بصوت أم كلثوم وموسيقى السنباطي..الاستمرارية دين الدولة

عبد المنعم مصطفى

كل الأيام تتشابه، إلا هذا اليوم، الجمعة 9 حزيران/يونيو 1967، كنت قد تيقنت من هزيمتنا في الحرب، رغم بيانات عسكرية تكذب على استحياء، حاولت إخفاء الحقيقة.

إدلهم الظلام القسري، فيما كنا نتحلق حول الراديو بينما جمال عبد الناصر يقر أمام شعبه بمسؤوليته عن الهزيمة، معلناً تنحيه عن أي منصب رسمي والعودة إلى صفوف الجماهير، لكن الجماهير التي استأذنها ناصر في الانصراف خرجت عن بكرة أبيها، تعلن تمسكها بالقائد المهزوم وتطالبه بالبقاء في موقعه.

كنت بين هؤلاء الذين خرجوا مطالبين عبد الناصر بالبقاء، كان يوماً يشبه يوم الحشر، لا أحد في بيته، الناس في الطرقات جميعاً وكأنما خرج حتى الأموات من قبورهم ليطالبوا الرئيس بالبقاء في موقعه. كان تمسكنا ببقاء عبد الناصر، في جانب مهم منه، هو إصرار منا على تحميله مسؤولية الثأر بحرب نريد بها أن نهزم الهزيمة.

عقب انتهاء خطاب التنحي، بثت الإذاعة أغنية كتب كلماتها الشاعر صالح جودت ولحنها رياض السنباطي وغنتها أم كلثوم. كانت كلمات الأغنية التي أذيعت بعد دقائق فقط من خطاب التنحي تطالب عبد الناصر بالبقاء!!.. “قم واسمعها من أعماقي فأنا الشعب.. قم وادفعنا بعد النكسة وارفع قامة هذا الشعب ..إبقى فأنت حبيب الشعب”.

هل كانت أم كلثوم والسنباطي وصالح جودت على علم مسبق باعتزام عبد الناصر التنحي؟!.. ربما.. هل جرى تكليف الثلاثة بإعداد تلك الأغنية التي جرى بثها لبضع ساعات، إلى أن عاد عبد الناصر نزولاً عند إرادة الجماهير؟!.. ربما..

عاد عبد الناصر صبيحة العاشر من حزيران/يونيو، إلى موقع القيادة، متراجعاً عن قراره بالتنحي، نزولاً عند إرادة الجماهير، التي منحتها الهزيمة بعض الحقوق السياسية السليبة، كحق التظاهر مثلاً، كنا نعرف أن أمام عبد الناصر مهمة صعبة، عليه أن يعيد بناء الدولة للحرب، وأن يتخلص من أسباب الهزيمة، وهو ما جرى بالفعل في اليوم التالي لخطاب التنحي، فقد عاد عبد الناصر إلى الرئاسة، ولم يعد عبد الحكيم عامر إلى قيادة الجيش.

كنت أرى منذ وقت مبكّر أن الهزيمة حررتنا أو ينبغي أن تحررنا من ضغوط الحكم المطلق الذي ينبغي أن يخضع للرقابة الشعبية والمساءلة إن لزم الأمر، وكنت قد بدأت للتو أدرك العلاقة بين الاستبداد وبين الهزيمة.

تحت وطأة هذا التمرد الفكري الذي استفاد من الهزيمة لكسب بعض الحريات، امتلك عبد الناصر شجاعة الإقرار بالخطأ، وسعى إلى تطوير نظام سياسي داخل حاضنته الذاتية، لكن تداعيات الهزيمة العسكرية وانعكاساتها على المنطقة وعلى مصر كانت أشد قسوة من قدرة أي نظام سياسي مهما كانت شعبيته على الحد منها.

قبل أيام استعاد أحدهم تسجيلاً صوتياً لحوار دار بين عبد الناصر وبين الزعيم الليبي معمر القذافي، عقب قبول عبد الناصر لمبادرة طرحها آنذاك وزير الخارجية الأميركية ويليام روجرز في 5 حزيران/يونيو 1970،، لوقف إطلاق النار لمُدة 90 يوماً والبدء بمفاوضات بين مصر وإسرائيل لتنفيذ القرار 242، مما أشعل حملة سياسية وإعلامية  قادتها الجزائر والعراق وسوريا واليمن الجنوبي وليبيا (دول الصمود والتصدي لاحقاً)، تتهم عبد الناصر بالخيانة والاستسلام والانهزامية، وتطالب بالنضال من أجل تحرير كل فلسطين وليس فقط الأراضي التي احتلت في 1967.

في هذا السياق، حملت التسجيلات التي أسماها البعض تسريبات، حديث عبد الناصر كرجل دولة له حساباته، يدرك حقائق توازن القوى في الإقليم والعالم، عن أن التوازن العسكري ليس في صالح العرب، وأن الأولوية الآن يجب أن تكون لتحرير الأراضي التي احتُلت عام 1967، ويأتي بعد ذلك الأراضي التي احتلت عام 1948، وأن الهدف هو تحرير الأرض، فإذا كان من الممكن تحقيق ذلك بالوسائل السلمية فلا يوجد ما يمنع ذلك، قائلاً: “لو فيه فرصة لإزالة العدوان من مناطق 67 ليه أسيبها؟”، وأن الحكومات العربية التي تنتقد الموقف المصري لا يوجد ما يمنعها من حشد قواتها وبدء القتال ضد إسرائيل، وأن مصر لا تمنع أحداً من ذلك، بل إن عبد الناصر على استعداد لدعمها مالياً بخمسين مليون جنيه ولكن ليس بالرجال. وقال عبد الناصر إنه يفهم هدف الحملات الإعلامية المُعادية له ولمصر في الوقت الذي كانت فيه مصر هي الدولة الوحيدة التي تخوض الحرب. وخاطب المزايدين على مصر بعبارة “حلوا عنا”، مُذكراً بالحملات المماثلة التي وجهت ضده بعد توقيع اتفاقية الجلاء في عام 1954.

لم تشتمل التسجيلات التي جرى استدعاؤها على نحو مبتسر على أي جديد، فمعظم ما تناولته من أفكار سبق أن تحدث عنها عبد الناصر في خطبه العلنية، وفي إحداها عام 1970 تساءل عبد الناصر: “هل العرب هيحاربوا… ولا عاوزين الحرب تستمر حتى آخر جندي مصري!”.

التسجيلات التي أكدت أسرة عبد الناصر صحتها، عكست فارق النضج بين من أنضجتهم التجربة ومن استغرقهم ترف النضال الرومانسي الذي سددت مصر فاتورة باهظة ثمناً له. إذ يبدي التسجيل الصوتي انفتاح عبد الناصر على الحل السلمي مع إسرائيل، مُحذراً من أن دخول مواجهة عسكرية جديدة قد يؤدي إلى “نكبة جديدة” شبيهة بنكبة عام 1948. وخلال الحديث، دعا عبد الناصر الدول العربية التي وصفها بأنها “تزايد على مصر”، إلى حشد قواتها ومحاربة إسرائيل، قائلاً: “إذا كان حد عايز يكافح ليكافح.. إذا كان حد عايز يناضل ليناضل”.

وطالب عبد الناصر خلال المقطع الصوتي، بوضع أهداف محددة للمعركة مع إسرائيل، بدلاً من وضع شعارات رنانة وأهداف لا يُمكِن تحقيقها في ظل توازنات القوى والدعم الأميركي لإسرائيل.

التسجيلات أو التسريبات كما يسميها البعض، تثير التساؤلات مرتين، مرة بحسب توقيتها، ومرة بحسب محتواها. في ما يخص التوقيت، تبدو التسجيلات وكأنما جرى استدعاؤها لإسكات مدعي النضال ورافضي الحلول الوسط، في ظرف إقليمي ودولي يوشك أن يضع اللمسات الأخيرة على نظام إقليمي شرق أوسطي جديد تهيمن عليه إسرائيل وتفرض الولايات المتحدة خرائطه وموازين القوة فيه. ألم يكن عبد الناصر هو رمز التشدد عندكم؟! هذا هو عبد الناصر يقبل بالحلول الوسط ويتحداكم أن تذهبوا بسلاحكم إلى نضال تريدون منه أن يخوضه منفرداً.

وفي ما يخص المحتوى، توشك التسجيلات (المبتسرة) أن تقول للمستهدفين بها، أليس عبد الناصر هو صاحب مبدأ “أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”.. هذا هو عبد الناصر يعلن استعداده لقبول حلول وسط تفاوضية، لا تعيد بذاتها فلسطين إلى شعبها، لكنها تستوعب حقائق القوة وموازينها الإقليمية والدولية.

التسريبات التي ربما استهدفت الحث على المزيد من الواقعية، والمزيد من النضج، أعادت الانقسام بين عرب الحل وعرب الحرب. لكنها أثبتت أن في مصر دولة لا نظام، لها رؤيتها الخالصة التي لا تتبدل بتبدل الظرف ولا بتغير النظام، فما قاله عبد الناصر هو ما فعله السادات ودافع عنه مبارك وتمترس خلفه عبد الفتاح السيسي.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى