رواد العوام: روائي سوري متميز، من الجيل الجديد الذي انجبته تجربة الثورة السورية وما تلاها، له عملين روائيين، هذا العمل الأول الذي نطّلع عليه.
غريق جنة الإغريق، رواية تعتمد أسلوب السرد الشبكي، حيث تطل على كل شخصيات الحدث الروائي، كشبكة اجتماعية لها علاقة بالحدث الروائي وتطوراته. كل الشخصيات المُتَابعين في الرواية ابطال، بمعنى تسلط الرواية عليهم الضوء، بذات اهمية شخصياتها الرئيسية، على فرض أن هناك شخصيات رئيسية، الرواية هنا ككاميرا السينمائي، كل ماتراه تصوره، وهي بمستوى آخر أقرب للدراسة الاجتماعية النفسية الانسانية وحتى السياسية للشخصيات وظروفهم المعيشية، لغة الرواية هي لغة شخصياتها، لا ترتفع فوقهم بتعالي ولا تنمق كلامهم او سلوكياتهم، هي حقيقتهم امام انفسهم، وداخل العلاقات الحميمية، الرواية ممتلئة بحكايا الواقع بكل صدقه وفجاجته، وفجائعه احيانا، لذلك نرى أن التزام الرواية بالمصداقية في سرد واقع اشخاصها وحياتهم هي قوتها وبراعتها. للرواية زمن ومناسبة، زمنها الواقع المعاش بالأمس واليوم وغدا، الربيع السوري وتبعاته، وأهمها اللجوء كمخرج للناس من واقع ماحصل مع السوريين. كل لاسبابه المختلفة واحيانا المتناقضة، لكنهم كلهم اتفقوا على ان سورية لم تعد قادرة على احتضانهم، لذلك لفظتهم خارجها، هم هاجروا هربا من الموت او الاعتقال او الاستمرار بالعيش تحت الخوف والجوع والحصار والتهديد، هربوا وراء حلم بحياة مختلفة وممكنة وقد تكون افضل.
تبدأ الرواية بوصول ثلاثة شباب سوريين هاربين منها الى طرابلس لبنان لهدف محدد وهو الهجرة إلى أوروبا. لا نعلم كيف التقى عماد وصفوان ونديم، ولا نعلم الكثير عن ماضيهم، الأكيد انهم التقوا على هدف اللجوء، ولا مشتركات اخرى بينهم، لا نتلمس الا بشكل عابر ظروف هربهم وبحثهم عن من يساعدهم باللجوء إلى أوروبا. نعم حديث عن بلاد تعيش حربا، وصراعا، وبراميل متفجرة وحياة أصبحت مستحيلة، لم يعد يهم لماذا قرروا الهجرة طالما هم أصبحوا يسيرون في طريقها. الشباب الثلاثة عماد وصفوان ونديم، يلتقون مع المهرب ابو طارق، الذي يعدهم بتأمين كل أسباب الهروب والوصول الى تركيا اولا ثم الى اليونان بعد ذلك، وعندها يكونون قد عبروا بوابة أوروبا. الشباب الثلاثة مختلفين في الخلفيات النفسية والتوجهات والأحلام، لذلك ومنذ وصولهم الى طرابلس ولقائهم بالمهرب ابو طارق وانتظارهم أن تؤمن أوراقهم المزورة والسفينة التي سينقلون بها الى مرمريس في تركيا. سيكون لكل واحد منهم حياته بدء من طرابلس وما بعدها، ونحن عبر الرواية سنطلع على حياة الشباب الثلاثة ومع من يتقاطعون و يتعايشون حتى تنتهي الرواية وتبين مآلات رحلة اللجوء بكل مافيها.
عماد: الشاب الذي يظهر ومنذ اللحظة الاولى في جميع تصرفاته، انه انسان انتهازي ومصلحي ولا تحكمه اي قيمة اخلاقية او اجتماعية، علاقته مع الكل قائمة على كيفية استغلال المحيط به للوصول لمصلحته، يبدو أن اللجوء عنده مجرد انتقال الى ظروف افضل ليتمكن منها من استغلال المحيط به واستثمار أي فرصة لتحقيق مصلحة ولو على حساب الآخرين. في انتظار وقت السفر الى تركيا، سيكون نزيل فندق، ويتعرف على الفيرا احدى عاملات الفندق ويكون بينهما علاقة جنسية وعشرة، وسرعان ما يوحي لها بانه يحبها، وقد يتزوجها، وانه لن يتخلى عنها. اما الفيرا فهي قد تجاوزت الأربعين وتحتاج من يحتضنها، ويعتني بانوثتها و يقنعها بانها ما زالت مرغوبة جنسيا ونفسيا، خاصة وأنها كانت تمر في مرحلة خريف لعلاقتها الجنسية مع عشيقها جرجي، حيث دامت علاقتهم لسنين، وأصبحت شبه روتينية و تفتقد للحيوية، كان عماد بالنسبة لافيرا قارب نجاة نفسي وجنسي، وخاصة انه أغدقها بالوعود بانه لن يسافر ويهجرها وسيبقى معها يعيشان حياتهما سوية، أطلعته على اسرارها وكل شؤونها وما لديها من مال، وما كان منه عند سفره الا ان سقاها حبوبا للنوم، وسرق أموالها و مصاغها وغادر الى تركيا. وقبل متابعة حياة عماد، سنعرف ان الفيرا تصاب بصدمة وتبتلع غدر عماد وتسكت عمّا حصل معها، وتعيد سيرتها الاولى مع جرجي الذي سيجري عملية جراحية ويعود لعشيقته الفيرا. جرجي الذي تعامله زوجته ومن بعد اولاده بأنه مجرد اب يقدم لهم بعض الخدمات، زوجته صارمة تعامله باستهتار واحتقار احيانا، متطلبة تريد منه أكثر مما يستطيع، لا يرى بها اي جانب انثوي او انساني حتى، وهي تراه مجرد رجل ساعدها بإنجاب الأولاد ويقدم لها بعض ما يكسبه من عمله لاعالة البيت، غير ذلك تراه زائدا عن الحاجة وتعمل دوما ليخرج من حياتها، لذلك كانت الفيرا عشقه و واحته التي أعطته بعضا من الحنان والحب وعاشا حياة اعتماد متبادل كل يحتاج للآخر ويريده. وبالعودة إلى عماد الذي اغدق المال على ابوطارق المهرب وأمن لهم رحلة بأقرب وقت الى تركيا، ليهرب بما سرقه من الفيرا، وهكذا حصل، لكن زميلية في الرحلة علما بما فعله مع الفيرا من خلال انطوانيت صديقة الفيرا بالفندق، وبدءا يلاحقانه ويلومانه على ما فعله، مما جعله يحقد عليهم وقرر ان ينتقم منهما وان يبعدهم عنه، خاصة أنهما شاهدان عليه في حياة قادمة يريدها دون أي شهود أو قيود، لذلك اتفق مع موسى المهرب التركي الذي تعرفوا عليه عند وصولهم مرمريس في تركيا، على سرعة ترحيلهم الى اليونان، تحت حجج واهية، وخاصة انه اغدق على المهرب بالمال، وهذا الاهم بالنسبة للمهرب، حيث وضعهما في زورق مطاطي (بلم)، مع ما يزيد عن الثلاثين شخصا، والبلم لا يسع لاكثر من النصف، لقد ركبوا البلم وهم مدركين انهم غارقون، لكنهم كانوا يعزون أنفسهم ويمنّونها بالوصول والنجاة وبناء حياة جديدة أفضل. لكن البلم سيقلب بهم سيموت نديم في البحر اما صفوان فيتم انقاذه ويبدأ حياته في مقدونيا. وبالعودة إلى عماد، فبعد أن تخلص من زميليه، فقد وجد أن الحياة في مرمريس صالحة له ليستثمر في موضوع اللاجئين السوريين إلى أوروبا والتحق بالعمل مع شبكة المهربين، وتعرف على الرجل الأول فيهم، وكان ناجحا في استدراج الناس للهجرة، واعتمد على القتل لإبعاد منافسيه في مهنته، وهكذا أصبح من أكبر المهربين للاجئين من تركيا الى اوربا. نجح عماد بكل قذارته أن يبني له إمبراطورية ووجودا ومصالح.
أما صفوان ثاني الشباب الذي اجتمع مع عماد ونديم في طرابلس لأجل اللجوء الى تركيا ومن ثم أوروبا، كان شابا عاديا صموتا، طيبا بالمعنى الاجتماعي، مستعد للتضحية وتقديم ماعنده لاجل تحقيق مطالبه، لذلك كان يستغله عماد في رحلتهما الى تركيا واوروبا. في طرابلس تعرف على انطوانيت عاملة الفندق الاخرى، التي وجدت به شابا يغذي حاجتها الجنسية والنفسية، والتي تأملت ايضا ان لا يتركها ويغادر الى تركيا، لكن صفوان سيسافر الى تركيا عبر المهرب ابو طارق، مع زميليه عماد ونديم، في سفينة فحم تحولت لنقل البشر، وعند وصولهم الى تركيا، وبعد معرفتهم بسرقة عماد لألفيرا ولومهم إياه على ذلك، سيعمل على تسفيرهم قبله في بلم خطر، ويغرقون ويموت نديم ويتم انقاذ صفوان ويبدأ رحلة اللجوء في اوربا.
اما ثالثهم نديم فهو مختلف انه مثقف ومطّلع ويعرف انه انما يقتلع من بلاده رغما عنه، لأن البلاد في ظروف الظلم والقهر والقتل والتدمير، لم تعد تستوعب أولادها بل تطردهم و تدفعهم للجوء، نديم اضطر أن يلجأ خارج سورية، وفي طرابلس كان مع الثنائي عماد وصفوان، عمل في مكتبة في طرابلس قبل السفر، احبه اصحابها، واحبته ام حنا تلك المرأة التي حولت بيتها الى شبه فندق تؤجر غرفه للقادمين الى طرابلس، أم حنا التي تفتقد لزوجها ابو حنا المتوفى، والذي كان مسيحيا، وضد اسرائيل مع الفلسطينيين أيام كانوا في لبنان في ثمانينات القرن الماضي، وهي رأت بنديم شابا خلوقا و صادقا وامينا، نديم الذي انتقل مع زميليه إلى تركيا في رحلة اللجوء، وعلما بسرقة عماد لالفيرا، ولاماه على ذلك وخطة عماد من أجل إغراقهم، وغرق نديم ومعاناته الأخيرة في البحر، حيث تتحول كل أعماله وطموحاته وانسانيته المهدورة لمجرد غريق في بحر هائج، تحوله لـ مجرد انسان هرب بروحه، لاحتمال أن يعيش حياة أفضل، لكن روحه هربت منه في عرض البحر وتحول لحكاية في رواية وكأنه لم يكن. ما ارخص الانسان السوري.
في الرواية اطلال على شكل شذرات معبرة، هناك جواب على سؤال لماذا حصل اللجوء ؟. و الجواب المختصر كان لأنه لم يعد هناك من حل للشباب السوري إلا الهرب من الوطن واللجوء لبلاد اخرى، تحتضن وتحمي وتساعد على بناء الحياة والإنسان.
وهناك اطلالة على الانظمة العربية كلها عموما انها انظمة استبدادية، الإنسان فيها رخيص ومصلحة الحاكم والطبقة المحيطة به فوق كل اعتبار ولاجلها البلاد والعباد مستباحة.
كما ان هناك ربط بين هذه الانظمة والغرب، الذي صنعها ودعمها وجعلها هكذا ليؤمن مصلحته، ومصلحة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. الغرب الذي دعم الأنظمة بفعل ما فعلت بحق شعوبها كرد على الربيع العربي وإهداره، ومن ثم استثمار اللجوء للحصول على عمالة جاهزة ورخيصة، ومصالح مختلفة. الغرب لا ينطلق إلا من مصلحته، ولا ينصر الشعوب وحقوقها المشروعة من حرية وكرامة وعدالة وديمقراطية.
تريد ان تقول الرواية إن اللجوء نتاج ظلم وقهر وقتل وتدمير بلاد الربيع العربي ، وأن الغرب صامت ومستفيد حتى من لجوء اللاجئين. غير الغرقى، لمن يصل طبعا.
تنتهي الرواية بمآلات الثلاثي عماد وأعماله المزدهرة في تركيا. صفوان ولجوئه لاوربا وبداية حياة جديدة ، ونديم الغريق الذي أراد ان يبني حياة جديدة فخسر روحه، آخر رأسمال يمتلكه.
في تحليل الرواية نقول:
نحن أمام رواية أخرى تنتمي لروايات الربيع السوري ونتاجاته، رواية الحالة المتحركة السورية وتبعاتها، رواية البشر الواقفين على حد الموت في البلاد او في البحار أو الظفر بالعيش في بلد اوربي قد يحصلوا فيه على بعض حقوق الإنسان.
رواية تغوص عميقا في حياة اشخاصها، كل اشخاصها ممتلئون بحياتهم و يعيشونها بكل قبول، بغض النظر عن حكم القيمة الذي نقوله نحن قراء الرواية.
الرواية تقول أن اللاجئين مشتركين في اللجوء، لكنهم مختلفين الى درجة التناقض في شخصياتهم ودوافعهم ومطالبهم، البعض منهم ينتمي للإنسان في نفسه ومحيطه وحقوقه والبعض يعيش كما كل البسطاء والعاديين وقودا للحروب او الهروب او ادوات قمع أو ارقام للموت والحياة، البعض سيئين الى درجة تتساءل لماذا يلجأون وهم من صنف النظام الذي دفعهم للجوء، لكنهم ككل ذئاب الارض يبحثون عن مصالحهم ولو على أشلاء الناس ودمائهم ولقمة عيشهم. والغريب أنهم هم الأنجح في استغلال الفرص والنجاح وبناء حياتهم في صراع الغابة المسمى العالم.
لا تمر الرواية على أصل بلاء اللجوء، وهو النظام المستبد المجرم الذي قتل وظلم الشعب عبر عقود، دمر نصف البلد وهجّر نصف الشعب وقتل فوق المليون إنسان غير المصابين والمعاقين. كان يستحق ان يتم ذكر ذلك لأنه أصل بلاء اللجوء وكل تبعيات قتل الربيع السوري.
نجحت الرواية في تقصي حياة شخوصها، ونجحت بإظهار الثقافة الواسعة للروائي كاتبها، أنه ابن العصر مطّلع ويعرف ما يحصل في بلادنا وفي العالم.
نجحت الرواية أيضا في سرد حياة الناس كما هي دون حكم قيمة ودون ابتذال او تستر. أرادت أن تعري الواقع، كعري المريض على سرير الطبيب. لعل ذلك ينفع في البحث عن علاج ما.
الرواية تنبئ بموهبة روائية لكاتب صاعد ننتظر منه ابدعات اخرى قادمة تردف الرواية العربية بالجديد المفيد والممتع.
٢٣/١١/٢٠١٩