لا يزال مفهوم العروبة، لدى القطاع الأوسع من العرب، يأخذ قيمته من الماضي أكثر كثيرًا من الحاضر، وكأننا إزاء مفهوم ثابت غير قابل للتغيّر، لا تاريخي، خارج الزمان والمكان، على الرغم من أن أي مفهوم هو حصيلة معارك ثقافية سياسية وحوادث سياسية وتفاعل مع الواقع الراهن وتجاوب مع تحديات المستقبل.
ظهر مفهوم العروبة في ميدان الصراع مع الأتراك، في لحظةٍ كانت القومية التركية تتعامل فيها باستعلاء وازدراء مع العرب، وقد أثّر ذلك في تكوينه وفهمه، ووسمه بسماتٍ أولية لا تزال تطلّ علينا؛ أولًا، سيطرة النهج الدفاعي على فهمنا للعروبة، فقد استخدمت العروبة في بداياتها في مواجهة اتهامات الأتراك للعرب وتاريخهم القبلي القائم على الغزو، وللغتهم أنها عاجزة عن استيعاب التطور الحضاري. ولكن هذا النهج الدفاعي أصبح من مستلزمات فهم العروبة والحديث عنها عند التعاطي مع الخارج أو الآخر أو عند التمايز عنه. وثانيًا، النظرة الرومانسية التي تجلت بسيطرة الرغبة في استعادة أمجاد الماضي على الخطاب العروبي، ما أدّى إلى التركيز الروحي والوجداني على صفات العربي وأخلاقه في الشجاعة والكرم والمروءة وإغاثة الملهوف، وغيرها من الصفات، وكأن هذه الصفات صفات جوهرية، ولا يعتريها التغيير عبر الزمن، وخاصة بالعرب كلهم، ولا تخضع للتفاوت والتفاضل بينهم، ولا يُتوقّع أن تكون غائبة عن العربي. وثالثًا، الدمج بين العروبة والإسلام، بصيغة لا تجد فصلًا بينهما، مع التركيز على قداسة لغة القرآن، وأن الإسلام وليد العروبة، ما حمَّل الأخيرة شكلًا من الاعتزاز، على اعتبار أن العرب هم الذين نشروا الدين الإسلامي.
مع ساطع الحصري، اكتسبت العروبة بعدًا ثقافيًا يرتكز على اللغة العربية، وأصبح العربي ذاك الذي يتحدّث العربية، لا من كانت أصوله عربية، ومع قسطنطين زريق أُثيرت مسألة فصل الدين عن الدولة، في محاولةٍ لإنضاج فهم آخر للعروبة، فيما حاول مؤسِّس حزب البعث، ميشيل عفلق، التركيز على الواقع الحاضر في فهم العروبة، فربطها بالحرية والاشتراكية من جهة، وبالتخلص من التخلف والاستعمار من جهة أخرى، لكنها تحوّلت تدريجًا إلى أيديولوجيا قومية لحزب سياسي، ومن ثم إلى أيديولوجيا دولة طاردة لغيرها، لكن النفحات الوجدانية ظلت تطل برأسها دائمًا “الرسالة الخالدة”، بينما ركّزت الناصرية على الممارسة السياسية أكثر كثيرًا من الركون إلى مقولاتٍ أيديولوجية أو نظرية ثابتة، وكان ربطها بالاشتراكية والحرية يأتي من واقع المصالح السياسية ومواجهة الظلم الذي يتعرّض له العرب.
عمومًا، ظلت العروبة في الوعي العام تحتوي ضمنيًا مجموعة من العناصر؛ الخطاب الدفاعي ضد الآخر، ارتباطها بالإسلام، ارتباطها بالقبلية العربية، الرومانسية والروح الوجدانية، قداسة اللغة العربية، الرسالة الخالدة للعرب .. إلخ، وهي العناصر التي حرمتها، عمليًا، الوضوحَ من جهة، والتجدّدَ من جهة ثانية.
إعادة اكتشاف العروبة
ليس من الصعب اكتشاف أن بلاد العرب وصلت إلى طريق مسدود على المستويات كافة؛ فقد تعرّضت لهزائم فعلية كبيرة أمام الخارج (هزيمة يونيو/ حزيران 1967 أمام إسرائيل، الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982، هزيمة العراق عام 1991، الاحتلال الأميركي للعراق 2003، وغيرها من الهزائم)، وأصبحت البلدان العربية مجتمعةً لا تشكل أي خطر على إسرائيل، وإيران موجودة في أربع عواصم عربية، فضلًا عن تغلغلها في النسيج الاجتماعي لبلدان عدة، وانفجرت الهويات الإثنية والطائفية في بلدان عدة في إثر ثورات الربيع العربي، فضلًا عن الفشل على مستوى التنمية الاقتصادية، وغيرها. يصبح والحالة هذه طرح أسئلة العصر الراهن أمرًا ملحًا؛ ما تصورنا للعروبة اليوم؟
ليس جديدًا القول إن العروبة في حاجةٍ إلى تخليصها من تراث الاستبداد، ومن الحزبوية، ومن اختزالها في الأيديولوجيات القومية، والذهاب بها إلى فضاءات إنسانية وكونية مفتوحة، وهذا غير ممكن من دون بيئة ديمقراطية. لا تحتاج العروبة إلى التقديس أو الأسطرة أو إلى حقنها بمشاعر الاستعلاء، بل إلى تجذير وتعميق بعدها الإنساني والكوني المنفتح على العالم والحداثة؛ عروبة معاصرة تؤمن وتعترف بالدول الوطنية، وباللامركزية الديمقراطية سبيلًا لإدارة مجتمعاتها، ما يعني أن العروبة أمامنا لا خلفنا، وأنها تحتاج إلى صناعةٍ وإعادة إنتاج في ضوء الراهن والمستقبل.
تسييس العروبة وأدلجتها يماثلان تسييس الإسلام وأدلجته، وكل منهما، التسييس والأدلجة، يؤدّي إلى خفض العروبة أو الإسلام من فضاء عام، ثقافي وروحي، إلى أدوات سياسية خاضعة لمصالح هذه الفئة أو تلك، أو إلى أيديولوجيا خاصة بحزب أو جماعة، ما يخرجهما من إطار الإنسانية والعصر، ويبقيهما حبيسيْن في العصبوية والانغلاق. أن يكون المرء مع الإسلام دينًا يختلف عن أن يكون مع تنظيم إسلامي بعينه ذي أيديولوجيا إسلامية محدّدة، ومصمَّمة وفق مقاسات أصحابها ووعيهم؛ فتجسيد الإسلام في تنظيمات دينية ستنزل به من مساحة العام إلى الخاص، ومثله اختزال العروبة أيضًا في الأحزاب القومية وأيديولوجياتها، ما يفقدها، بالضرورة، عموميتها وانفتاحها على التجديد، ولتتحوّل، من ثمّ، إلى منظومةٍ خاصة ومغلقة، وهذه تتحوّل تدريجًا إلى أداة قهر وظلم لأصحابها وللآخرين.
لا وجود للوطن من دون المواطن، والعكس صحيح. ولا وجود لهما من دون الدولة السياسية. وبما أنه لا توجد واقعيًا دولة عربية موحدة تعبِّر عن العرب، فإنه من المنطقي القول إن مصطلحات مثل “وطن عربي”، “مواطن عربي”، “الشعب العربي”، وغيرها ستظلّ بلا معنى، لأن وجودها مرتبط أساسًا بوجود الدولة. كذلك، مصطلح “المواطنة العربية” هو الآخر يفتقد إلى التجسيد، فالمواطنة تعني وجود حقوق وواجبات لهذا “المواطن العربي”، وتعني وجود علاقةٍ قانونيةٍ حقوقيةٍ تربط المواطن بالدولة، ما يفترض بداهةً وجود “دستور عربي”، وتعني أيضًا وجود “جنسيةٍ عربية”، لأن الجنسية عنصر أساسي في تحديد الهوية، وهذه لا يمكن الحصول عليها إلا من خلال الدول القائمة بالفعل. كل ما سبق غائب، ونحن بالكاد اليوم نستطيع الحديث عن ثقافة عربية، لكنها أيضًا، في غياب الدولة العربية الموحدة أو في غياب الدول الوطنية، تبقى ثقافة كسيحة.
كان قوميون عرب كثيرون يرون أن العرب شعب واحد وأمة واحدة، وكان ماركسيون عرب كثيرون يقولون “إن العرب شعب واحد يتفرع إلى أمم متعدِّدة هي الأقطار العربية”، في حين كان جمال عبد الناصر أقرب إلى الحقيقة، عندما اعتبر العرب أمة واحدة مؤلفة من شعوب. لكن الحقيقة السياسية، في ضوء الراهن، ترى أن مفاهيم مثل الشعب والأمة ليست معطىً ناجزًا، بل إنها تحتاج إلى صناعة، ما يعني أن العرب يمكن أن يكونوا شعبًا وأمة عندما يبنون دولتهم العربية. وإلى ذلك الحين يمكننا الحديث عن فضاء ثقافي روحي عربي لا غير، وعن مؤسسة إقليمية عربية اسمها “جامعة الدول العربية”، وحتى في حال تحولت هذه الدولة/ الحلم إلى واقع، ينبغي ألا تُبنى استنادًا إلى عروبة أيديولوجية.
ليست العروبة نظرية فكرية أو منهج تفكير، وليست تعبيرًا عن العِرق، فالعِرق النقي الخالص غير موجود، وشعوب المنطقة كلها مزيج سلالي. العروبة فضاء ثقافي روحي، مثل الفضاءات الثقافية الأخرى في العالم (الثقافة الأوروبية… إلخ)، تنتعش وتغتني في أجواء الحرية، وتتجدّد دائمًا بالإبداع الثقافي العربي المنفتح على العالم والثقافات الأخرى، وتموت عندما يجري تسييسها أو تحويلها إلى أيديولوجيا.
هل هناك طريق إلى اتحاد عربي؟
لا تزال الصورة المتخيلة لطريق الوحدة في الوعي العام ترتكز على الطريقة البسماركية؛ دولة مركز أو إقليم قاعدة، بحسب نديم البيطار، يأخذ على عاتقه إنجاز الوحدة. ولذلك كانت مصر في عقل القوميين العرب أهم كثيرًا من بلدانهم، بوصفها المرشحة أكثر من غيرها لتكون الدولة المركز أو الإقليم القاعدة. ولهذا أيضًا شعر عربٌ كثيرون بالفرح لاجتياح صدام حسين الكويت. وتتمثل الطريقة الأخرى ببناء حزب سياسي قومي عربي يُنشئ فروعًا له في بلدان عربية، على شاكلة حزب البعث. وفي نهاية الطريقين، نكون أمام دولة عربية واحدة مركزية وشعب واحد مندمج. وتُربط النزعة الوحدوية أيضًا في الغالب الأعم بالخطر الخارجي، ويُنظر إلى الوحدة أنها نتاج إرادوي لأحزاب بعينها أو لسلطات حاكمة بذاتها، ويُغفل بعد التطور الاقتصادي الاجتماعي وحاجته إلى الوحدة، وبعد نمو الإرادة العامة الحرة لشعوبٍ تعيش في دول وطنية ديمقراطية.
وتعكس هذه الطرق إلى الوحدة، والصورة الكرتونية لها، طريقة التفكير السائدة تجاه العروبة ذاتها، وتجاه الدول القائمة بالفعل. عروبة بسماركية تغيب عنها الديمقراطية أو عروبة مؤدلجة يغيب عنها الواقع العياني، لا تريد أن ترى الدول الموجودة والمعترف بها عالميًا، بل إن الدول هذه، في العمق، مكروهة، وستظل كذلك إلى أن تصبح الوحدة العربية واقعًا، ما يعني أنه لا حاجة إلى أن نتعب أنفسنا في بنائها، فكل نهضة فيها ستكون طريقًا إلى صيرورتها دولة فعلية ومقنعة وكافية لمواطنيها، وهذا سيكون على حساب دولة الوحدة المبتغاة.
سورية غير موجودة في حسابات الرؤية السائدة إلا بوصفها أرضًا جغرافية مؤقتة، وطفرةً جينية مرذولة، ينبغي تصحيحها لتتوافق مع الأيديولوجيات “الصحيحة”. على ما يبدو، هناك خوف داخلي عام من نجاح الدولة “القُطرية” في التحول إلى دولة وطنية ديمقراطية، خوف من انكسار حلم الدولة الكبيرة، فهل ينبغي أن تبقى سورية مريضة إلى أن تتحقق الوحدة العربية؟ مع هذا الفهم، تصبح الحياة كلها مؤقتة في انتظار المعجزة، ولا ندري في أي جيل.
عندما نزح أهالي الجولان من قراهم وبلداتهم، ظلوا ينظرون إلى احتلال الجولان على أنه مؤقت. لذا عاشوا في المؤقت في ضواحي دمشق ودرعا، وحتى عندما عاد جزء من القنيطرة إلى سورية، جرى الحفاظ على هذا الجزء مدمرًا في انتظار معركة أخرى مع إسرائيل، ولم يجرِ إعماره. لا حاجة لإعمار سورية وتحويلها إلى دولةٍ وطنيةٍ ديمقراطيةٍ في انتظار الوحدة العربية.
لا يمكن السير في طريق أي مشروع وحدوي من دون إعادة بناء الدول “القُطرية” القائمة بالفعل على أسس إنسانية ووطنية وعقلانية وديمقراطية. إذا كان هناك مستقبل لهذا المشروع، فإن أكثر ما يخدمه هو تحويل الدول القائمة إلى دول وطنية ديمقراطية. إذا قُيِّض لطريق الوحدة أن يُفتح، فلا بدّ أن يكون عن طريق تلاقي الإرادات الشعبية، وهذا غير ممكن إلا في دول وطنية ديمقراطية، وربما يكون “الاتحاد العربي” أو “الفدرالية العربية” أو “الولايات العربية المتحدة” هدفًا مشروعًا شريطة تحويل الدول القائمة إلى دول وطنية ديمقراطية، وأن يكون هذا الهدف خيارًا شعبيًا ينمو ويتبلور في بيئة ديمقراطية.
الخوف على العروبة في سورية
يؤدّي الخوف على العروبة من الاضمحلال ببعضنا إلى الاعتقاد بأن صونها يمكن أن يحدث من خلال تثبيتها صفةً أو هويةً أو أيديولوجيةً للدولة، أو من خلال تسويرها بجدارٍ غليظ ضد “الغزو الثقافي”، وهذا عمل سهل، لكن نتيجته ستكون خسارة العروبة والدولة معًا، وسيحمل معه، بالضرورة، شكلًا من أشكال الإرغام والقهر. لو أردنا فرض “الجنة” بالإكراه لرفضها البشر، فضلًا عن أن الأفكار التي تُفرض بالإكراه تشير سلفًا إلى ضعفها وعجزها عن ترسيخ نفسها وملاقاة العقول والقلوب بصورة حرّة، وتوحي بنقص ثقة أهلها بأنفسهم، وبضعف قدرتهم على الحضور الثقافي في ساحة المجتمع المدني، ساحة الحريات والتعدّدية. لا خوف على العروبة إلا من اختزالها وحصرها في رمز أو اسم أو صورة أو أيديولوجيا أو حزب أو دولة. لا خوف على العروبة إلا من كسل أهلها وتقاعسهم عن الإنتاج الثقافي والعلمي.
حتى لو لم يكن في سورية إلا العرب، فإن اسم دولتنا المستقبلية ينبغي له ألا يحمل أي صفة تشير إلى عرق أو أيديولوجية أو دين؛ فمفهوم الدولة الحديثة لا يتقبّل أن يُقرن بأي صفة غير الصفة الوطنية/ العمومية. هل يمكن أن يكون للجمهورية السورية المستقبلية دور مهم في المنطقة العربية؟ نعم، أصلًا لا يمكن لها أن تستمر من دون هذا الدور؛ حقائق التاريخ والجغرافيا والمصالح تفرض ذلك، ولا ينبغي لأحد أن يفرح أو يحزن إزاء هذه الحقيقة، فهذا أحد أقدار سورية. يُضاف إلى ذلك أن الناظر إلى سورية من خارجها، أي من العالم، لن يراها إلا دولةً تسبح في الحضن العربي، أيًا كان مستقبلها.
لا يمكن أن تنتعش العروبة في سورية من دون الديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فإعادة اكتشاف العروبة وضخ الدماء في عروقها غير ممكنيْن من دون أن تتحوّل سورية ذاتها إلى دولة وطنية ديمقراطية. ولا يمكن فهم تعبير “سورية أولًا” إلا في هذا السياق، أي في سياق الطريق العقلاني الذي يقرّ بما هو ممكن أو متاح بين أيدينا من جهة، والذي قد يفتح طريقين في آن معًا من جهة ثانية؛ طريق إلى صيرورة سورية دولة ديمقراطية لأبنائها كلهم، وطريق إلى شكلٍ ما من اتحاد ديمقراطي مستقبلًا بين الدول الوطنية الديمقراطية في المنطقة العربية، لا في سياق تخلي سورية عن التزاماتها اللصيقة بها، تلك التي لا يمكن الفكاك منها.
صناعة الوطنية السورية
أسوأ ما يحدث في الأزمات هو انفجار البنية المجتمعية على حديث الهويات، وأخطر ما في الحديث هذا ركونه إلى الماضي والذاكرة على حساب الحاضر والمستقبل، خصوصًا عندما يُنظر إلى الهوية بوصفها صيغةً ثابتةً ومتكوِّنة سلفًا، ومن ثمّ ليس من دور للبشر الحاليين سوى النضال لتثبيتها كما هي أو كما وُرثت. هنا يغيب الحاضر والمستقبل عن الهوية، ما يعني استبعاد تجدّدها، والركون إلى حالة من الكسل الثقافي والمعرفي، والاستمرار باجترار الماضي. الهوية مفهومٌ تاريخي متجدِّد، وأي محاولةٍ لحجره في إطار الخصوصية يقتل الهوية، الخصوصيات التي يُحتفى بها عدمية وثابتة، وبعيدة عن التفاعل الإنساني.
هناك تخوّف معلن أو مضمر من تعبير “الشعب السوري”، التعبير الذي استبدله البعثيون في الدستور السوري بتعبير آخر “الشعب العربي في سورية”، لا يتوافق مع الحقيقة السياسية في سورية، ومثله جرى الذهاب نحو تعابير أخرى: “التلفزيون العربي السوري” و”الجيش العربي السوري”… إلخ، خوفًا على العروبة من النسيان أو الزوال. في الحقيقة، المفاهيم كلها المتعلقة ببناء الدولة الحديثة مترابطة في ما بينها؛ فمفهوم المواطن مرتبط بالدولة القائمة فعليًا لا بالدولة المتخيّلة، وباعتبار أن الواقع لا يقدِّم لنا إلا الدولة السورية المعترف بها في الأمم المتحدة، فمن الطبيعي أن تُشتق المفاهيم الأخرى من الدولة هذه: المواطن السوري، الشعب السوري، ويغدو من المنطقي أيضًا استخدام مفهوم الأمة السورية من دون حرج أو خوف، بوصفه تعبيرًا ثقافيًا عن الدولة والشعب، لأن كلًا من المفهومين (الدولة، الأمة) يشترط وجود الآخر.
الوطنية السورية هي تصالح مع الذات الواقعية، مع الذات المعترف بها عالميًا، مع الذات الوحيدة التي يمكن أن تكون معبرًا عن الكل الاجتماعي السوري، وهي التعبير الوحيد الذي يتطابق مع تعبير الشعب السوري. الوطنية السورية هي الانتماء إلى الفضاء العام السوري، إلى الدولة السورية القائمة بالفعل، وإلى أرضها وشعبها وثقافتها؛ ثقافتها المتنوعة التي هي حصيلة تفاعل الثقافات، العربية وغير العربية، وانفتاحها على الثقافة الكونية بأبعادها كلها.
يمكن أن يكون تعبير “الثقافة السورية” تعبيرًا أعم وأشمل بالنسبة إلى سورية والسوريين، بوصفه تعبيرًا عن اجتماع وتفاعل ثقافات متنوعة، إحداها الثقافة العربية، وأكثر انسجامًا وتناغمًا مع المفاهيم الأخرى الممكنة في سورية (الدولة السورية، الشعب السوري، المواطن السوري، الأمة السورية .. إلخ)، لكن هذا التعبير نفسه، أي “الثقافة السورية”، يمكن أن يكون، في الآن ذاته، إحدى تنويعات الثقافة العربية بمفهومها الواسع والديمقراطي والمنفتح والمتجدِّد، خصوصًا أنه لا توجد لسورية لغة خاصة بها مشتقة من اسمها “لغة سورية”، بل لغة عربية تشكل وعاء الإنتاج الثقافي للسوريين العرب، ولسوريين كثيرين غير عرب.
الوطنية السورية مفهوم وثيق الصلة بالدولة الحديثة، ويشير إلى صفتها الأساس؛ العمومية، وهو مغاير لمفهوم “القطرية” الذي يحضر بكثافة لدى القوميين العرب، للتعبير عن حال التجزئة المرفوضة. هنا من المنطقي، والمهم أيضًا، ألا نستمر في التعاطي مع نتائج سايكس بيكو بعقليةٍ تستند إلى شكل من أشكال تأنيب الضمير ومعاقبة ذواتنا أو إلى روحية التبرؤ من منتجاتها أو كرهها ونبذها (سورية، لبنان، فلسطين، الأردن، العراق)، الأمر الذي يجعلنا نشعر بالخيانة للعروبة وارتكاب الخطيئة، عندما نفكِّر أو نريد أن نبني سورية دولةً وطنية ديمقراطية. لا أحد يستطيع أن يبني شيئًا من شيء يكرهه أو يستثمر في شيء يشعر تجاهه بالخطيئة. لا توجد دولةٌ في التاريخ ظلت حدودها صامدةً بلا تغيير، وتتجلى العقلانية بالاستثمار في بناء ما بين أيدينا دولًا كاملة الأهلية، وهذه قناعة ينبغي لها أن تملأ العين والعقل والقلب.
على مستوى الشعور العاطفي، لا خوف من تعدّد المشاعر، بل من الطبيعي أن تتعدّد، ويمكنها أن تتكامل بدلًا من أن تتناقض؛ فالشعور بالانتماء إلى مدينة أو قرية سورية لا يلغي الشعور بالانتماء إلى سورية، والانتماء الحقيقي إلى الأخيرة عندما تصبح دولة وطنية ديمقراطية لا ينهي الانتماء إلى فضاءات أوسع أو يتناقض معها، بل على العكس سنكون أمام انتماءات صحية أخرى، متجدِّدة أو جديدة، بما فيها الانتماء إلى العروبة والإنسانية.
المصدر: العربي الجديد