادة بناء المؤسسات، وفقاً لما أكده الصحفي معاذ الطلب.

من جانبه، حذّر الصحفي ياسر العيسى من أن السلم الأهلي في المحافظة مهدد فعلياً، في ظل غياب أدوات المحاسبة واستمرار تساهل السلطات مع مرتكبي جرائم الحرب ومؤيدي النظام السابق.

وأشار إلى أن حوادث الانتقام باتت شبه يومية، وبعضها يفضي إلى القتل، معبّراً عن خشيته من أن تتوسع هذه الظواهر وتتجاوز الطابع الفردي إذا استمر الواقع على ما هو عليه من دون تغيير حقيقي في النهج المتبع.

كما شملت المحاسبة في هذه المرحلة الجانب الاجتماعي أيضاً، بحسب العيسى، لتطال ليس فقط أفراد العناصر وأفراد الميليشيات المسلحة المتورطين في الانتهاكات، بل أيضاً من كانوا من مؤيدي النظام السابق، فيما يشبه عملية “فتح دفاتر الماضي”. وأشار إلى أن كثيرين وجدوا أنفسهم في موضع إدانة ضمن دوائرهم الاجتماعية وبين أقاربهم، رغم محاولات بعضهم التنصل من دعمهم السابق للأسد أو إنكار تورطهم في الجرائم. وأضاف أن عدداً منهم اختار مغادرة محافظته والاستقرار في مناطق أخرى، لا سيما في دمشق وريفها، هرباً من تبعات الوضع الجديد.

تحولات ديموغرافية وتغيرات في البنية الاجتماعية

وتحدّث العيسى عن مشكلات اجتماعية تفاقمت خلال المرحلة السابقة، نتيجة قناعة كثير من السوريين بعدم سقوط النظام، الأمر الذي شجّع على ارتكاب تجاوزات داخل المجتمع وحتى ضمن العائلات. لكنه أشار إلى أن سقوط النظام شكّل مفاجأة للبعض، وبدأت من قبلهم محاولات إصلاح وترميم لتصرفاتهم السابقة، مبرّرين ما جرى بالضغوط والظروف، لا سيما الاقتصادية.

وأضاف أنه شاهد وسمع حالات عديدة لعائلات تخلّى عنها المعيل -سواء الأب أو الزوج- وغادر من دون اكتراث، كما حدث في حالات أخرى مع أمهات تخلين عن أبنائهن لأسباب مختلفة.

ولفت إلى وجود خلل ديموغرافي واضح يتمثل في انخفاض عدد الذكور مقارنة بالنساء، مرجعاً ذلك إلى حملات القمع والتجنيد الإجباري خلال سنوات النظام الأخيرة، ما دفع الكثير من الرجال إلى الهروب خارج مناطق سيطرته بحثاً عن النجاة والأمان.

تغييرات محدودة وتراجع الخدمات

وأوضح العيسى بعد زيارته إلى دير الزور مؤخراً أن المدينة شهدت تغيرات عديدة بعد نحو 11 عاماً من الغياب، مع تغييرات ليست بالكبيرة في الريف، لكن الرابط الأساسي بينهما هو الواقع الخدمي والصحي السيء، ويبدو أنها لم تخطُ أيّ خطوة منذ سقوط النظام، مع تراجع الكثير منها منذ بداية العام، خاصة المتعلقة منها بواقع المستشفيات، وذلك بناءً على ما شاهده شخصياً.

ورغم هذا الواقع، أشار العيسى إلى أن كثيراً من السكان عبّروا عن ارتياحهم بعد سقوط النظام، الذي ازداد قمعه وفساده خلال عاميه الأخيرين.

يبدو أن المسؤولين المحليين في دير الزور عالقون بين ضغطين متناقضين: فمن جهة، يواجهون مطالب محقة من السكان الذين أنهكتهم سنوات من التهميش وتدهور الخدمات، ومن جهة أخرى، يصطدمون بغياب أي رؤية وطنية واضحة أو التزام حكومي جدي لتحسين الواقع في المحافظة. ففي حين تعلن الحكومة عن مشاريع جديدة واستثمارات في محافظات عدة، كان آخرها خطط لبنا مطارات جديدة في دمشق وحلب والمنطقة الوسطى، تُترك دير الزور خارج المعادلة تماماً، رغم افتقارها حتى اليوم إلى طريق دولي آمن يربطها بالعاصمة، وهو ما تسبب هذا العام وحده في سقوط عشرات الضحايا نتيجة ضيق الطريق الوحيد المتاح وامتلائه بالحفر، وغياب خدمات الاتصال اللازمة لطلب الإسعاف والمساعدة الطارئة.

وفي الختام، يبقى أبناء دير الزور عالقين في سؤال مُلح: لماذا لا تزال محافظتهم، رغم ما قدّمته من تضحيات، خارج دائرة اهتمام الحكومة الجديدة؟ إذ يخشى كثيرون أن تستمر النظرة التقليدية ذاتها تجاه المدينة، أو أن تكون الحكومة الحالية تواصل العمل وفق النهج البيروقراطي القديم، من دون أي تغيير بنيوي أو إصلاح جذري في آليات الحكم. وهكذا، تظل دير الزور على هامش القرار الوطني، تترقب لحظة يُعاد فيها الاعتبار لها، ويُفسح أمامها طريق نحو مستقبل يوازي ما بذلته من تضحيات.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. دوماً المظلومية تنتج من إحساس الغبن أمام الآخرين، مناطق الجزيرة والفرات “محافظات الرقة والحسكة ودير الزور” كانت مهمشة من الخدمات والمشاريع الإستراتيجية من أيام طاغية الشام الأب والإبن، بالرغم من كونها السلة الغذائية لسورية “القمح والشعير” والبترول والغاز، نظرة تاريخية لما قدمته دير الزور بإنتظار مشاريع وإهتمام بالمحافظة.

زر الذهاب إلى الأعلى