
عاد، من جديد، إلى التداول مصطلح “البدو” لتسمية بعض المسلحين، الذين هاجموا محافظة السويداء السورية في الآونة الأخيرة. وفي ذلك مخالفة صريحة لأخلاق المهنة في الصحافة، لأنه يعمم، ويرمي إلى إلصاق صفات مذمومة بفئة من أهل البلد، ويصورهم بأنهم مجموعة من الرعاع، بلا أخلاق، ومأجورين.
قد تكون هناك جماعات من قبائل بدوية تقوم بأفعال مشينة، لكن هذا لا يبيح تحميل كامل القبيلة المسؤولية، ويتوجب على من ينشر في الاعلام، ووسائل التواصل، أن يكلف نفسه عناء البحث، ويتقصى الحقيقة، ويسمي المعتدين بأسمائهم الحقيقية كي يتم مقاضاتهم حسب القانون، ما يحول دون تعميم صورة نمطية سيئة عن جزء من المجتمع السوري والعربي، الذي يشكل البدو أحد مكوناته الأساسية.
يعبر التعميم عن استسهال تصنيف الآخرين، وتفشي الاستهانة بهم، ويعكس إحساسا من عدم الاحترام، والانخراط في ركب ثقافة سطحية، درجت لدى فئات اجتماعية تدعي التفوق، وعلى هذا أصبح السنة دواعش، والشيعة فرس، والدروز خارجين عن القانون والكرد انفصاليين.
إن لم يتم تصحيح المصطلحات الدارجة، سوف تبقي الفوضى تتحكم بعلاقات أبناء البلد الواحد. ومن دون احترام المكونات الحدود بين بعضها البعض، فإنها لن تنجح في بناء شراكة حقيقية في أوطان لكل ابنائها، وعند حدوث أزمة سوف ترتد نحو عصبيات بدائية قاتلة، ويسارع كل منها إلى تصنيف الآخر ضمن خانة خاصة، ويحبسه داخل كادر ضيق يناسب حدود تصوره، ويرسم له الصورة التي يراها، وغالبا ما يختار له الهوية التي يركب مكوناتها، من عناصر تجاوزها الزمن.
البدو في العالم العربي قبائل معروفة، منتشرة، على نحو خاص، في الخليج العربي والعراق وسوريا ومصر، وهم شعوب لا تختلف عن الآخرين، بعضهم على قدر عال من الأخلاق الحميدة، لديهم قيم لا تقبل القسمة، حافظوا عليها منذ قرون ولم يتخلوا عنها، وبعضهم انحدر الى مستويات دنيا من الانحطاط. وحتى لا يتم الخلط، يجب تسمية كل باسمه، ونسب الفعل السيء إلى صاحبة وليس إلى قبيلته او عائلته.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن البدو لا يعيشون اليوم في الصحاري والبوادي، ولا صلات مباشرة تربطهم بالعالم، نائين بأنفسهم عن التطورات من حولهم أو على مستوى العالم، بل إنهم مواكبون للعصر، وغير منقطعين عن التحولات التي شهدتها البلدان التي يعيشون فيها. لهم نصيب من كل ما أصاب العالم في السراء والضراء، وصلت التكنولوجيا الحديثة إلى مضاربهم بالتوازي مع التلوث المناخي والاحتباس الحراري.
“أنا مدين قبل كل شيء للبدو الذين ذهبوا معي، ولولا مساعدتهم، لم يكن في وسعي أن أقوم برحلتي في الربع الخالي”. بهذه الجملة يبدأ الرحالة والأنثروبولوجي الإنكليزي ويلفريد ثيسيغر (1910-2003) كتابه الفريد “الرمال العربية”، الذي خصصه لتجربة عبور الربع الخالي مرتين ما بين 1945 و1950. ولم يكن أن يتم له ذلك، لولا توافر أدلاء من أبناء قبيلة “آل كثير” الحضرمية، على دراية بتضاريس الصحراء، وطقسها، والمخاطر التي تواجه الرحالة الأجنبي.
يعدّ كتاب ثيسيغر من بين أفضل كتب الرحالة الأجانب عن البدو والصحراء. وأهم ميزة له أنه مكتوب بحب للعرب والبدو وللصحراء من دون قيد أو شرط. وعدا عن أنه يسجل وقائع عبورين للربع الخالي، قطع خلالهما ما يقرب من ثلاثين ألف كيلومتر على ظهور الجمال، فإنه ثمرة تجربة عدة أعوام عاشها في الجزيرة العربية. ولكن ذلك لم يشفع لترجمته إلى اللغة العربية من أن تتعرض للتعسف، وحذف عدة صفحات، بسبب نظرة الكاتب الحادة، التي تميز بين البدو قبل وصول التكنولوجيا إلى المنطقة وبعدها، وهو يتناول بالنقد اللاذع أجيال الأبناء والأحفاد، الذين حوّل الثراء الفاحش نمط حياة البعض منهم، وغيّر في العادات والتقاليد.
عملت بعض دول الخليج على الحفاظ على تراث البداوة، وتوثيق موروث البدو المادي والشفوي، وقد نجحت بعض الجهود في إحياء المخزون البدوي من شعر وغناء وموسيقى، وعادات، ولباس، وطعام. واجتهدت بعض المسلسلات التلفزيونية لتقديم عالم البدوي وشخصيته ونمط حياته. بعضها نجح في ذلك، والبعض الآخر فشل على نحو ذريع.
والنقطة الفصل في الأمر هي زاوية النظر، وهدف المعالجة الدرامية. هناك من سعى إلى تسليط الأضواء على الموروث البدوي، وهناك من أراد السخرية من شخصية البدوي، ونمط حياته والتعامل بتعال واستخفاف مع البداوة، كونه عدها أحد مظاهر تخلف العالم العربي، وفي ذلك تجنٍّ كبير وتعميم سطحي، يصدر عن تفكير قاصر عن رؤية تاريخ العرب مقطوعاً عن ماضيه البعيد والقريب، والتنكر للغنى الثقافي، الذي تجلى في الشعر على سبيل المثال.
المصدر: المدن