فرّقهم النظام وجمعتهم حياة اللجوء.. ما هي أبرز التحولات الاجتماعية في سوريا؟

لجين عبد الرزاق دياب

شهدت العلاقات الاجتماعية بين السوريين بعد سنوات الحرب واللجوء المديدة تحولات نحو علاقات أكثر انفتاحاً وتضامناً، ما شكل فرصة لإعادة تعريف هويتهم الوطنية، متجاوزين الانقسامات المصطنعة.

اضطر السوريون بسبب ظروف اللجوء إلى العيش معاً وتشكيل مجتمعات متضامنة في الخارج، ما سمح ببناء صداقات تتخطى الحدود الجغرافية والطائفية، وكسرت الحواجز المناطقية والطائفية التي عززها نظام الأسد المخلوع عبر سياسة “فرق تسد”.

كان الأطفال واليافعون الذين نشأوا في الخارج بعيدين عن التأثر بالانتماءات المناطقية، ومقابل هوية المجتمعات المضيفة تعززت لديهم هوية سورية جامعة.

المناطقية بعد الحرب

عاد كرم صواف (30 عاما) إلى سوريا بعد 9 سنوات قضاها في تركيا، لم يكن منزله في منطقة الحجر الأسود، جنوبي دمشق، قابلا للسكن بعد أن دمره نظام الأسد المخلوع، مما دفعه للبحث عن منزل في منطقة صحنايا للعيش بالقرب من صديقه وشريك سكنه في بلاد اللجوء ليث هنيدي الذي ينحدر من محافظة السويداء.

يقول كرم، عدت مع ليث إلى سوريا بعد أن عشنا معا لسنوات طويلة وتقاسمنا الألم والحنين والمرض، رغم اختلاف الطائفة والمنطقة بيننا، كان اللجوء أقوى من كل التقسيمات، وبدأت أشعر أنه أقرب لي من عائلتي وأقاربي.

بين حلب ودرعا، ودير الزور وحمص، كانت المسافات الجغرافية واختلافات الثقافة واللهجة، تشكل تنوعا قائما على الخوف لأن النظام المخلوع لعب على زرع الانقسامات والخوف طوال عقود مديدة ومنع التواصل أو بناء هوية وطنية جامعة تكريسا لحكم الفرد والعائلة.

جذور المناطقية

لطالما استخدم نظام الأسد سياسة ” فرق تسد” لترسيخ سلطته، وفق ما يؤكده الباحث الاجتماعي علي يبرودي بالقول إن المناطقية لم تكن حالة طبيعية في المجتمع السوري، بل نتيجة لتراكمات وتعزيز رسمي وممنهج منذ الثمانينيات، حين صار ينظر للسوريين وفق مناطقهم لا وفق المواطنة أو الكفاءة.

كان توظيف أبناء المحافظات يقاس بدرجة الولاء السياسي، أو انتماء الضابط المسؤول عن التعيين، لا بالسيرة الذاتية.

وفي الدراما السورية التي لم تكن بعيدة عن تدخل سلطة النظام المخلوع، الذي زرع نظرة معينة لكل محافظة في عيون الشعب، وتم تجسيد الحمصي كشخص كوميدي، والدمشقي كمتعجرف، والحلبي كمحب للطعام فقط، وأهل الجزيرة كقرويين جهلة، وهو ما زرع نظرة دونية أو استعلائية متبادلة بين السوريين أنفسهم.

بلدان اللجوء بوصفها مساحة للتعارف بين أبناء الوطن

مع اندلاع الحرب وبدء موجات اللجوء، كان لا مفر من أن يلتقي السوريون في مخيمات ومنازل وأحياء واحدة، في القاهرة أو إسطنبول أو برلين أو استوكهولم، تجد حلبيا يسكن مع شاب من الرقة، وتجد أسرة من ريف دمشق تتشارك المطبخ مع عائلة من السويداء، لم يحدث هذا بقدر كبير قبل اندلاع الثورة السورية، إذ كانت العائلات غالبا ما تبقى ضمن الدوائر الضيقة لمجتمعاتها الأصلية.

يقول يحيى سلمان، سوري يعيش في ألمانيا منذ 6 سنوات، لولا الغربة لما عرفت شيئا عن أهل الرقة ودير الزور، عن كرمهم وشهامتهم، كنت أعيش في ريف دمشق وكانت أبعد مسافة أذهب إليها هي مدينة دمشق.

يضيف يحيى، في حديثه لموقع “تلفزيون سوريا”، جاري في السكن من دير الزور، عندما اضطررت إلى دخول المستشفى وأجريت عملية العام الماضي، كان ينام عندي في المستفسى ويحضر لي الطعام، وساعدني كثيرا كي أتعافى بعد عودتي للمنزل.

وتحولت المقاهي وأحياء السوريين في بلدان اللجوء إلى أماكن التقاء أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن مسقط رأسهم، لا تفرقهم المناطقية التي زرعها النظام البائد.

تقول تهاني محمد، سورية مقيمة في القاهرة، تنحدر جذورها إلى محافظة إدلب، في المرة الأولى التي دخلت فيها إلى محاضرة في الجامعة ولمحت بعض السوريات، عرفتهم من طريقة لبس الحجاب، شعرت بفرحة غامرة من دون أن أعلم أي شيء عن انتماءاتهم المناطقية أو الطائفية أو السياسية.

تضيف تهاني، لدي أصدقاء من جميع المحافظات، وما تزال سلمى ابنة حمص الأقرب إلى قلبي هي ولهجتها التي اجتمعنا جميعا كسوريين على حبها.

مجتمع أكثر انفتاحاً وتضامناً

عندما يحلم السوريون اليوم بالعودة إلى بلادهم، فإنهم لا يعودون بنفس الانطباعات التي غادروا بها، صار الوطن في مخيلتهم أكبر من مكان ولدوا فيه أو حي تربوا فيه، العودة اليوم تعني لقاء الأصدقاء في القامشلي، وتناول المليحي في درعا، وحلاوة الجبن في حمص، وسهرات على الشاطئ في اللاذقية.

يقول مالك عبد الرحمن، طالب جامعي من حمص يقيم في القاهرة، أول شيء سأفعله عندما أعود إلى سوريا، سأزور صديقي الإدلبي في مدينته، الذي عشت معه 4 سنوات كان هو وعائلته جيرانا لي، أصبح بيته مثل بيتي وأهله مثل أهلي، تعرفت من خلالهم على لطافة أهل إدلب واحترامهم.

بدورها، غزل محي الدين، سورية مقيمة في هولندا، عادت منذ نحو شهرين إلى سوريا، تقول، في الحي الذي أسكنه بهولندا، لدي عدة أصدقاء من محافظات مختلفة، بت اليوم أفهم جميع لهجاتهم وعاداتهم، عندما غادرت سوريا لم أكن أعلم عن التنوع الكبير في بلادي، بعد عودتي زرت خمس محافظات وعندي خطة أن أزور عدد أكبر الفترة القادمة.

تضيف غزل، اكتشفت أننا شعب غني بالثقافة والتنوع، كلما ذهبت للقاء صديق في محافظته ذهلت بجمال وكرم أهل هذه المحافظة، كيف عشنا وقتا طويلا في البلد قبل الثورة وكنا منعزلين عن بعضنا.

الجيل الجديد بعيد عن الانقسامات الاجتماعية المصطنعة

يعتبر الجيل الجديد، خاصة الذين نشأوا في بلدان اللجوء منذ صغرهم، أقل حساسية تجاه الانقسامات المناطقية والطائفية التي لطالما أنهكت المجتمع السوري، فهم تربوا مع أقرانهم السوريين من دون أن يهمهم إن كان هذا الصديق من دمشق أو حمص أو درعا أو غيرها.

بل على العكس، أسهم الاختلاف في زيادة قربهم من بعض، إذ إن عددا كبيرا منهم لا يذكر حتى المكان الذي ولد فيه، واللهجة لا تعني شيئا، والانتماء ليس للمنطقة، بل لسوريا ” كهوية للجميع”

تقول رولا رشيد، مراهقة سورية تقيم في هولندا، لا أذكر شكل بيتنا أو شارعنا، لا أحمل سوى بضع صور ولهجتي التي تربيت عليها، وعندما أتعرف على أي شخص سوري لا أفكر أن أسأله إلى أين تعود أصوله، لأن الأهم أننا نستطيع فهم بعضنا بعضا بلهجتنا.

قد تكون الحرب دمرت الحجر، لكنها دفعت السوري لاكتشاف السوري الآخر، الذي لم يكن ليعرفه لولا الحرب والمعاناة والظروف الصعبة، اليوم بات لدى مئات الآلاف من السوريين صداقات وروابط اجتماعية ممتدة إلى محافظات لم تطأها قدمهم يوما، ما يضع أمامهم فرصة لصنع نسيج وطني جديد، قائم على التجارب التي تشاركوها في الغربة، والحنين الذي شعروا به.

تقول جمانة الجاسم، أخصائية اجتماعية مقيمة في القاهرة، إن الجيل الجديد الذي نشأ في دول اللجوء يحمل خصائص نفسية واجتماعية مختلفة عن الأجيال السابقة، فهو لم يتشرب الانقسامات المناطقية والطائفية التي كانت سائدة في المجتمع السوري قبل الحرب، بل نشأ في بيئات أكثر تنوعا وانفتاحا، وغالبا ما يكون ارتباطه بالسوريين الآخرين نابعا من مشاعر الانتماء المشترك، لا من الخلفية الجغرافية.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى