لملمت أوراقي، واستجمعت أفكاري، وحوَّقت على كلماتي، ولسان الضاد الذي أنغرس فيه وأنغمس، محاولاً رسم صورة للقلب المغادر، وكنه الفؤاد المنقلع من جذوره، فوجدته هناك وليس هنا، وأنه غادر ولم يغادر، صحيح أن المغادرة مادياً قد حصلت، لكن الذات الروحية الوجدانية مازالت باقية هناك، وما يزال عبق الروح لا يمكنه المغادرة أبداً.. بل أكثر من ذلك.. يرفض أن ينتمي إلى سوى ذاك المغادَر منه رغم الإرادة، وفي مواجهة الانفلات في التلافيف …. وقفت أجيل الطرف بينما الراحلة تنهب الأرض نهباً.. فانهمرت دمعة لا إرادة لي فيها.. غادرتني دون علمي.. وأنا في حالة وجدانية – يعلم الله – أن لا قدرة لي على وصفها.. ولا امتلاك فعلي للتحكم فيها.
لم أكن أعلم أن الوطن يمتلك الجوارح إلى هذا الحد، ولم أكن أدرك أن العشق يمكن أن يُلجم المرء عن التحكم بالواقع، كما أنني لم أكن أدري أن هواء الوطن غالٍ إلى هذا المستوى، وعليل إلى هذا السمو…رفرف القلب، وهبط الضغط، واحمرت العيون، وهاجمت مساحة ذاكرتي تلك الذكريات على حين غرة، فأمسكت بتلابيب النفس وقلت: يا نفس اهدئي، ويا روح تمهلي، فلن تكون المغادرة أبدية، إن شاء الله.
ولن تكون الرحلة اقتلاعيه، فأنا أغادر منها إليها، ومنه إليه.. إن غادرت الوطن شكلاً، فلن يغادرني روحاً وعبقاً ووجداناً، وكيف أغادر من يسكن القلب والروح.. كيف أغادر من نمى حبه وانغرس بين الجوانح، منذ ولدت، بل لعله قبل المولد بكثير.. استنشقته مع كل نسمة عليلة أحاطت بي، في ربى أريحا وجبل الأربعين، ومع كل انبلاجة صبح طاولتني، أو طلتها منذ الازدياد الأول، إلى حيث أنا الآن.. وقبل قبل الآن في رحاب الشام شام الياسمين….
شام نزار قباني، ويوسف العظمة شام العزة والسؤدد والتاريخ الأموي العريق.. شام التي لم تغادرني يوماً.. جِلَّق التي في خاطري. وفي عقلي في ماضيَّ ومستقبلي، ذاك المستقبل الذي يرونه بعيداً وأراه قريباً.
في الرحلة والرحلة ذهاب وإياب، وحركة وفعل، والتفاف وتغيير وتدبير وتقدير، وهي أيضاً انتقال مؤقت إلى ساحات أخرى ومساحات مختلفة.. لكنها مطلقاً لن تكون في التضاد مع الانتماء … لكل شيء، للأرض والمعتقدات، للسماء والجبال الشاهقة.. للماء كما للهواء.. للناس كل الناس، الذين يمتلكون روحي، ويقتربون من شغاف قلبي، للوطن كل الوطن الواحد الموحد، الرافض للتجزيء، وشعبه المتآلف الخارج من التاريخ وإليه.. والمندرج في حضارة عربية إسلامية جذورها منغرسة فيه وإليه.
غادرت ولم أغادر.. رحلتُ ولم أرحَل.. أُحاول أماناً.. أحاول تغييراً، نحو الأفضل، والأكثر إشراقاً.. ونحو عودة ظافرة إلى أرض امتلكتني، قبل أن أمتلكها.. إلى ديار سكنت فيّ قبل أن أسكن فيها، وإلى سفوح هي حياتي كلها.. هي مستقبلي الذي لا قدرة لأحد على مصادرته أو الحؤول بيني وبينه… إليك يا وطني الجريح كل فؤادي.. وكل وجداني وكل دمي ودمعي وابتسامتي. إلى اللقاء.
813 2 دقائق