سوريون يمشون فوق الموت.. العودة إلى القرى محفوفة بالألغام

سامر القطريب / عز الدين زكور

من المرجح أن يعود عشرات آلاف النازحين والمهجرين السوريين في فصلي الربيع والصيف إلى القرى والبلدات التي لم يدمرها قصف النظام المخلوع وحلفائه فحسب، بل لا تزال تؤوي مخلفات حرب وألغام.‏ إذ تشير تقديرات الرصد الذي أجرته منظمة “halotrust” إلى أنه بحلول 2 آذار 2025، قتل وأصيب 640 طفلا وبالغا بسبب الألغام والمتفجرات الأخرى منذ سقوط النظام. ومن المحتمل أن يكون هذا أقل من الرقم الحقيقي إذ لا يوجد سجل مركزي للحوادث في جميع أنحاء البلاد، ومع محاولة المزيد من العائلات العودة سيرتفع عدد هذه الحوادث ليتحول الربيع السوري إلى “ربيع دام”.

ليس المدنيون العائدون وحدهم من يدفعون ثمن هذه المخلفات القاتلة؛ بل كذلك المتطوعون المستقلون الذين يخاطرون بحياتهم يوميا في أثناء محاولاتهم إزالة الألغام بوسائل بدائية وإمكانات شحيحة. فقد سجلت تقارير محلية سقوط العشرات من هؤلاء المتطوعين بين قتيل وجريح في أثناء قيامهم بعمليات تفكيك أو إزالة الألغام، من دون توفر التجهيزات اللازمة أو الدعم التقني، مما يكشف حجم المخاطر المروعة التي تواجهها جهود نزع الألغام في سوريا اليوم.

الموت يلاحق السوريين

“هذه كانت آخر صورة لي معهم”، يقول قيس، ويقلّب هاتفه بحثاً عن صورة أخرى قد تكون أكثر وضوحاً، ويستطرد: “هي الصورة بعد ما رجعنا بكم يوم.. في كفرنبل التي حرموا منها وما عرفوها إلا كم يوم، ورجعوا انحرموا منها مرة ثانية”.

كان “قيس المشهور” المنحدر من مدينة كفرنبل بريف إدلب الجنوبي، على موعدٍ مع فاجعة أنهت سعادته المنتظرة في العودة إلى مدينته بعد رحلة تهجير استمرت 5 سنوات، حين قضى طفلاه وابن أخيه ـ وحيدُ أهله ـ بانفجار لغم أرضي مزروع في حقل زراعي في محيط المدينة.

يقول “قيس” لموقع تلفزيون سوريا: “كان الأطفال سعيدين جداً بالعودة إلى المدينة، واللعب في ربوعها، بعد أن قضوا طفولتهم في مخيم صغير للنازحين، علماً أنهم عندما تهجرنا من كفرنبل كانوا صغاراً جداً، ولم يكونوا واعين لها، لكن ذلك من كثرة ما حدثناهم عنها وعن العودة.. العودة التي سرقتهم منا”.

“لم أودعهم”

ويضيف: “خلال لعبهم بالقرب من جذع شجرة زيتون في حقل قريب من المدينة، باعتبارهم فرحين في مدينتهم، داسوا لغما أرضيا واستشهدوا جميعاً ثلاثتهم، وصلني الخبر وأنا في مناوبتي بدمشق، وصلت بعد أن دفنوهم، ولم أستطع توديعهم”.

عاد “قيس” إلى كفرنبل، المدينة شبه المدمّرة وإحدى أيقونات الثورة في إدلب، بعد أن نجا منزله من التدمير، إلا من بعض التخريب والسرقة، ما شجّعه على اتخاذ قرار العودة فور سقوط النظام.

وشكّلت الحادثة حالة قلق لدى “قيس” من مخلفات الحرب والألغام على وجه الخصوص، ويقول في هذا السياق، خلال حضنه لطفله الصغير الناجي من الحادثة: “حتى هذا ـ يشير إلى الطفل ـ لم نعد نسمح له باللعب خارجاً، صرنا نخاف عليه، لم يبق غيره..”.

ومنذ سقوط نظام الأسد، تحصد مخلّفاته أرواح السوريين في مختلف المناطق، خلال عودة العائلات إلى مدنها وقراها، وبشكل يومي تسجّل الفرق الإنسانية حالات جديدة من الضحايا.

وسجّلت منظمة الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء”، وحدها، منذ تاريخ 26 تشرين الثاني من العام 2024، وحتى 13 نيسان الجاري، مقتل 75 شخصاً بينهم 16 طفلاً و8 سيدات، وأكثر من 109 إصابات بينهم 34 طفلاً و4 سيدات، نتيجة 71 انفجاراً لمخلفات الحرب، وهذه الأرقام لا تعكس حجم الضحايا الحقيقي، وإنما تشمل فقط من استجابت لهم فرق المؤسسة، في حين تسجل مناطق أخرى حالات يومية، مما لا تصل إليها الفرق، أو استجابت لها فرق إنسانية أخرى.

“رغم العودة.. لسنا آمنين”

“لا يرى فيها سوى مجرد خيال أسود”، يقول يوسف حلومة، والد الطفل محمد، الذي أصيب إثر انفجار عدة صواعق خلال لعبه قرب منزله في بلدة “معرة حرمة” بريف إدلب الجنوبي، تسببت في جروح بالغة بجميع أنحاء جسده، إلا أن عينه اليسرى كان لها النصيب الأخطر من الإصابة بعد دخول شظيّة فيها.

ويضيف “يوسف” لموقع تلفزيون سوريا: “تضررت العين المصابة بشكل كبير، ورغم إجراء عمل جراحي لها، أخبرني الطبيب أن المحاولات الحالية فقط للحفاظ على مظهرها الخارجي، بعد قطع زجاجي أصاب الشبكية نتيجة دخول الشظية”.

وبلغت كلفة العمل الجراحي الذي خضع له محمد 800 دولار أميركي، رغم الحصول على خصم، في حين تستمر، وفقاً لوالده، متابعة حالته الطبية في سبيل عدم تأثر العين اليمنى بالإصابة وحمايتها.

وتمثل الأزقة والأحياء السكنية، خطراً آخر على المدنيين، وليس فقط حقول الألغام، بسبب اتخاذها ثكنات عسكرية ومرابط مدفعية لتنفيذ الهجمات على القرى والبلدات القريبة من خطوط التّماس، مخلفة تركة كبيرة من الأسلحة ومخلفات الحرب.

ويختم “يوسف” حديثه: “مع الأسف رغم فرحتنا بالعودة، إلا أننا لسنا آمنين، في كل مكان أجسام غريبة ومهددة لحياة الأطفال، بالإضافة للدمار الحاصل في البلدة وما يخفيه تحته من أشياء قد تشكل خطراً علينا وعلى أطفالنا”.

حراثة أراضٍ ملغمة

منذ أكثر من شهر يستلقي محمد رحمو شاهين، على فراشه، يعاني من تبعات إصابة بالغة وعمل جراحي خضع له، إثر انفجار لغم أرضي، كاد أن يودي بحياته، زرعته قوات النظام المخلوع في محيط قرية “جدار معرة موخص” الواقعة بريف إدلب الجنوبي.

وجد “شاهين” ـ وهو ناجٍ من انفجار لغمٍ أرضي ـ في العودة إلى قريته بعد خمس سنوات من التهجير القسري، فرصةً لمزاولة عمله الزراعي، واستعادة مصدر رزقه الوحيد الذي حرمه التهجير منه طوال تلك الفترة، إلا أن حادثاً طارئاً أعاده إلى نقطة ما قبل العودة معيشياً وصحياً وأكثر سوءاً، على حدّ قوله.

يقول “شاهين” لموقع تلفزيون سوريا: “بعد العودة إلى القرية، كان محتماً عليّ أن أبدأ بعملي في حراثة الأراضي، عبر جرار زراعي، واستدنت مبلغاً من المال لإعادة صيانته، والبدء من جديد”.

ويضيف: “توجّهت إلى حقل زيتون في محيط قريتي، وعندما قاربت على الانتهاء، انفجر لغم أرضي تحت الجرار مباشرةً، ونتيجة الضغط حلّقت على علوٍ أكثر من مترين ووقعت على الأرض، ولولا لطف الله ومن ثم مقاومة الجرّار الصلبة، لكنت اليوم في عداد الموتى”.

“لم تنتهِ مأساتي عند هذا الحدّ”، يقول “شاهين” وهو يحاول أن يحرّك جسده، فارتطامه بقوة على الأرض نتيجة للانفجار، خلّف إصابة بالغة في العمود الفقري كانت تهدده بالشلل النصفي وعطب بالنخاع الشوكي، قبل أن يخضع لتدخّل جراحي سريع عقب الإصابة.

ويتابع: “تم إسعافي إلى مدينة إدلب وخضعت لعملٍ جراحي صعب تم فيه تركيب 8 صفائح و8 براغٍ معدنية، ويقول الطبيب إن التدخل الجراحي نجّاني من شلل لأن الإصابة أدت إلى تحطيم فقرات العمود”.

“فقدت مصدر رزقي”

فقد “شاهين” إلى جانب إصابته البالغة، مصدر رزقه الوحيد، بعد تضرر جزء من الجرار الخاص به، نتيجة لانفجار اللغم، وتتطلب عملية إصلاحه مبلغاً مالياً كبيراً، على حد قوله.

وعلى الرغم من عدم قدرته على العمل، تكلّف محدثنا بمبلغ 1600 دولار أميركي، أجور العمل الجراحي الذي خضع له، وما يزال ينفق على الأدوية وأجور المراجعات والمعاينات الطبية.

ويتوجّه في هذا الصدد، إلى المسؤولين والفرق الإنسانية إلى “ضرورة تعويض مصابي الألغام لمساعدتنا على النهوض من جديد وتأمين مصدر رزق لعائلاتنا لتمكين العودة إلى قرانا ومدننا المدمّرة التي تعاني أصلاً من انعدام تام للخدمات”.

علاء الطويل، أيضاً من مصابي مخلفات الحرب، يعاني حتى اليوم من إصابته بعدة قنابل كانت مزروعة في محيط منزل سكني في بلدة “معرة حرمة” بريف إدلب الجنوبي.

يقول “الطويل” لموقع تلفزيون سوريا: “عدنا إلى الضيعة قبل يوم من رمضان الماضي، مع مجموعة من الشباب، وكانت النية هي تنظيف المنازل وتفقدها.. حل المساء علينا وأجلنا العمل لليوم التالي حتى نباشر بأعمال التنظيف والترحيل، لكن لم أستطع فعل شيء لأن الإصابة وقعت في تلك الليلة”.

ويتابع: “ليلاً خرجت أشمّ هواء الضيعة بعد غياب طويل، وخلال تجولي في زقاق المنزل الذي نبيت فيه وهو لقريبي، تفاجأت أنه محاط بعدة قنابل متشابكة في أسلاك، وبدأت بالانفجار وأصبت على إثر ذلك ودخلت الشظايا لعدة نواحٍ في جسدي ونجح الطبيب في استخراج بعضها، وبعضها الآخر ما زال عالقاً”.

ويختم: “الحمد لله، لم تسبب لي الإصابة أي إعاقة.. لكن هذا الخطر ما زال يشكل عائقاً أمام عودة كثير من الأهالي”.

“الاحتياج الإنساني كبير”

يتطوّع بشار العمر، بعد سقوط النظام، لساعات طويلة يومياً في إزالة الألغام الأرضية في مناطق ريفي إدلب وحماة، مستفيداً من تجربة عمل في هذا القطاع بدأت من العام 2012.

يقول “العمر” لموقع تلفزيون سوريا: “بعد تحرير سوريا، اضطررت لترك عملي في القطاع الطبي كممرّض، وتطوعت فوراً للعمل في إزالة الألغام، لأن الاحتياج الإنساني كان كبيراً جداً.. عاينت من موقع عملي في قسم الإسعاف مئات الإصابات إثر انفجار مخلفات في مناطق التّماس سابقاً، واليوم أعمل بشكل تطوعي بالتنسيق مع وزارة الدفاع في إزالة وتفكيك وكشف الألغام بمختلف أنواعها المنتشرة في الأراضي والحقول الزراعية”.

يتلقى “العمر” عبر وسائل التواصل، بلاغات من الأهالي العائدين إلى مناطقهم، تفيد بوجود ألغام، وسرعان ما يستجيب لهم ويبدأ العمل بناءً على هذه الطلبات.

“الألغام الفردية هي الأخطر”

يتحدث “العمر” عن أنواع كثيرة من الألغام يتعامل معها يومياً، مثل ألغام الدروع وألغام الوثّاب والعنكبوتي، وألغام فردية مطمورة تحت الأرض، هي الأخطر، موجهّة للأشخاص، وأخرى مخصصة للآليات، وألغام معلّقة على الأشجار.

ويوضح في هذا السياق، أن “ميليشيات إيرانية، عمدت إلى زرع ألغام خارج الحقول المتعارف عليها عمداً، لتضليل عناصر النظام المخلوع ولمنع عمليات الانشقاق أو تسريب أماكن انتشارها إلى الفصائل المعارضة، وهذا يشكل تحدياً بالغاً في عمليات الإزالة، على اعتبارها منفردة وبأماكن متعددة”.

يقول “العمر” إن تخصص الألغام يعتبر نادراً، وتعاني الفرق من نقص حادٍ في الكوادر، وتزامن ذلك مع خسارة عدد من المتطوعين والعاملين في هذا المجال، نتيجة لانفجار ألغام خلال عملهم، ما أدى إلى حوالي 20 حالة بتر، فضلاً عن حوالي 30 قتيلاً من الفرق المتخصصة، وجميع الضحايا من ذوي الخبرة.

ويوضح محدّثنا، أن عدد الضحايا من الفرق الهندسية المتخصصة كبير جداً، مايشير إلى مدى خطورة نوعية الألغام المنتشرة وتعقيدها، ويشي بحجم المخاطر المترتبة على الفرق العاملة بالتعامل مع حقول الألغام في المنطقة، فضلاً عن أن بعض الألغام تقل فيها كمية المعادن المحرّضة لأجهزة الكشف، ما يصعّب من عملية الكشف عنها.

إلى جانب نقص الكوادر، يعاني المتطوعون، وفقاً لـ”العمر” من غياب التجهيزات اللوجستية مثل الحذاء المدرّع الذي يحظى بأربع قواعد، وأيضاً أجهزة كشف المعادن التي تساعد على اكتشاف الألغام الفردية المزروعة تحت الأرض، والستر الواقية كذلك، ويؤكد أن المتطوعين ـ وهو منهم ـ حاولوا تأمينها بشكل فردي لكن أسعارها مرتفعة جداً.

وكان عضو وحدة إزالة الألغام التابعة لوزارة الدفاع السورية، أحمد جمعة، قد قال إن الوحدة فقدت نحو 12 عنصراً خلال الأشهر الماضية في أثناء تنفيذ مهام إزالة الألغام في مختلف المناطق.

وأشار جمعة، في تصريح لوكالة “أسوشيتد برس” الأميركية، إلى أن ما بين 15 و20 فرداً من الفريق تعرضوا لإصابات خطيرة أدت إلى فقدانهم أطرافهم خلال عمليات إزالة الألغام.

وكان عدد من المتطوعين لإزالة الألغام قد قضوا مؤخرا خلال عملهم على تفكيك الألغام وإزالتها في عدد من المناطق السورية.

 واقع مخلفات الحرب في سوريا بعد سقوط النظام

تنتشر مخلفات الحرب المختلفة على رقعة جغرافية كبيرة جداً اليوم وتكاد تشمل جميع المناطق السورية بنسب مختلفة بين هذه المناطق وبأنواع ونسب مختلفة من التلوث بالذخائر غير المنفجرة والألغام الأرضية والعبوات الناسفة وغيرها.

ويقول سامي محمد “مدير برنامج إزالة مخلفات الحرب” في الخوذ البيضاء لموقع تلفزيون سوريا “كل هذه المعطيات أدت إلى زيادة أعداد ضحايا الحوادث الناتجة عن هذه المخلفات خلال الأربعة شهور الأولى بعد سقوط النظام فقد وصل عدد الضحايا لأكثر من 600 شخص قتلوا أو أصيبوا بسبب الذخائر والألغام أكثر من ثلثهم من الأطفال والنساء، ومعظم هذه الحوادث حدثت لمدنيين في أثناء عودتهم لمنازلهم وأراضيهم التي أجبروا على النزوح منها سابقاً”.

أنواع مخلفات الحرب وأكثر المناطق السورية ضررا

تعد القنابل العنقودية والألغام الأرضية المضادة للأفراد الأكثر خطورة وانتشاراً على الأرض السورية اليوم وفق “محمد”، حيث تنتشر هذه الأنواع من الذخائر على مساحات جغرافية كبيرة جداً وبأشكال وأنواع وألوان مختلفة ومخفية عن أعين الناس مما يزيد من خطورتها وتأثيرها السلبي الاقتصادي والاجتماعي والنفسي على المدنيين.

وتعد مناطق شمال غربي سوريا الأكثر تلوثاً بالذخائر غير المنفجرة والألغام الأرضية، وقد استطاعت فرق الخوذ البيضاء الوصول وتحديد 125 حقل ألغام في محافظات حلب، إدلب، حماة، واللاذقية لوحدها، كما قامت بتحديد حوالي 450 نقطة مؤكد تلوثها بالذخائر غير المنفجرة في نفس المناطق، بالإضافة إلى محافظة دير الزور حيث تم تحديد 16 حقل ألغام من قبل فرق الدفاع المدني وأكثر من 30 نقطة ملوثة بالذخائر غير المنفجرة.

ويوضح “محمد” أن نوع التلوث في دير الزور يعتبر من أصعب أنواع التلوث الذي يمكن التعامل معه بسبب تنوعه، إذ يشمل جميع أنواع المخلفات الحربية من ألغام وذخائر غير منفجرة وعبوات مرتجلة (ناسفة) وأفخاخ.

وفي آذار الماضي، نعت صفحات وحسابات سورية على نطاق واسع، الشاب محمد أحمد الحسين إثر مقتله بانفجار لغم أرضي خلال عمله على تفكيكها في البادية السورية.

وينحدر “الحسين” المعروف بـ”أبو دبّاك” من بلدة محكان بريف دير الزور ـ راعي أغنام ـ وتطوع في تفكيك الألغام مؤخراً على إثر مقتل والديه وعدد من أقاربه بانفجارها في منطقة البادية السورية.

وقال الأكاديمي السوري أحمد جاسم الحسين ـ قريب الضحية ـ في نعوة نشرها على منصة (X): “هذا الرجل الذي رحل قبل ساعات، وتم دفنه قبل ساعة.. بالمفهوم الدولي والإنساني بطل، يستحق أن تدرس تجربته كـبطل يجمع عليه السوريين.. لسبب بسيط أنه أنقذ حياة نحو مئة مواطن سوري من خلال تفكيكه عشرات الألغام الإيرانية في بادية منطقة الميادين/محكان/ محافظة دير الزور”.

كما تعتبر محافظة حمص من المناطق الأكثر تلوثاً ولكن  بدرجة أقل عما سبقها ويتركز التلوث بالألغام بمدينة تدمر والبادية السورية وبشكل كبير في حين تتلوث مدينة حمص والريف المحيط بها بالذخائر غير المنفجرة بشكل أكبر.

التحديات التي تواجه فرق الدفاع المدني

يقول “محمد” إن فرق الخوذ البيضاء غير مختصة بالتخلص من الألغام الأرضية وتطهير حقول الألغام وتعمل فقط على التخلص من الذخائر غير المنفجرة الأخرى “UXOs” وتقوم بتحديد حقول الألغام وتنسق مع الجهات المختصة بهذا المجال لتطهير هذه الحقول.

ويتابع “من أهم التحديات التي تواجهنا اليوم هو الرقعة الجغرافية الكبيرة المطلوب تغطيتها بالكامل ولهذا فنحن بحاجة لزيادة عدد الفرق والكوادر المدربة والتي تحتاج أيضاً لمعدات تقنية متخصصة تساعد في عملية التخلص النهائي من الذخائر وتطهير المناطق المختلفة من مناطق سكنية وزراعية وغيرها”.

“أيضا من الممكن أن يؤثر على عملنا سلباً القرار الأميركي بتوقيف الدعم الإنساني حول العالم مما قد يؤدي في مراحل متقدمة إلى إيقاف العمليات المتعلقة بهذا المجال بالكامل وليس فقط لمنظمة الخوذ البيضاء ولكنه قد يشمل جميع المنظمات المحلية والدولية”.

آليات وتقنيات رصد مخلفات الحرب

تجري فرق المسح غير التقني العاملة في الخوذ البيضاء زيارات ميدانية لمختلف المجتمعات المتضررة بداية من الأكثر تضرراً، وتجمع الفرق الاستبيانات من المجتمع المحلي من قادة كل مجتمع للسؤال حول الحوادث الناتجة عن الذخائر غير المنفجرة وتاريخ المجتمع من ناحية القصف وغيرها حتى تصل الفرق في النهاية للمناطق الملوثة بالذخائر وترسم خريطة لها ومن ثم ترسل المعلومات الكاملة عنها لفرق الإزالة أو التخلص النهائي من الذخائر التي تقوم ووفق أولويات العمل بالوصول للمنطقة وتطهيرها والتخلص من جميع الذخائر فيها بنفس المكان من دون تحريكها. وفق “محمد”.

كما تستقبل فرق الإزالة بنفس الوقت مئات البلاغات من المجتمعات المحلية حول الذخائر غير المنفجرة ويكون المبلغ قد بنى معرفته من خلال حضور إحدى جلسات التوعية التي تقدمها فرقنا حيث يتم التواصل مع غرف العمليات الموجودة في جميع مديريات الخوذ البيضاء الست في عموم المناطق السورية.

ويقتصر عمل فرق الإزالة والمسح بهذا المجال على تحويل المصابين بسبب مخلفات الحرب إلى المراكز الأخرى المختصة التابعة لقسم الصحة في المنظمة، حيث يوجد لدينا 6 مراكز متخصصة تقدم الرعاية الطبية الأولية ومن ثم تقديم جلسات العلاج الفيزيائي والرعاية النفسية للمصابين بإشراف كادر متخصص ومدرب على هذا الشيء.

الاستجابة السكانية

يؤكد مدير برنامج إزالة مخلفات الحرب في الخوذ البيضاءأن “الكثير من عناصر المجتمع يتفاعلون مع المعلومات التي تقدمها فرقنا خلال جلسات التوعية المباشرة التي تقدم لهم في المدارس والمخيمات والأراضي الزراعية وفي كافة الأماكن التي نستطيع الوصول للمجتمع بها، حصلت الكثير من التغيرات على مستوى سلوك المجتمع تجاه الذخائر غير المنفجرة بوقت سابق في شمال غربي سوريا قبل سقوط النظام من ناحية تقدير المواقف الخطرة والمشبوهة وإبلاغ المختصين عن أي مخاطر تواجههم مما جعل عدد الإصابات يقل بشكل كبير ما قبل ديسمبر 2024، ولكن مع عودة المدنيين إلى بيوتهم وقراهم التي نزحوا منها عادت الأرقام لتتصاعد من جديد ولكن على مستوى سوريا بالكامل”.

هل هناك تعاون مع منظمات دولية متخصصة في نزع الألغام؟

بحسب “محمد” يعتبر التنسيق مع الجهات والمنظمات الدولية والمحلية المتخصصة من أهم الإجراءات التي تقوم بها منظمة الدفاع المدني لتنظيم العمليات المتعلقة بمكافحة الألغام والذخائر غير المنفجرة وتقود المنظمة مجموعة العمل التقنية للمنظمات العاملة بهذا المجال في شمال غربي سوريا تحت مظلة الأوتشا، وهي اليوم عضو في جميع مجموعات العمل التقنية المنضوية تحت قطاع مكافحة الألغام في الأمم المتحدة.

كما أن منظمة الخوذ البيضاء عضو في اللجنة الدولية لحظر الألغام والذخائر العنقودية ICBL-CMC والتي تناصر عالمياً من أجل حظر استخدام هذه الأسلحة ضد المدنيين والمناطق الحضرية في العالم.

ماذا عن خرائط الألغام؟

ينحصر التنسيق اليوم على مستوى التنظيم ووضع الخطط مع جميع الأطراف المهتمة بالعمل بهذا المجال، والدفع باتجاه جسم وطني يتولى إدارة هذا الملف على مستوى سوريا، ويتولى الدفاع المدني موضوع وضع خطط وطنية لإدارة العمليات المختلفة بين المنظمات والحكومة.

 

وإلى الآن لا توجد أي خرائط تظهر حجم التلوث بالألغام والذخائر غير المنفجرة بشكل حقيقي في سوريا ومن المقترح أن يتم إطلاق مشاريع بهذا الشأن خلال فترة لاحقة من قبل وحدة الألغام في الأمم المتحدة UNMAS لمعرفة حجم التلوث في كل المناطق السورية لبناء الخطط المتعلقة بالإزالة على أساس ذلك، ومع ذلك لا تزال منظمة الخوذ البيضاء مستمرة بالعمليات من دون توقف معتمدة على جهودها الخاصة من نتائج عمليات فرق المسح غير التقني بالإضافة للاستجابة للبلاغات المقدمة من المدنيين والمجتمعات المحلية ومنظمات وفعاليات المجتمع المدني المختلفة.

نماذج مشابهة لسوريا.. التوجه نحو الحلول

مع تفاقم أزمة الألغام ومخلفات الحرب في سوريا، تبرز تجارب دولية مهمة يمكن الاستفادة منها في التعامل مع هذه الكارثة الإنسانية. عدد من الدول التي عانت من أوضاع مشابهة، استطاعت تحويل مساحات شاسعة من الأراضي الملغمة إلى مناطق آمنة بل وحتى مزدهرة. من بين أبرز هذه التجارب:

نموذج كمبوديا: التعاون المجتمعي والتكنولوجيا

عانت كمبوديا من انتشار كارثي للألغام بعد عقود من النزاعات، حيث قُدر عدد الألغام المنتشرة في أراضيها بأكثر من 6 ملايين لغم. لمواجهة هذه الكارثة، اعتمدت البلاد على عدة حلول مترابطة:

  • إشراف المجتمع المحلي: جرى تدريب سكان القرى عبر برامج مثل “CMAC” على كيفية تحديد الألغام والإبلاغ عنها، مما عزز من سرعة الاستجابة وكفاءة عمليات التطهير.
  • استخدام التكنولوجيا: وظفت كمبوديا طائرات من دون طيار وكاشفات معادن متطورة لرسم خرائط دقيقة للمناطق الخطرة.
  • دمج الناجين: شارك ضحايا الألغام في حملات التوعية، حيث تحولوا إلى “خبراء بالمعاناة”، ينقلون خبراتهم المباشرة للمجتمعات المهددة.

بفضل هذه الاستراتيجيات، نجحت كمبوديا في تطهير آلاف الكيلومترات من الأراضي، وسجلت انخفاضًا بنسبة 80% في عدد الحوادث المرتبطة بالألغام منذ عام 2000.

نموذج كولومبيا: إعادة تأهيل الضحايا وسن قوانين صارمة

شهدت كولومبيا أيضًا انتشارًا واسعًا للألغام بسبب النزاعات المسلحة الداخلية. تعاملت مع الأزمة عبر محورين رئيسيين:

  • برامج إعادة التأهيل: أُطلقت مبادرات لتوفير أطراف صناعية ودورات تدريب مهني لضحايا الألغام، بهدف إعادة دمجهم في المجتمع ودعم استقلاليتهم الاقتصادية.
  • تشريعات قانونية: سنّت كولومبيا قوانين تلزم الجماعات المسلحة بكشف مواقع الألغام كشرط أساسي للحصول على تخفيف في العقوبات خلال اتفاقيات السلام.

أسفرت هذه الجهود عن تطهير أكثر من 500 بلدة من الألغام بين عامي 2016 و2020، مما أسهم في تسريع عملية إعادة الإعمار والاستقرار.

نموذج البوسنة: التمويل الدولي والتوثيق الرقمي

بعد حرب التسعينيات، ورثت البوسنة مشكلة خطيرة من الألغام المنتشرة في أراضيها. تبنت البلاد نموذجًا قائمًا على:

  • التوثيق الرقمي باستخدام نظم المعلومات الجغرافية (GIS): أنشأت البوسنة قاعدة بيانات دقيقة توثق مواقع الألغام، وشاركت هذه البيانات مع منظمات دولية مختصة لتسريع عمليات الإزالة.
  • التمويل المشترك: خصص الاتحاد الأوروبي ميزانيات سنوية لدعم عمليات تطهير الألغام، مما ضمن استمرارية العمل وعدم تعثره بسبب نقص الموارد.

ونتيجة لهذه الجهود، تمكنت البوسنة من تطهير نحو 90% من المناطق الملوثة بحلول عام 2023، مقتربة من إعلان نفسها دولة خالية من الألغام.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى