
لم يدوِّ في العالم نبأ جريمة قتل قذائف جيش الاحتلال الإسرائيلي، الأميركية، تسعة إخوةٍ، أكبرهم 12 عاماً وأصغرهم رضيعةٌ ستة أشهر، في منزلهم في خانيونس. لم تستفظع تلفزاتٌ الفاجعة، فلم تصدّر إزهاق أرواحهم نبأً أولَ في نشراتها الإخبارية، وإن اهتمّت بها “سي أن أن” بعض الشيء، وخصّصت لها “بي بي سي” تقريراً. لم ترَ وكالاتُ أنباءٍ وصحفٌ ومنصّاتٌ كبرى ضرورةً للتعريف بأسرة هؤلاء الصّبية. استبدّ بنا في “العربي الجديد” الفضول المهني، والأخلاقي من قبلُ ومن بعد، للتعريف بوالدَي يحيى وراكان وإيف وجبران وسدين ولقمان ورسلان وريفال وسيدرا، طبيبة الأطفال في مجمّع ناصر الطبي آلاء النجار وزوجها طبيب الباطنية حمدي النجار، فلم نقع في الشبكة العنكبوتيّة على ما يفيدُ عنهما، ولا عن مئات الأطباء والمسعفين الفلسطينيين الذين ينهضون بأداءٍ بطولي، عظيم، هناك، وسط المذبحة في مستشفياتٍ وعياداتٍ مستباحة لسلاح الجو الإسرائيلي. ولكن أمكن لنا أن نعرف عن الأم التي لا يُغالَى في وصفها أسطورةً، وقد نجح الزملاء في التواصل معها ومع شقيقةٍ لها، أنها في الـ36 من عمرها، ومحبّةٌ للأطفال إلى حد الولع، ما جعلها تُنجب في 12 عاماً أبناءَها العشرة (نجا آدم ويتلقّى العلاج في العناية المركّزة)، وأنها تعمل منذ عشر سنوات طبيبةً، وافتتحت مع زوجها (يقيم على سرير الشفاء في المستشفى وإصابتُه بالغة) عيادةً لتقديم الخدمة أطلقا عليها اسم مجمّع اليحيى الطبي، وهو اسم طفلهما الأكبر، كما حملت الأقسام الداخلية فيه أسماء أطفالهما، فالصيدلية اسمُها إيف ومختبر التحاليل جبران، ويضم المجمّع أقسام متابعة حمْلٍ وقسم أسنان.
امرأة فلسطينية في منزلة الأعجوبة. درست الطبّ وتخصّصت (أين؟)، وتزوّجت، ثم تحمّلت متاعب الحمل والولادة عشر مرّات، من منتصف عشرينيّاتها إلى منتصف ثلاثينياتها، في أثناء مواظبتها على تأدية عملها في العيادة والمستشفى، ومداواتها الأطفال وإسعافهم ما أمكنها هذا، وذلك كلّه (للتذكير فقط) في قطاع غزّة المحاصر من عقديْن، والذي تعرّض لجولاتٍ من الاعتداءات وجرائم الحرب الإسرائيلية بلا عدد، قبل حرب الإبادة الجارية التي نشط فيها سلاح الجو القاتل في جيش الاحتلال قبل 18 شهراً. لم يُسارع رئيس دولة فلسطين، واسمُه محمود عبّاس، إلى الاتصال بها مواسياً، ولا بادر إلى هذا أمينٌ عام لجامعة الدول العربية، واسمُه أحمد أبو الغيط. ولأن سوء الظن مقيمٌ فينا، ليس متوقّعاً أن تحظى الأم الشابّة، المناضلة، والتي تعزّ كلمات وصفها، وتفيضُ إنسانيةً ووداعةً، بانتباهٍ واجبٍ من مؤسّسات الحكم الفلسطينية والعربية. والمأمول أن تؤدي وسائل الإعلام ووسائطُه الرقمية دورها في تظهير هذه الفلسطينية سيدةً نادرة المثال، وفي إشهار الجريمة التي ذهبت بأولادها التسعة في كل الأرض، لا أيقونةً كما قد يجري القولُ التقليديٌّ إياه، وإنما شاهداً فريداً على كفاحيّة المجتمع الفلسطيني، وتنوّع كفاءاته وقدراته ونماذجه العالية. وآلاء النجار ليست بطلةً متخيّلةً في روايةٍ أو حدّوتةٍ وعظيةٍ تعلِّم الصغار البذل والعمل، وإنما امرأةٌ من لحم فلسطين وأرضها، ابنة العذاب والألم المقيميْن في غزّة المنكوبة بالحصار وظلم الأقربين والأبعدين. ليست مُنتجَ قريحة قاصٍّ يعرف الواقعيّات السحرية وغير السحرية عندما يبني شخصياتِه وعوالمَه وفضاءاته ومجازاته، وإنما شابّةٌ فلسطينيةٌ تُعرّف العالم الجاهل، القاسي في عنصريات حاكمين ونافذين ومثقّفين فيه، بإعجاز الصمود والبقاء في أتون مقتلةٍ يوميةٍ هناك، في غزّة المتروكة للقاتل الإسرائيلي المسلّح بالإسناد الأميركي السافر.
سيكتب المتطوّع الأميركي الصهيوني في جيش العدوان عيدان ألكسندر كتاباً عن معاناته في الأسر في غزّة، وقد أفردت له “يديعوت أحرونوت” مساحةً واسعةً استعرض فيها حكاياتٍ عن وقائع أمكن له فيها النجاة من قصفٍ هنا وهناك في القطاع. أما آلاء النجار، التي لا صورة لها، فلن تكتُب شيئاً، لن تبيع ألمها الثقيل (هل هو مجرّد ألم؟) في سوق الإعلام. ولأن فداحة الشناعة في قتل أبنائها الذين صاروا عصافير في الجنة، بتعبير من رآهم هكذا، تتحدّى سقوف أي مخيّلة، تُصبح المهمّة المفترض أنها منوطةٌ بأهل الإبداعات الأدبية والمنتوجات الثقافية، الفلسطينيين، صعبة، لكنها شديدة الإلحاح، فسيكون شديد الفظاعة أن تصير محنة آلاء وحمدي النجار تفصيلاً إخبارياً عارضاً في غضون مذبحةٍ عريضة. سيكون مُؤسياً أن تُنسى السيدة الصبورة، المجروحة، في مهبّ أنباء فواجع تتوالى، فتغيِّبُ كل جديدةٍ سابقاتها… إيّانا أن نفعل.
المصدر: العربي الجديد