أمين معلوف روائي لبناني متميز مستقر في فرنسا، و ينشر بالفرنسية، و يكتب منذ عقود، وكانت اول ماكتب ” الحروب الصليبية كما يراها العرب”، واستمر بمدرسة روائيه متميزة وجديدة ؛ عبر استحضار التاريخ بطريقة روائية تجعله معاصرا بشمولية الحياة، ومجموعة رواياته اغنت الذاكرة الروائية العربية بالمفيد والممتع، منيرا للماضي، ومستخدما كل ذلك لفهم العصر الذي نعيش به، له سمرقند، حدائق النور، وليون الإفريقي ،وبدايات، وصخرة طانيوس ،وموانئ الشرق…الخ.
في هذه الرواية يحضر أمين معلوف معاصرا ولو بذهنية المؤرخ. بطل الرواية آدم ذلك الشاب اللبناني الذي غادر لبنان أيام أحداث السبعينات هناك ، التي ما زالت ملتبسة الاسم والفهم للان ؛ هل هي حرب اهلية، ام حرب بالوكالة، أم صراع طائفي، أم صراع القوى العظمى على أرض لبنان ودماء شعبها ؟ ، لم يقترب من الموضوع إلا عابرا كسبب للغربة فقط. آدم واحد من شلة شباب لبناني ،هو والبير وسمير اميس ورمزي المسيحيين، ونعيم اليهودي، ومراد وتالا خطيبته وبلال ورامز المسلمين، وكلهم شباب جامعي ، يجمعهم فكر فوق طائفي، وفوق وطني، انهم مجموعة ماركسيه تريد اعادة صوغ العالم، جاءت الاحداث اقوى منهم و تجاوزتهم وأثرت عليهم بالمباشر ، وفرطت عقدهم، مراد هاجر لفرنسا ، والبير لأمريكا، ونعيم للبرازيل، وبلال قتل بالحرب، ورامز رمزي استمرا في لبنان وصنعا امبراطوريتهم المالية، فصار بلدهم العالم. رامز استمر يعمل بالتجارة ، أما رمزي فقد اعتزل العالم ودخل سلك الكهنوت كراهب في الجبل، سميراميس استمرت في لبنان وصنعت لها فندقها في الجبل تعيش من ريعه، مراد مع تالا تزوجا واستمرا بالعيش في لبنان، وكانا جزء من نسيجه الاجتماعي والسياسي، ومن موبقات مجتمعه أيضا. تبدأ الاحداث عندما استدعي آدم للحضور ليودع صديقه مراد المحتضر بعد عقدين ونصف تقريبا، ويحضر ليجده توفي ، وليبدأ رحلة البحث في البلد وما هي مآلات اصدقائه، وعبر متابعة اصدقائه نتابع نصف قرن من المتغيرات العابرة والعاصفة في منطقتنا العربية ولا مانع من الغوص تاريخيا و فلسفيا ايضا. فآدم يعمل مدرسا جامعيا للتاريخ الروماني، ويكتب في المجال التاريخي ويستحضرة في العصر ، مسكون بهاجس أغلب مفكري القرن الماضي : لماذا تقدم غيرنا وما زلنا متخلفين ؟. يتابع الموضوع عبر اصدقائه، كيف رسموا صورة لعالم مستحيل في شبابهم؟!، كان قدره بيد القوى العظمى والفاعلة على الأرض، ولم يكونوا منها، وحتى لبنان كدولة كان مفعول به أيضا. مراد وتالا تزوجا واستمروا في البلاد؛ استثمر رصيده التاريخي كامكانيات إقطاعية، وواجهة لأطراف فاعلة، بقيت مستترة أو ظاهرة علنا في المسرح السياسي اللبناني ، الذي يضج بكل الفاعلين، بحيث من الممكن ان تتوقع ان يكون تابعا لأي طرف بدء من سوريا لاسرائيل للغرب ، وكلها تكهنات ذاتية، المهم صار جزء من لعبة الواقع وعيوبه وتعقيداته، وهنا افترق وجدانيا عن صديقة آدم الذي اعتبره خان أمانة الوفاء لأهداف عظيمة حملوها سوية، وهذا كان سبب تأخره بالمجيء إلى لبنان، وعندما يأتي سيجد لصديقه مبررا لما حصل، ولكن ليحول قراءته للحالة : من سقوط لفرد، لسقوط لمجتمع ومنطقة وعالم ؛ يتعامل مع حالتنا وبلادنا بمنطق السلعة، و المصالح بدمنا ومالنا وبلادنا، للان لم نصبح بشرا ولنا حقوقنا . سيأتي ويتواصل مع تالا زوجة مراد صديقتهم الجميله الأثيرة التي حظي بها مراد وتزوجوا، ويجدها تحاول تبرير ما حصل لتقول لكل أخطاء ، فالذي بقي خطأه أنه انغمس بالحياة بكل عيوبها ، أما الذي هرب، فخطأه أنه ترك المركب لمصيره يغرق، واعتمد الرجم من بعيد، وللكل بهذا المعنى خطأه. التقى مع سمير اميس في فندقها الجميل ، واستعاد معها مرحلة سابقة حيث كانت في باله مشروع حبيبه، استعاد معها حب ؛ اعيد كذكرى، وعبر تواصل جسدي بأثر متأخر، لآدم زوجة وحياة مستقرة، لكن لا يمنع أن النفس تنفتح على عالم ذهني واعتقادي، تتحرك وفق رؤية خاصة؛ ان ينال الإنسان من الحياة كل ما يتاح له لأنها فانية، وتذكر أنه بتقصيره عن اخذ المبادرة بمصارحة سمير اميس فكانت من نصيب بلال ؛ الشاب الحالم الثوري المثالي الذي تشبع بفكرة الثورة والتغيير من خلال الاطلاع على الأعمال الفكرية والأدبية، وعندما بدأت الأحداث في لبنان -سبعينيات القرن الماضي- وجدها فرصته ليحول افكارة لواقع، وكان ضحية أولى لثوريته المتوثبة، وقتل على حاجز، وتحولت سميراميس حبيبته الى يتيمة نفسيا، فحبيبها ورمزها النفسي قتل ، وهي بقيت تعيش علاقات عابرة ، مستمرة بحياة تسترجع الماضي بألم أو تستمتع بالحاضر بما يقدم. وتواصل آدم مع البير ايضا، صديقه الذي تركه وراءه قبل السفر ، الشاب اليتيم واقعيا ، فالأب في أمريكا اللاتينية ، والأم في أوروبا، وهما منفصلين ، وهو فاقد للإحساس بوجود الأهل، كانت الصداقة بديلة، وعندما فرطت شلته قرر الانتحار، وقبل تنفيذ ذلك خطف من عائلة لتبادل به على ابنها المخطوف ، لكن الابن المخطوف قتل، والعائلة تعرف ان البير يريد الانتحار، وتحول هم العائلة لإقناع البير بعدم الانتحار، وتتبناه وتعتبره عوضا عن ابنها الذي قتل ، ويخرج من الخطف إنسانا آخر يتمسك بالحياة ، ويهاجر الى فرنسا حيث آدم، ومنها الى امريكا ويدرس في علم المستقبليات، ويصبح واحدا من صانعي الرؤى المستقبليه في العالم ، وهنا نطل على دور أمريكا في صناعة العالم والاحتمالات المتنوعة وتحكمها بمساره ، كل ذلك وفق دراسات علمية وليس اعتباطا، ويتواصل مع آدم و يعلم بموت مراد ويدعوه آدم للعودة واللقاء بعد هذه السنين التي مضت، يرحب البير ويقرر المجيئ ليزور أهله الجدد ،خاطفيه، ويلتقي باصدقائه، يعني ومن بقي منهم. ويتواصل آدم مع نعيم صديقهم اليهودي الذي هاجر مع أهله الى البرازيل، ولنعرف قصة هجرة اليهود العرب عموما، بين الالتحاق بكيان “اسرائيل” الجديد والتحول الى اعداء، او الذهاب بعيدا والخروج من المعادلة “القاتلة “: بأنك جزء من يهود العالم الداعمين “لاسرائيل” العدوة الموضوعية للعرب والفلسطينيين، مهما حاولنا تجميل الصورة، ومع ذلك وعد انه سيأتي. وتواصل أيضا مع رامز؛ الذي صنع مع رمزي امبراطوريه انشاءات هندسية عالمية، اغتنت وكبرت من بناء القصور والسجون والمرافق الكبيرة، والتي أدت مع أزمات عائلية عند رمزي ليصل لمرحلة اعتزال العالم والتحق بالسلك الديني وأصبح راهبا . أما رامز فقد صنع مجده مع زوجة متفهمة و عائلة ناجحة ، وبرر توازنه بأنه من أبناء عصره، ولن يستطيع أن يغير معادلة العصر، فهناك الدول والانظمة والامر اكبر منه ، وعمل ضمن متاحه ليحقق حياة افضل له وليس نادما على شيئ ذاتي ، لكنه قد لا يرضى بعصره، ولا بمجتمعاتنا العربيه، مع اعترافه بعجزه عن فعل اي شيء، وانه عمل لخلاصه الذاتي . وعندما علم بخطة اللقاء تشجع لها، كما زار- آدم- رمزي في ديره ،الذي أصبح يدعى به الأخ باسيل، والذي اعترف لصديقه بأن ظرفه الخاص كان أحد أسباب اعتزاله العالم، وان الظرف العام كان له دورا أهم، فلمن نبني السجون والقصور والمنتجعات ؟!!؛ انهم لمن يمتصون دماء الناس، واما عن الثروة المتراكمة فبعد حد معين اسمه الأمان الشخصي يصبح الموضوع مجرد ارقام، وركض وراء وهم تراكم مالي يصنع وهما متراكما ، لن يغير حقيقة كوننا في وجود متاهة، وذاهبون لعالم مجهول، او معلوم، لكنه غامض واننا والفناء واحد، باسيل له مبرراته لما فعله، وراض عن نفسه، وسعيد ايضا في منفاه او متأمله الخياري، خاصة بعد وفاة زوجته المتطلبة والموسوسه، تنكر أولاده له ،وتفرقوا في اقطاب الارض، مع ذلك فهو سعيد ان يلتئم شمله مع اصدقائه.يتواصل آدم أيضا مع نضال الاخ الاصغر لبلال، الذي كان يتابع آدم عن كثب وتنظيرة التاريخي، وكان الجواب الاسلامي عنده هو الرد على عداء الغرب وصناعته “اسرائيل” ، ودعمه للأنظمة الاستبدادية، الغرب الذي فهم انه وراء كل العلل، وأن الحل هو العودة للأصل الإسلامي، وإننا بخير لولا الغرب وأفعاله، هو عمى من طرف واحد ، ولا يحسب به اننا ممتلئين بالأخطاء، وعد نضال انه سيحضر اللقاء ايضا، لكن الاجتماع سيحصل ولن يكتمل؛ لان صانعه يأخذه قدرة الى ثبات سريري في حادث سير، عندما ذهب لاحضار باسيل، وذهب ضحيته باسيل والسائق.
هنا تنتهي الرواية. وفي تحليلها نقول : ان الحالة المجتمعية والدولية وارهاصات الربيع العربي حاضرة بكل قوة. في الرواية مفاصل كثيرة جدا ، رائعه تقنيا ، ممتعة، تنتقل بسلاسة بين الخاص والعام، الحاضر والماضي ، المحلي والعالمي، العقلي والوجداني والفلسفي. للرواية رسائل عدة تشرح سبب قدرنا العربي المعاصر، وإن قاربت الغرب، فالجواب الجاهز هو قابليتنا لما أصابنا، جواب صحيح لكنه غير منصف، وغير دقيق علميا ، منذ قرن ويزيد دخلنا في عصر التحكم العلمي بالمجتمعات الغربية والعالم كله، فنحن لسنا مطلقي الحرية بصناعة مستقبلنا، ففلسطين لا يخفف من كارثية ما حصل بها وبشعبها أن اليهود اضطهدوا في الغرب اثناء الحرب العالمية الثانية، وهذا الجرح سيبقى مفتوح حتى يعالج بشكل صحيح ، عودة الفلسطينيين وتشكيل دولتهم ورحيل الأغراب أو ذوبانهم . ولا توريه هنا او مجامله، والسؤال الاخر: هل فعلا لم ندخل – نحن- العصر الديمقراطي بإرادتنا الذاتية؟، أم منعنا من ذلك بالدعم المطلق للانظمة التابعة للغرب ومصالحة مع “اسرائيل” طبعا ؟!!. نعم إن الغرب لم يكن -عمليا- بالنسبة لنا إلا قوة قهر وطغيان، منعنا من التحرر والتقدم وتحقيق العدالة ، وزرع بارضنا وعلى حساب شعبنا كيان غاصب مرعي دوليا.
هكذا تكتمل صورة الروايه لو أرادت أن تكون شهادة على عصر، وهي مقدمة لعصر جديد بدأ مع الربيع العربي رغم كل المتاعب المصاحبة لذلك .فما زال الاعداء الثلاثي “الغرب واسرائيل والانظمة الاستبدادية التابعة” متحدة ضدنا من عقود، وما زلنا نعمل للانتصار لحريتنا وكرامتنا والعدالة والديمقراطية في بلادنا العربية.
والصراع مستمر.
…٩ /٤ /٢٠١٨م