التوثيق هو الفعل الذي غالباً ما يفوت المنخرطين في الحدث، لأنّهم منخرطون فيه إلى حدّ يعتقدونه كالشمس التي لا يمكن حجبها، ويندر أن يخطر في بالهم إمكانية أن يُنكر هذا الحدث الذي يشاهدونه بأمّ العين، ويعيشونه ألماً وحرماناً وقهراً، ويدفعون في تضاعيفه الدم. ولكنّ الزمن، مثل عاشق الأخطل الصغير، يخطّ سطراً ثم يمحوه. هذا ما يفرض علينا أن نحمي ما يكتبه الزمن من فعل الزمن الماحي. لا لشيء، إلا لكي نفيد مما مررْنا فيه نحن، ونفيد به أخلافنا، ونحاصر المُستبدّ في دائرة الشرّ التي تصنعها أفعاله، فالنسيان حليف طبيعي للاستبداد. بالنسيان يمكن لمن دمّر مدينة وقتل أهلها بوحشية المهووسين المستأثرين بالسلطة، أن يقول بعد زمن، إنّه لم يفعل شيئاً، وقد يقول إنّه لا يعرف أين تقع هذه المدينة.
الواقع أنّ التوثيق لا يحمي فقط من النسيان، وفعل الزمن الماحي، بل يحمي أيضاً من الفعل المقصود والمدروس الذي تمارسه السلطة المُستبدّة بغرض تحطيم الحقيقة، وتعمية الأحداث، عبر تشويش المشهد وزرع الشك في كلّ رواية. هذه وسيلة استبدادية تواكب وتكمّل فعلي القتل والتدمير. لهذه الوسيلة شقّان، الأول ذو مفعول مباشر على الحدث، يهدف إلى ضرب مصداقية الخارجين على السلطة، وتكون مواجهته بالتحلّي بأكبر قدر من الصدق والدقّة بما يحول، بالقدر الممكن، من دون تسرب الشكّ إلى عقول الفاعلين والمتابعين. والشقّ الثاني ذو مفعول بعيد الأمد، يتمثّل في سلب الخارجين على السلطة روايتهم للمجريات وإحلال رواية الاستبداد محلّها، وتكون مواجهته بالتوثيق بأعلى قدر ممكن من معايير الدقّة والموضوعية. على هذا، يكون هدف الشقّ الأول من هذه الوسيلة هو شلّ الفعل المُضادّ للاستبداد، وهدف الشقّ الثاني هو محو هذا الفعل أو تشويهه وطرد الحقيقة من الذاكرة، والنتيجة التي يتوخّاها حرّاس الاستبداد من ذلك هي الديمومة والتأبيد.
يبقى، على طول الخطّ، أنّ ما يريده المُستبدّ من الذاكرة هو أن تكون حافظة للخوف، في حين أنّ ما نريده نحن من الذاكرة هو أن تكون حافظة للمعرفة، فالخوف نصير الاستبداد، على العكس من المعرفة. والكذب نصير الاستبداد، على العكس من الحقيقة. على هذا، فإنّ التوثيق الدقيق والموضوعي هو عمل مضادّ للاستبداد، ليس فقط بوصف الأخير سلطة مُستبدّة، بل بوصفه عقلية استبداد أيضاً، أي عقلية سيطرة وإخضاع. على سبيل المثال، كان يكفي المخرج السوري عمر أميرلاي أنّ يصور في عام 2003، فيلماً وثائقياً تسجيلياً (طوفان في بلاد البعث) من دون التدخّل بأي تعليق أو نقد، كي يكشف الآثار المدمرة التي لحقت بالمجتمع السوري بعد عقود من سيطرة سلطة مُستبدّة باسم حزب البعث.
منذ 2019، بدأ فريق عمل منصّة الذاكرة السورية، من فكرة التوثيق وحماية الذاكرة، في عمل بحثي أطلقه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لإنتاج منصّة رقمية مرجعية بهدف أرشفة وتوثيق الأحداث التي شهدتها الثورة السورية بين العامين؛ 2011 و2015. من السهل أن نقول إنّ التوثيق وصيانة الذاكرة ضرورة وواجب على شهود الأحداث، ولكن قد يجد المرء أنّ العمل على هذه المُهمّة شاق أكثر مما يتخيل، ولا سيما إذا كان يبتغي الموضوعية واحترام المعايير العلمية والأخلاقية في عمله. من الأمثلة على جسامة مهمّة فريق منصّة الذاكرة السورية، وصعوبة هذه المهمة، أنّ الفريق يذكر أنّه رصد آلاف القنوات وجمع ما يزيد عن مليوني فيديو، ثم دُققت وأُخرج منها 900 ألف فيديو قابلة للعرض، وعمل على إنتاج مكتبة مرئية في التاريخ الشفوي للثورة السورية، تتضمن أكثر من 2500 ساعة، تغطّي مساحة واسعة من الأحداث والمواضيع مع شرائح مختلفة من الشهود، كما أرشف الفريق 29 ألف سجل من يوميات الثورة السورية، بين مارس/ آذار 2011، وسبتمبر/ أيلول 2015. يمكن لنا أن نتخيّل مدى أهمية هذا العمل المرجعي للباحثين، الذين بات لديهم عنوان محدّد يفتح على بحر من المعطيات الموثّقة والموثوقة، التي تفتح الباب أمام آلاف الدراسات المُمكنة.
ولعلّ من أبرز سمات هذه المنصّة أنّها تفاعلية، وتتيح للقارئ التفاعل التالي مع فريق المنصّة، بما يسمح بإمكانية إغناء أو تعديل أو إضافة ما يمكن أن يكون الفريق قد غفل عنه. هذه إحدى السمات التي أتاحها لنا عصر التكنولوجيا الذي نحن فيه، فالتاريخ لم يعد يكتبه أصحاب السلطة فقط، هناك إمكانية لوجود تاريخ موثّق آخر، ورواية أخرى، ترى بعين الساعين إلى المشاركة، وتفكيك الاستبداد، وكسر احتكار السلطة، ويبقى علينا أن نتجرّأ ونمتلك العزيمة لتحقيق هذه الإمكانية.
ستكون منصّة الذاكرة السورية دعامة أساسية في كتابة تاريخ وطني لسورية في مرحلة مقبلة، حين تلتئم فيها سورية حول ذاتية وطنية ونسيج وطني مشترك، بعد أن تفشل مشاريع السيطرة من أي طرف كان، وبعد أن يدرك السوريون، في تعدّد منابتهم العرقية والقومية، وتعدّد مذاهبهم الدينية والسياسية، أنّ خلاصهم يكون مشتركاً أو لا يكون، وأنّ أي مشروع سيطرة، بصرف النظر عن الأساس الذي يقوم عليه، هو مشروع هزيمة في النهاية، هزيمة تحمل معها من الكوارث ما بات للسوريين خبرة وافرة فيه.
إذا كان يمكن النظر إلى مجهود فريق المنصّة على أنّه أحد أشكال الاستمرار في مواجهة استبداد الطغمة الأسدية، التي أوصلت بلادنا في استئثارها السلطوي، الذي يصل إلى حدّ الخيانة (الاستبداد هو في عمقه خيانة)، إلى حالة انقسام تكاد تأتي على كلّ قاسم وطني مشترك بين السوريين، فإن ما نأمله هو أن يندرج مجهود المنصّة في إطار عمل فريق وطني عام، يكتب ويوثّق تاريخ سورية ديمقراطية موحّدة، بعد أن يكون أبناؤها قد توصّلوا إلى تجاوز انقسامهم العميق، وإلى إدراك أنّ مستقبلهم الآمن يكمن في الشراكة والمساواة، وليس في السيطرة والتغلب.
المصدر: العربي الجديد
قد لا تعبر بالضرورة هذه المادة عن رأي الموقع