
في واحدة من أكثر الخطوات إثارة للقلق في المرحلة الانتقالية السورية، وضمن سياق لم تُحسم فيه بعد أسئلة السيادة والتمثيل والمحاسبة، يُطرح الحديث عن توافق أميركي مع دمشق حول دمج المقاتلين الجهاديين المتشددين/الأجانب ضمن هيكل “الجيش الوطني الجديد” في سوريا.
تتجاوز هذه الخطوة بعدها الإداري أو العسكري لتطرح ضمناً، سؤالاً أكبر حول طبيعة البنية التي تُبنى باسم “الجيش الوطني”، فهل تستطيع المرحلة الانتقالية إنتاج نموذج وطني يستند إلى بناء مؤسسي جامع، لا إلى دمج التشكيلات العابرة للهويّة الوطنية في مؤسسات تُفترض أنها تمثل إرادة السوريين جميعاً وحماية أمنهم وحدودهم ضمن مبادئ ومنطلقات وطنية؟ وحتى هذه اللحظة، لا تظهر معالم واضحة لعقد وطني حقيقي يعيد تعريف الانتماء والتمثيل على أسس مدنية وشاملة.
هذا التوجه لا يستند إلى منطق الدولة المؤسسية وإنما ينطلق من ترتيبات ميدانية فرضها الواقع بعد انهيار نظام الأسد. فالمؤسسة العسكرية التي يُفترض أن تكون تجسيداً لسيادة جامعة، تبدو هنا وكأنها تُشكَّل كوعاء احتوائي لمجموعات مقاتلة ارتبطت بسياقات عابرة للهوية الوطنية، وليس كمؤسسة تُبنى على أسس تمثيلية تعبّر عن رؤية مشتركة لمستقبل سوريا.
يتكشّف خلف قرار دمج المقاتلين الأجانب ما هو أبعد من احتمالية تسوية مؤقتة؛ إنّه تموضع خطير خارج منطق الدولة ومفهوم الوطن، يستند إلى توازنات قسرية فرضتها خرائب ما بعد الحرب. فحين يُمنح مقاتلون أجانب، لم يخضعوا لأي مراجعة فكرية جذرية، موقعاً داخل البنية العسكرية السورية الجديدة، فإننا نشهد إعادة تعريف خطيرة لهوية المؤسسات.
إنّ السلطة الانتقالية، تُقدم على خطوة من هذا النوع وكأنها تملك تفويضاً سيادياً لا يملكه إلا برلمان منتخب، ولا يصدر إلا عن عقد اجتماعي ناضج. فقرار تجنيس أو إدماج مقاتلين غير سوريين، لا يمكن النظر إليه إلا كفعل تأسيسي يُسقط الحدود الفاصلة بين الدولة والتنظيم، وبين الوطن ومشروع “الأمّة” العابر له. إذ في غياب مساءلة حقيقية أو محاسبة عادلة، وفي ظل فراغ تشريعي شامل، يغدو كل قرار في هذا السياق متجاوزاً لصلاحيات المرحلة الراهنة.
المقاتل الذي يتبنّى عقيدة لا ترى في الوطن إطاراً سيادياً ولا في الدولة مرجعية سياسية، لا يمكن تجنيسه وإدماجه في مؤسسات يُفترض أنها تمثّل العقد الاجتماعي الجامع. إذ يتحوّل مثل هذا الإدماج إلى صيغة تعايش قسري بين مشروع الدولة ومشروع “الدولة–الظل”، بكل ما يحمله من مخاطر تقويضية للبنية المؤسسية الوليدة.
ذلك أنّ العقيدة التي يحملها كثير من هؤلاء المقاتلين لا تتأسس على مبدأ المواطنة، ولا على التراتب القانوني–الدستوري، وإنما على منطق الولاء للعقيدة العابرة، حيث تتحوّل “الأمة” إلى تصور ميتافيزيقي يغيب فيه الوطن كإطار سياسي وقانوني جامع، وتذوب الدولة أمام تصوّر أممي للشرعية، لا يعترف بالجغرافيا ولا يعوّل على السيادة، وإنما يختزل الانتماء في العقيدة العابرة للحدود.
في هذا السياق، يتعدى إدماجهم المشكلة الأمنية أو الديمغرافية، إلى أزمة تأويل للدولة ذاتها ومجالها الرمزي. فبُنية الجيش إن كانت حاملة لمشروع وطني، يجب أن تقوم على سردية سيادية داخلية، لا على مساكنة قسرية بين سرديات متضادة؛ سردية المواطن الذي يسعى لاستعادة الدولة، وسردية المقاتل الذي لم يدخل الحرب لأجل الوطن بل لأجل نصوص العبور إلى “التمكين”.
تُحذّر العديد من الأدبيات النقدية للدراسات الأمنية، خصوصاً تلك المتأثرة بأعمال باري بوزان وأوليه ويفر، من أنّ الدول الخارجة من النزاع تميل أحياناً إلى “أمننة” خياراتها من دون عقلنتها، أي تسويغ الاستثناء باسم الضرورة، حتى لو أدى ذلك إلى إعادة إنتاج شروط النزاع نفسه. وبهذا المعنى فإن دمج المقاتلين الأجانب من دون إعادة تفكيك مشروعهم العقدي–الذهني، بالإضافة إلى أنه لا يسهم في بناء الاستقرار، فإنه يتجه إلى خلق “أمننة متفجرة” قد تنفجر لاحقاً في وجه أي عملية سياسية.
المقصود بـ”الأمننة المتفجرة” هو أن يُعاد إنتاج الخطر كعنصر مكوّن داخل بنية النظام الأمني ذاته. ففي حالة إدماج المقاتلين الأجانب، تتشكل نواة صراعية داخل الجيش نفسه، تنتمي لعقيدة مغايرة أو مناقضة للعقيدة الوطنية. ما يعني أن الأمن هنا يُبنى على تساكن هش بين روايات متضادة، سرعان ما يمكن أن تنفجر على شكل صراعات داخلية، انشقاقات، أو حتى تمرّدات. وبذلك تتحول المؤسسة من ضمانة استقرار إلى بيئة كامنة للعنف المؤجل، ومن أداة ضبط إلى مسرح لاحق للفوضى المُمأسسة.
لقد بات واضحاً أنّ لدينا معضلة حقيقية تتجاوز مسألة دمج وتجنيس المقاتلين الأجانب وتتجه كمؤشر نفي صريح لأي محاولة لتأسيس دولة مدنية، وهو ما يُنذر في المستقبل القريب بعودة العنف، كعُرف جديد قد يتم تبنيه تحت غطاء الحاجة والاستقرار.
في هذا السياق، يمكن استحضار مفهوم تفكك السيادة كما تناولته دراسات الحوكمة العابرة للدولة، ولا سيما في أعمال ستيفن كراسنر حول “السيادة المفككة” التي تُمارس فيها السلطات من قِبل جهات متعددة خارج الإطار الوطني. فحين تُنتزع أدوات العنف من يد الدولة وتُوزّع على شبكات تتقاطع مصالحها ولا تتقاطع هوياتها، تغدو السيادة مجرد قشرة رمزية، ويبدأ الحقل الأمني في التآكل من الداخل.
لكن التحوّلات الحساسة في المشهد السوري لا تقف عند ملف دمج وتجنيس المقاتلين الأجانب. فالتصعيد الإسرائيلي الأخير في الجنوب السوري يبدو أنه يتجه نحو مرحلة أكثر تعقيداً وحساسية، فالضربات التي طالت مواقع متفرقة، لا يمكن قراءتها إلا كمؤشرات على محاولات متزايدة لإعادة ترتيب خطوط النفوذ الأمني والعسكري، بعيداً عن أي إطار تفاهم معلن.
هذا النمط من الاستهداف يعكس رغبة إسرائيلية واضحة في فرض وقائع جديدة على الأرض، من دون المرور عبر المسارات السياسية المعتادة. كما أن الحديث المتنامي في تقارير غير رسمية عن ترتيبات محتملة في الجنوب السوري، ومن ضمنها الحديث عن مناطق عازلة أو خطوط فصل، يعكس اتجاهاً إقليمياً تروج له وتتبناه إسرائيل لإعادة هندسة الجغرافيا الأمنية، في منطقة شديدة الهشاشة، لم تتبلور بعد فيها معادلات الاستقرار الدائم.
ما جرى ويجري هو تفكيك تدريجي لبنية الردع التقليدية التي كانت تُحيط بجنوب سوريا، مقابل بناء نمط جديد من “الضبط بالاختراق”، أي أن الأمن سيُفرض من خارج الحدود، ضمن توازنات إقليمية شديدة التعقيد. وفي ظل الفراغات السياسية والدستورية التي تشوب المرحلة الانتقالية، تُصبح الجغرافيا الجنوبية مرشّحة لتكون مسرحاً لتفاهمات فوق–وطنية، لا تعكس بالضرورة المزاج الشعبي، ولا تستند إلى عملية تفاوضية شاملة أو عقد وطني معلن.
وإذا كانت بعض الدول بعد النزاعات تعتمد على إعادة بناء مركز الثقل الوطني من أطرافها الحدودية، فإن ما يحدث في الجنوب السوري قد يُفهم في غياب مسار سيادي شامل كمحاولة لتثبيت نموذج أمني هش، يعتمد على توافقات صامتة أكثر مما يستند إلى عقد سياسي موحّد.
في هذا المعنى، فإن التحدي يندرج ضمن ضرورة الحفاظ على الجنوب بوصفه جزءاً من الجغرافيا الوطنية الجامعة، لا كمنطقة أمنية ملحقة بخارطة مصالح إقليمية.
ووسط هذه التطورات، يبرز الجنوب السوري كساحة اختبار حقيقية لتحديات الأمن والسيادة والاستقرار، ويضع الجميع أمام مسؤولية حماية هذه المساحة من الانزلاق إلى معادلات تتجاوز منطق الدولة، وتفتح المجال لتفاهمات تتشكّل خارج الأطر الوطنية الجامعة.
المصدر: تلفزيون سوريا