عن القوى الديمقراطية وأزمتها المتجدّدة

حسن النيفي

جسّدت القوى السياسية السورية اليسارية (شيوعية – قومية) حضوراً في المشهد السياسي المناهض لحكم الأسد بشطريه (الأب – الابن) منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، إذ يمكن الإشارة إلى أكثر من تكتّل سياسي خلال العقود الماضية، كان الحضور اليساري فيه بارزاً، مثل (التجمع الوطني الديمقراطي 1979 – إعلان دمشق 2007 – هيئة التنسيق الوطنية 2011)، إضافة إلى عدد من الأحزاب والشخصيات اليسارية التي لم تكن ضمن التجمعات السابقة.

بعد انطلاقة الثورة (آذار 2011)، نشأ العديد من الأحزاب والتشكيلات والتجمعات ذات الصبغة اليسارية، ولكن ربما كان من العسير إحصاؤها أو الوقوف على مقدار تأثيرها أو ماهيتها التنظيمية، نظراً لنشوئها خارج البلاد من جهة، ولكون معظمها لا يحظى سوى بوجود افتراضي على وسائل التواصل من جهة أخرى. ولكن ما يجمع بين جميع تلك القوى السابقة، سواء التي وُجدت قبل الثورة أو بعدها، هو (يساريتها)، أي تمركز شعاراتها حول (علمانية الدولة)، علماً أن العديد من هذه القوى ذات الانتماء الشيوعي، قد تجاوزت الإيديولوجيا الماركسية وباتت شعاراتها أكثر ميلاً نحو القيم الليبرالية، كقضايا الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، الأمر الذي أدّى إلى تداخل وتشابه كبير في مجمل ما تطرحه هذه القوى من شعارات وأفكار، ما أدّى إلى شيوع مصطلح (القوى الديمقراطية) على مجمل القوى ذات التوجه (العلماني)، علماً أن المصطلح المشار إليه ليس دقيقاً، إذ ليس كل علماني هو ديمقراطي بالضرورة، ولكننا هنا نقف عند دلالته (الإجرائية) فحسب.

خلال عقود مضت، لم تشهد الحالة السورية تنسيقاً أو تعاوناً إيجابياً مثمراً بين القوى الديمقراطية والقوى الإسلامية، باستثناء تجربتين، شهدتا حضوراً لجماعة الإخوان المسلمين، هما (إعلان دمشق 2007) و(المجلس الوطني السوري 2011)، وهما تجربتان لم تنطويا على مُنتَجٍ سياسي يؤسس لعلاقة مستقبلية بين الطرفين.

وعلى مدى أكثر من عقد من عمر الثورة، اتسعت الفجوة بين الإسلاميين والقوى الديمقراطية، وربما كان لدخول تشكيلات إسلامية جديدة إلى المشهد السوري، وخاصة أن هذه التشكيلات الجديدة هي كيانات مسلّحة ذات إيديولوجيا متطرفة، منها ما له صلة مباشرة بتنظيم القاعدة (تنظيم داعش – جبهة النصرة)، و(حركة أحرار الشام) التي تؤكّد على منشئها المحلي واستقلاليتها عن القاعدة، كما ظهرت كيانات أخرى ذات وجهة (سلفية علمية)، مثل (جيش الإسلام) الذي أحكم نفوذه على الغوطة الشرقية حتى عام 2018.

خلال سنوات مضت، كانت قد تكرّست شبه قطيعة كاملة بين القوى الديمقراطية، التي لم تكن تملك أي نفوذ ميداني على الأرض بحكم تكوينها المدني السياسي، وبين الكيانات الإسلامية ذات القوّة والنفوذ السلطوي على الواقع.

مع بدء تغلغل النفوذ الدولي في سوريا منذ أواخر العام 2012، وانحسار الحراك الثوري السلمي، بات خطاب القوى الديمقراطية يتوجّه بكثير من النقد، الذي تطور إلى اتهام صريح للقوى الإسلامية بأنها اخترقت الثورة السورية وعملت على تشويهها، من خلال فرض أجنداتها الخاصة، ومجافاتها لتطلعات السوريين الذين انتفضوا في آذار 2011 مطالبين بالحرية والتغيير نحو دولة القانون والديمقراطية والعدالة. كما أسهمت القوى الإسلامية – وفقاً للقوى الديمقراطية – في تشويه الوجه الحقيقي للثورة، لأن لجوءها إلى فرض تصوراتها الإيديولوجية على الناس بالعنف والإكراه، إنما هو إرهاب حقيقي تمارسه تلك القوى بحق السوريين، فضلاً عن أن هذه الممارسة قد سهّلت شيوع سردية نظام الأسد عن الثورة واتهامها بالإرهاب والتطرف.

حملت السنوات الممتدة من 2015 وحتى سقوط نظام الأسد 2024، تغيّرات كبيرة من الناحيتين السياسية والعسكرية، لعل أبرزها هزيمة تنظيم داعش وتلاشي نفوذه، وتحوّل الجغرافيا السورية إلى مناطق نفوذ تحكمها سلطات أمر واقع، وفقاً لانتماءاتها وولائها. فمن الناحية العسكرية، أصبحت المعارضة المسلّحة تتموضع في بقعتين جغرافيتين: (جبهة النصرة) التي تحوّل اسمها إلى (هيئة تحرير الشام 2017) إثر انضمام تشكيلات إسلامية أخرى في كيان واحد، واتخذت من مدينة إدلب منطلقاً لنشاطها ونفوذها، فيما باتت معظم فصائل الجيش الحر منضوية في تشكيل يحمل مسمّى (الجيش الوطني 2017) والذي بات تحت إشراف مباشر من الحكومة التركية، واتخذ من مناطق وبلدات شمال غربي سوريا منطلقاً لنشاطه ونفوذه.

خلال سنوات مضت، كانت قد تكرّست شبه قطيعة كاملة بين القوى الديمقراطية، التي لم تكن تملك أي نفوذ ميداني على الأرض بحكم تكوينها المدني السياسي، وبين الكيانات الإسلامية ذات القوّة والنفوذ السلطوي على الواقع، فضلاً عن أن القوى الديمقراطية في حالة شديدة البعثرة والتشظّي من الناحية التنظيمية، فهي عبارة عن قوى وجماعات متفرقة، تتحاور فيما بينها وتقوم بندوات وأنشطة مشتركة، ولكنها لا تلتقي تحت مظلة تنظيمية واحدة، الأمر الذي جعل حضورها على المستوى السياسي عديم التأثير.

أليس التحوّل الذي طرأ على مواقف وسلوك القوى الدينية الحاكمة هو تحوّل لصالح القيم التي ينادي بها الديمقراطيون؟ أليس من المفترض في هذه الحالة أن يُواجَه هذا الموقف بالتشجيع وليس الشجب والرفض؟

مع نهاية عملية (ردع العدوان 8 – 12 – 2024) وسقوط نظام الأسد، وحيال غبطة جماهيرية واسعة بهزيمة الأسد، نشأت حالة من الاضطراب الممزوج بالذهول لدى القوى الديمقراطية، ربما كان مبعثها استبعاد كثيرين لهزيمة الأسد بعملية عسكرية اتّسمت بهذه السرعة والسلاسة. ثم تحوّلت حالة الاضطراب إلى انقسام بدأ يتبلور بالتدريج بين فئتين من هؤلاء، إذ ترى فئة من هذه القوى أن عملية (ردع العدوان) هي فعل تحرّري ثوري حقق منجزاً ثورياً ووطنياً طالما تطلّع إليه السوريون طيلة أربع عشرة سنة، وبالتالي هو تجسيد لإرادة السوريين التي انتصرت على نظام الطغيان الأسدي.

وبهذا النصر يعود الاعتبار لتضحيات السوريين العظيمة، ويعود النازحون والمُهجّرون إلى بيوتهم، ويخرج المعتقلون من السجون. وعلى الرغم من حالة الخراب الفظيع التي حلّت بالبلاد، إلّا أن هزيمة الأسد هي فرصة للسوريين ليستعيدوا المبادرة للنهوض ببلدهم من جديد. ويعلّل هؤلاء موقفهم بتأييد حركة التغيير بالتحوّل النوعي الذي طرأ على القوى العسكرية التي قادت عملية ردع العدوان (هيئة تحرير الشام)، سواء على مستوى الخطاب السياسي الذي بات يتنصل تدريجياً من يقينياته الإيديولوجية السابقة، أو على مستوى السلوك الذي بات ينزاح من الطور الحزبي المتصلّب المؤدلج إلى منطق بناء الدولة بمفهومه المدني العام. كما ترى هذه الفئة أن منطق التغيير نحو الأفضل يستدعي المشاركة من الجميع، كما يستدعي مزيدا من الحوار وبناء جسور الثقة بين السوريين للوصول إلى برنامج وطني مشترك يحظى بقبول الجميع. ولعلّه من الطبيعي في هذا الحال ظهور كثير من الاختلاف في الرؤى والتصورات والممارسات، ولكن الوصول إلى الأهداف المنشودة لا بدّ أن يمرّ عبر نضال سلمي يحدّده الدستور والقوانين المنبثقة عنه، وهذا هو التجسيد الحقيقي للأعراف الديمقراطية في الدولة الحديثة.

في حين تبدي الفئة الأخرى من القوى أو الجماعات أو الشخصيات (الديمقراطية) تحفظها حيال عملية التغيير التي حصلت في سوريا، مبرّرةً موقفها بجملة من الأمور، لعل في طليعتها انحدار السلطة الجديدة من خلفية إيديولوجية دينية متطرفة (السلفية الجهادية)، وهي بهذا لا تأخذ بعين الاعتبار ولا تعطي أي قيمة لأي تحوّل فكري أو سياسي (لهيئة تحرير الشام)، بحجة أن ما تبديه السلطة الجديدة من تحولات لا يتعدّى كونه نزوعاً براغماتياً للتمكّن من السلطة فحسب. ثم تمضي في بناء مواقفها التالية استناداً إلى الجذر (الإيديولوجي) الذي تحاول أن تفسّر أي موقف أو سلوك للسلطة استناداً إليه، كما تعمد هذه الفئة – في الغالب – إلى تحاشي مناقشة التوجهات العامة والأساسية للسلطة، وتحاول التركيز على كثير من المواقف والسلوكيات التي هي من مفرزات ضعف السلطة، وعدم تمكّنها من بسط السيطرة وحفظ الأمن وتأمين الخدمات، وحالة الفلتان التي ما تزال قائمة لدى بعض الفصائل والجماعات العسكرية. وبالمجمل، فإن جوهر رأي هذه الفئة، والذي لم تقله جهاراً بلسانها ولكن تفسّره مواقفها، هو الركون إلى الحكم السابق المنبثق من سلطة الإيديولوجيا، وليس من استلهام الوقائع مهما كانت بالغة الدلالة، وهي بهذا الموقف تناقض، بل تناهض ما يتكرّر في الأدبيات الديمقراطية: (ليس المهم من يحكم، بل كيف يحكم) أو المثل القائل (اعرف الحق، تعرف أهلَه).

ويبقى السؤال الأهم الذي يردّده حال الجميع: أليس التحوّل الذي طرأ على مواقف وسلوك القوى الدينية الحاكمة هو تحوّل لصالح القيم التي ينادي بها الديمقراطيون؟ أليس من المفترض في هذه الحالة أن يُواجَه هذا الموقف بالتشجيع وليس الشجب والرفض؟ ليس المطلوب الآن أو في أي وقت مجاراة السلطة أو الكفّ عن مراقبتها ونقدها وتصويب سلوكها، بقدر ما هو المطلوب النظر بموضوعية إلى توجّهاتها بعيداً عن اليقينيات السابقة. بل السؤال الأكثر أهميةً: ما هو المشروع الذي تملكه هذه الفئة من (الديمقراطيين) ويمكن أن يكون مشروعاً مقنعاً لدى السوريين وبديلاً عمّا لديهم الآن؟

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى