بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تصدرت الولايات المتحدة الأميركية المشهد العالمي فطرحت ذاتها بقوة كراع لكل أحوال العالم ذات رسالة خالدة تتمثل في تبني الديمقراطية وحقوق الإنسان والدفاع عنهما في كل مكان على وجه الأرض. راحت جيوشها الإعلامية تبخر لتلك الرسالة فاتحة طريقا ناعما سلسًا للهيمنة الاميركية على العالم بأسره. كانت تلك الرسالة عنوانا لتدخلات أميركا السافرة في كل شؤون العباد والبلاد أيا كانوا. أسفرت عن وجهها الحقيقي بعد أن كانت تستتر خلف كثير من الحكايات التي كانت تنطلي على كثير من البشر. فراحت تتحدث علانية عن حقها التام في قيادة العالم إلى حيث تشاء باعتبارها صانعة الحضارة والتاريخ.. حتى انخدعت بعض الجماعات الطامحة للتغيير على مستوى محلي أو عالمي فنسبت ذواتها إلى العالمية مرهنة مصائرها إلى العولمة الرأسمالية التي شهدت اندفاعا كبيرا منذ تسعينات القرن العشرين فاق في تطلعاتها وخبثها كل أطروحاتها السابقة على تلك المرحلة. وصل الأمر أن كثيرا من القوى الوطنية والتقدمية رفعت شعارات الديمقراطية وفي خلفيتها أنها ستلقى الدعم والمناصرة من أميركا. شيئا فشيئا تكشف زيف تلك الادعاءات وبان كل خطاب العولمة عنوانا لتمرير الهيمنة الأميركية على العالم واحتواء كل الحركات والمنظمات والفعاليات الناشطة المطالبة بالتغيير والساعية إليه. وكان أكثر المخدوعين المصدومين بالخبث الأمريكي تلك القوى التي تفاءلت بانتفاضات الربيع العربي وظنت خيرا من تلك الشعارات المزيفة.
ثم استمر الخداع الأمريكي والمراوغة المترافقة معه ؛ يتلاعب بمصائر العالم محاولا دائما التغطية على أهدافه ومصالحه بتشكيل أدوات ميليشيوية مسلحة تنوب عنه في أداء وظيفي محكم تقوده وتوجهه أجهزة أمنية فائقة الدقة عالية الإمكانيات ، برعت في أعمال إرهابية قذرة نسبتها إلى الإسلام حتى صار شعار محاربة الإرهاب سيفا مسلطا على رؤوس كل من لا ينضوي ضمن التخطيط الأمريكي ..فكانت تلك الأدوات الميليشيوية المسلحة أفتك من خرب تظاهرات الفئات الشعبية وتحركاتها ومنعها من تحقيق أية مكاسب وطنية تغييرية ولا سيما في البلاد التي شهدت انتفاضات شعبية ضد أنظمة القهر والفساد والتبعية والاستبداد..
وحتى قبيل عملية طوفان الأقصى؛ كانت أميركا قد نجحت في تقديم ذاتها كوسيط في النزاعات أو كراع للأوضاع السياسية لا سيما في البلاد العربية ودول العالم الثالث عموما بما فيها أفريقيا وأميركا اللاتينية..
تجلى هذا في مماحكات مع نظم كثيرة عربية وغير عربية ساقها الخبث الأمريكي باتجاه العلاقات الودية مع دولة الكيان الصهيوني التي تغتصب فلسطين العربية. فتسابق كثير منها للاعتراف بالكيان الغاصب والتعاون معه أمنيا واقتصاديا كما في حالة الهند ودول أفريقية عديدة..
وما إن تمت عملية طوفان الأقصى بما حققته من نجاحات عسكرية واختراقات أمنية لدولة العدو ومؤسساتها ؛ حتى تخلت أمريكا عن كل أقنعتها وسارعت فورا للدخول في العدوان على غزة لا بصفتها داعما بل شريكا كامل الاوصاف والعضوية مع العدو الصهيونية غير آبهة بكل شعاراتها المخادعة التي تسترت بها عقودا طويلة من أول الديمقراطية وحقوق الإنسان مرورا بكل الكلام عن السلام العالمي والقانون الدولي والتنمية المستدامة عبر مؤسساتها الاستعمارية كصندوق النقد أو البنك الدوليين .ورغم مشاركاتها المباشرة الضخمة في العمليات العسكرية إلى جانب جيش العدوان الصهيوني وكميات الأسلحة والعتاد الكبيرة التي تنقلها باستمرار إلى دولة العدو فضلا عن مليارات الدولارات التي تدفعها لها ؛ إلا أنها ما برحت تدعي أنها تريد تحقيق السلام مجترة كلاما معسولا مخادعا عن حل ” الدولتين ” في إشارة لإعطاء دولة للفلسطينيين دون أية صلاحيات أو فعالية أقلها أنها ستكون منزوعة السلاح بما يعني التسليم الكامل للعدو بكل السلطة والفعالية ليس إلا وتعويم السلطة الفلسطينية المتهالكة الفاشلة.. بالإضافة إلى كلام كثير تسربه عبر أجهزة أمنية – إعلامية متشعبة عن خلاف ” أمريكي – إسرائيلي ” حول حدود العمليات العسكرية لجيش العدو في عدوانه الإجرامي منقطع النظير على غزة. وتشير غالبا إلى تباين في وجهات النظر بين كل من بايدن المتواطئ ونتنياهو المجرم. وهذا كله ليس إلا تغطية لحقيقة الدور الأمريكي في العدوان كشريك كامل فيه..
وليس الفيتو الذي تضعه في كل مرة يطلب وقف ” إطلاق النار ” في مجلس الأمن إلا تأكيد على تبنيها الكامل ليس فقط للعدوان الراهن المستمر منذ أربعة أشهر وإنما لكل الكيان الصهيوني ومجمل ممارساته العدوانية الإجرامية على كل شعب فلسطين وأطماعه التوسعية في كل بلاد العرب. وفي كل مواقفها المعلنة لم يصدر عنها أي كلام عن وقف لإطلاق النار أو دعوة لحماية المدنيين مثلا.
أما كل حديثها عن التباين في المواقف ووجهات النظر حول أهداف ” العمليات العسكرية ” وحدودها فلم يكن إلا لتعويم سمعتها القائمة على الخداع الماكر بكونها راعيا ووسيطا وليس طرفا. بهدف البقاء في هذا الموقع لتمرير تسلطها على دول العالم تحت تلك الذرائع..
ليست السياسة الأمريكية في المنطقة العربية إلا استمرارًا للسياسة الاستعمارية البريطانية التي احتلت فلسطين وأعطتها للصهاينة الغاصبين.. ولما تراجعت بريطانيا كدولة إمبراطورية إثر فشل العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956؛ سلمت كل دورها الاستعماري ومعه كل ملفاتها الاستعمارية إلى القوة الإمبراطورية الصاعدة بعد الحرب العالمية الثانية أي أميركا. ومن ضمن تلك الملفات الملف الأخطر وهو رعاية دولة الكيان الصهيوني وتسيدها في المنطقة وعليها؛ بصفتها قاعدة متقدمة للأطماع الاستعمارية في قلب الوطن العربي؛ تعرقل تحرره ووحدته وتقدمه وتردع أية تطلعات استقلالية وتحررية فيه وتشكل الواجهة الأخطر للحفاظ على المصالح الاستعمارية الناهبة لكل خيرات العرب والمتحكمة بكل مواقعهم الإستراتيجية والمانعة لكل قيمهم وروابطهم أن تبقى وتستمر وتفعل. ومن يبقى بعد اليوم يتعامل مع أميركا كوسيط محايد فلن يكون إلا مرتهنًا لإرادتها عاملًا لتنفيذ مخططاتها المعادية لكل الوجود العربي وتاريخه ومستقبله.
السياسة الأمريكية في المنطقة العربية ليست إلا استمرارًا للسياسة الاستعمارية البريطانية التي احتلت فلسطين وأعطتها للصهاينة الغاصبين. وبعد فشلها بالعدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، بدأ دورها افمبراطورية بالتراجع لتسلم دورها الاستعماري للإمبراطورية الاستعمارية الصاعدة “أمريكا” فهل يمكن أن تكون وسيطاً بفلسطين وهي شريك المحتل الصهيوني بحربه المتوحشة القذرة؟