لم ينقض شهر شباط/فبراير حتى أعلنت واشنطن وحركة طالبان التوصل إلى اتفاق يقتضي فيما يقتضي سحب القوات الأميركية والناتو والتحالف الدولي من افغانستان خلال فترة لا تتجاوز أربعة عشر شهرًا، وكذلك إطلاق الحكومة الافغانية سراح آلاف الأسرى الأفغان من عناصر وأنصار طالبان خلال الفترة نفسها.
الاتفاق يأتي بعد صراع دامٍ استمر تسعة عشر عامًا منذ أن دفعت الولايات المتحدة بقواتها لغزو افغانستان واحتلالها، متخذة من هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2011 ذريعة لتبرير هذا الغزو، بزعم أن هذا البلد يوفر الحماية لتنظيم القاعدة وزعيمه، المتهم بتنفيذ تلك الهجمات، وأنشأت لهذا الغزو تحالفًا دوليًا استهدف فيما استهدف إضفاء شرعية دولية عليه، والدفع بحلفائها لتحمل جزء من تكاليف هذه الغزو.
وعلى مدى هذه الأعوام التسعة عشر فعلت القوات الأميركية المستحيل، وارتكبت من الجرائم بحق الشعب الأفغاني ما لا يخطر على بال، وقتل من المدنيين عددًا لا يمكن لأحد إحصاؤه، وتتباين المصادر التي تحدثت في هذا الأمر تباينًا كبيرًا، وأقامت الولايات المتحدة إدارة في افغانستان من عملائها، نصبت رؤساء، وبنت قوات، واستغلت التناقضات العرقية والطائفية، واستعدَت العالم على حركة طالبان التي ظهرت باعتبارها حركة مقاومة للاحتلال الأميركي، ولعملائه في افغانستان، ووصمتها بأنها منظمة إرهابية، ورغم كل ذلك لم تر في نهاية المطاف بدًا من التفاوض معها، بعد أن ظهر لها أن السبيل الوحيد لوقف نزيف الدم والمال الأميركي لا يكون إلا بالتفاوض مع طالبان، وإلا بمحاولة رسم طريق للخروج الأميركي من هذا البلد، وبعد أن ظهر لها أن كل رهان عقدته على بناء سلطة أفغانية متحالفة معها، وبناء قوات أمنية أفغانية تكون ذراعًا لها، إنما هو رهان خاسر.
ولأن الرئيس الأميركي الحالي تاجر فإنه يدرك تمامًا أنه حين يكون إقفال المشاريع هو وحده الطريق لوقف الخسائر، فإن هذا الاقفال يكون هو التعبير عن الربح الممكن، فوقف الخسائر هو الربح، لذلك لجأ أخيرًا إلى عقد الاتفاق مع طالبان، رغم أنه حاول من قبلُ منذ سبتمبر 2019 أن يجرب طريق القوة مرة أخرى حينما تراجع عن خريطة للسلام كان قد تم التوافق عليها مع طالبان بحجة مقتل جندي أمريكي، لكنه بعد أربعة أشهر لم ير بدًا للعودة إلى طالبان، خصوصًا وأن معركة انتخابات الرئاسة الأميركية تقترب، ومهم جدًا له أن يحقق خلاصًا على جبهة افغانستان يقدمه لناخبيه باعتباره وفى بوعده الذي أطلقه في حملته الانتخابية الأولى والقاضي بإعادة القوات الأميركية إلى أرض الوطن.
في ميزان الحروب، وفي ميزان كل الصراعات، فإن النتيجة هي وحدها التي ترسم حدود النصر والهزيمة، وتعطي علامة الرسوب والنجاح.
والحق أن الولايات المتحدة، وحلفاءها، وكل الاستراتيجيات، والخطط، والإمكانات، والخيارات التي تم اختبارها، هي الراسب في الامتحان الأفغاني، وأن طالبان والشعب الأفغاني هو الفائز فيه.
حينما بدأ الغزو الأميركي لأفغانستان أطلق الغزاة على عمليتهم اسم عملية “الحرية الباقية”، وفي العام 2015 جعلوا اسمها “حارس الحرية”، وأمكن لهذا الغزو أن يطيح بطالبان من السلطة، لكن الحرية كانت هي الضحية الأولى لهذا الغزو.
وحين أرادت واشنطن أن تضع مسؤولاً أفغانيًا لإدارة افغانستان اختارت أولاً زلماي خليل زاد سفيرها اللاحق في افغانستان، وممثلها الراهن في المفاوضات مع طالبان، لكن لأسباب خاصة عدلت عنه لتعين حامد كرزاي ـ الذي يحمل الجنسية الأميركية وكان يعمل في الولايات المتحدة ـ رئيسًا للإدارة الذاتية الأفغانية المؤقتة عام 2002 والتي أنشئت وفق قرار مجلس الأمن الدولي، ليتحول فيكون رئيسًا لأفغانستان بعد انتخابه في العام 2004، ويستمر كذلك حتى العام 2014 ، ليخلفه الرئيس الحالي أشرف غني مكملًا مشوار الرئاسة التي جاءت في ظل الاحتلال، وبحماية قواته، ولتحقيق المصلحة والرؤية الأميركية.
في النظر إلى الأعوام التسعة عشر منذ بدأ الغزو فإن الجانب الأميركي يسجل أن هذه الحرب كلفته نحو تريليون دولار، ” قدرتها وزارة الدفاع الأميركية حتى اكتوبر الماضي بنحو 760 مليار دون حساب تكاليف علاج المصابين ومصاريف الوزارات والجهات الأميركية الأخرى”، وأنه فقد فيها أكثر من 3200 عسكري إضافة إلى 21 ألف جريح، وذلك من دون حساب خسائر المرتزقة الأميركيين الذين يرد ذكرهم تحت مسمى ” المقاولين المدنيين”، ودون ذكر قتلى الناتو وقوات التحالف الذين قدر عددهم بأكثر من 1200 عسكري، وقتلى القوات الأفغانية الحليفة الذين قدر الرئيس الأفغاني أشرف غني عددهم بأكثر من 45 ألف عسكري.
وعلى الجانب الأفغاني من الصعب جدًا معرفة حجم الخسائر، من مقاتلي طالبان، أو من المدنيين الأفغان الذين كانوا دائمًا هدفًا للغارات الجوية الأميركية، كما من الصعب تحديد حجم الدمار الذي أصاب البنية التحتية للمجتمع الأفغاني، فالخسائر على الجانب الأفغاني تفوق كل تصور.
ومع توقيع الاتفاق يكون الأميركيون قد سلموا بهزيمتهم، وسلموا بانتصار طالبان، وسلموا بأن كل العملاء الذين أقاموهم لم يقدموا لهم شيئًا ذا قيمة.
لا يهم هنا النظر إلى تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن حصيلة الوجود الأميركي في افغانستان وتقييمه لهذه الحصيلة، ولا يهم أيضًا ما إذا كان هذا الاتفاق مع طالبان سيمضي إلى خواتيمه، أم أن الأميركيين سيخرقونه أو حتى سينتكصون عليه.
الدرس الحقيقي في افغانستان قد اكتمل، ووصل إلى الخاتمة، وليس في هذه الخاتمة جديد، إنها بشكل عام تشبه تلك الخاتمة التي تلقاها الأميركيون في فيتنام، حينما سلموا في نهاية المطاف بانتصار ثوار فيتنام، وخرجوا من تلك البلاد مهزومين بعد أن وقعوا في باريس على اتفاق الانسحاب.
والدرس الحقيقي في أفغانستان مع المحتل درس بسيط لكنه راسخ وعميق وواضح المعالم ويمكن ايجازه في نقاط محددة:
1ـ أن المحتل لا يفهم إلا لغة القوة، ولا تهزه وتقض مضجعه، وتفرض عليه مراجعة حساباته، إلا أرقام القتلى بين جنوده ورجالاته، ولا مفاوضات ناجحة تجبر المحتل على الرضوخ إلا تلك التي تجري تحت وقع المعارك، كل تفاوض يجري خارج وقع المعارك، مستندًا إلى قاعدة إنهاء القتال أولًا هو تفاوضٌ الخاسر الوحيد فيه هو المقاومة.
2ـ أن إدارة الدبلوماسية والتفاوض هي تمامًا كإدارة الحرب والمعارك العسكرية، الفارق بينهما السلاح المستخدم، فالمفاوضات تحتاج أولاً وقبل كل شيء إلى رؤية صحيحة وواضحة للهدف، وإلى ارتباط حقيقي ومباشر بإرادة القتال والجهاد، وإلى إتقان علمي وفني لعملية التفاوض، ثم إلى صبر لا ينفذ، يقينه أن ساحة المعركة هي التي تحدد حجم ما يمكن تحقيقه في ساحات التفاوض.
3ـ أن النصر بالنسبة للشعوب لا يقاس بحجم التضحية وإنما بتحقيق الهدف، وهو هنا استرجاع الإرادة والحرية للوطن من قوى العدوان، ليس هناك شعب ثار في وجه الاحتلال إلا وارتفعت الأثمان التي يدفعها، فالمحتل قوة غاشمة، واقتلاعها يحتاج إلى الكثير من التضحيات، ولم يعرف عن الشعوب أن استكثرت حجم التضحية التي تقدمها لتحقيق هدف النصر على المحتل، ما من شعب قال للمقاومة توقفي لأن ثمن النصر بات باهظًا، وكل توقف لحركة المقاومة دون بلوغ الهدف وهو النصر والتحرر توقف ناتج ـ على أحسن تقدير ـ عن قصور في نظر ” طبقة القادة”، واستعجال للمكاسب قبل أوانها، وضعف الثقة بقدرة الشعب ـ خزان المقاومة الحقيقي ـ على المضي في الطريق إلى نهايته.
4ـ إن الإرادة المستقلة لقوى المقاومة هي وحدها ما يؤمن استمرار المسيرة وتحقيق النصر، ورهن هذه الإرادة لأي طرف خارجي مهما بدا قرب هذا الطرف من حركة المقاومة يعني أنك رهنت إرادتك كلها أو بعضها لذلك الطرف، والإرادة كالشرف لا يرتهن جزء منها، فهي إما أن تبقى حرة وإما أن تضيع.
5ـ إن القيم والمفاهيم والتوصيفات والمصطلحات التي تطلقها قوى العدوان على المقاومة التي تبديها الشعوب هي جزء من الحرب النفسية التي تديرها هذه القوى، لذلك لا يصح الالتفات إليها، فحين تصل المقاومة إلى قطف الثمرة يتغير كل ذلك، وفي الشأن الأفغاني لم تعد هناك قيمة لكل حديث أميركي عن “طالبان الإرهابية”، ولا عن المبدأ الأميركي في عدم التفاوض مع “الإرهابيين”، ولم تعد هناك أي قيمة إيجابية لما قدمه حلف الناتو أو التحالف العالمي الذي أنشئ لغزو أفغانستان، ولم تعد هناك قيمة للقرارات التي صدرت عن مجلس الأمن الدولي، والتي كانت تمثل مظهرًا من مظاهر المحاباة للقوة الأميركية العظمى.
كل ذلك لم تعد له قيمة، بل باتت طالبان بتوصيف الرئيس الأميركي هي القوة التي يمكن إقامة السلام معها، والتي تملك القدرة على الالتزام بما يتم الاتفاق عليه.
6ـ وكذلك مع هزيمة المحتل المعتدي لا تعود هناك قيمة حقيقية لكل البنى التي أقامها المحتل في هذا البلد، بدءًا من الرئيس المنَصَب، والبرلمان المنتخب، والقوات العسكرية والأمنية المقامة، وصولًا إلى الاتفاقات المعقودة بين المحتل والسلطات التي أقامها، كل هذا يسقط تلقائيًا، ورغم أن طالبان لم تكن تسيطر إلا على جزء من افغانستان، إلا أن الإدارة الأميركية والمراقبين للوضع في أفغانستان كانوا على يقين بأن كل هذه البنى والمؤسسات ستسقط سريعًا بيد طالبان في اللحظة التي تغادر فيها قوات الاحتلال.
هذا الدرس الحقيقي الراسخ والعميق، الذي تسطره حركة طالبان، هو درس يتكرر مع كل حركة مقاومة لقوات الاحتلال والغزو، لكنه في أفغانستان لا ينتهي مع رحيل قوات الاحتلال، بل لعله مع رحيل هذه القوات تبرز الخصوصية الأفغانية، وهي خصوصية تمثل في جوهرها التحدي الأهم الذي ستواجهه الحركة في قادم الأيام:
1ـ هناك قوى محلية ستحاول أن تعطل الاتفاق، أو تسقطه، لأنه يغير قواعد اللعبة التي تعمل في إطارها، وسيكون له أثر بالغ عليها، وفي مقدمة هذه القوى مجموعة الوجوه والهياكل والتنظيمات التي شكلت ” الدولة الأفغانية” العميلة للولايات المتحدة على مدى تسعة عشر عامًا، ولدى هذه القوى أوراقًا مهمة تلعب بها، ولو مؤقتا، مثل ورقة الأسرى من طالبان الذين يقبعون في سجون ومعتقلات تحت سيطرة “تلك الدولة”، وقد قدر عدد هؤلاء الأسرى بخمسين الف أسير ، ومطلوب وفق الاتفاق الافراج عنهم.
ومن هذه القوى المحلية تنظيم “دولة الخلافة الإسلامية” وهذا تنظيم متطرف يمثل خروجًا على إرادة وسياسات طالبان، وهو ينفذ هجمات على القوات الأميركية، وعلى حلفائها الأفغان، وحتى على مقاتلي طالبان، وعلى العديد من القوى الأفغانية، وهو لا يراعي أي قواعد في معاركه وهجماته، وكثير من هجماته وعملياته يقيمها على أسس طائفية، ويمكن لأعمال هذا التنظيم أن تخلق تحديًا حقيقيًا لطالبان، وأن توفر للقوى المضادة للاتفاق ذرائع للتنصل منه أو لتعطيله، كما يمكن أن توفر لقوى إقليمية محيطة فرصًا للتدخل.
2ـ وهناك الخطر الذي تمثله السياسات الإيرانية الطائفية على الوضع في أفغانستان، خصوصًا وأن هذا البلد في بؤرة اهتمام عقيدة ” الفقيه الولي “. فمن حيث الجغرافيا فإن أفغانستان جار لإيران، يصح وصفه بالجار الكبير، وتمتد الحدود بينهما لمسافة تقدر بنحو 936 كيلومتر، وقد أقامت إيران ودعمت أحزابًا للشيعة كان من أولها وأهمها حزب “الوحدة الإسلامية” بزعامة عبد العلي مرزاي، ويقال إن طالبان قتلته في العام 1996 بعد اعتقاله، ولإيران مؤسسات تعليمية واجتماعية عديدة في افغانستان أقيمت لخدمة هذه الطائفة التي يبلغ عددها نحو خمسة ملايين نسمة، من إجمالي عدد سكان أفغانستان الذين تجاوز عددهم 35 مليون، والتي يقيم نحو مليون لاجئ منهم في إيران، وللشيعة الاثني عشرية، وكذلك الإسماعيلية توزع مهم ومنتشر في جغرافية هذا البلد ( باميان ، كابل ، هراة ، غزنة ، شهرستانكندي ، مزار الشريف، جات ، ..) يجعل اي توظيف خارجي لوجودهم مؤثر في استقرار افغانستان كلها.
والمشكلة الأفغانية مع إيران لا تنبع من الوضع الطائفي، ولا من العلاقات المذهبية بين إيران وشيعة افغانستان، فهذه من المسلمات النابعة من وشائج عرقية وثقافية ومذهبية، والتي يمكن لخريطة التنوع المجتمعي في افغانستان أن تستوعبها، بل وأن تستند إليها في إقامة علاقات تعاون وثيقة ومتشعبة مع دول الجوار، لكن المشكلة تنبع من نظرية “ولاية الفقيه “، التي يتبعها النظام الإيراني، والتي نصبته وليًا لكل الشيعة، وفرضت على الشيعة جميعًا التبعية لها سياسة وعقيدة.
ولعل إرسال النظام الإيراني لمقاتلين أفغان شيعة إلى سورية “لواء فاطميون ويقدر عددهم بأكثر من عشرة آلاف مقاتل”، للدفاع عن النظام السوري يمثل مظهرًا من مظاهر التلاعب والاستغلال الإيراني للتكوين المذهبي الأفغاني.
3ـ مع رحيل قوات الاحتلال والمقدر له ـ إن تم تطبيق الاتفاق المعقود ـ أن ينجز خلال أربعة عشر شهرًا، تبرز الحاجة الملحة إلى تثبيت حقيقة أن ما تعرضت لها افغانستان على مدة تسعة عشر عامًا كان غزوًا وعدوانًا غير شرعي قامت به الولايات المتحدة، ومن سار في ركابها، وأن طي هذه الصفحة لا يكون فقط برحيل هذه القوات، وإنما بعد ذلك بتعويض أفغانستان عما أصابها من هذا العدوان، مطلوب التعويض عن الدم الأفغاني، ومطلوب التعويض عن البنى التحتية التي دمرها العدوان، ومطلوب التعويض عن المآسي التي خلفها المحتل في المجتمع الأفغاني، على الولايات المتحدة أن تعوض أفغانستان عن كل ذلك، وهذا التعويض حق لا يجوز التنازل عنه، هذا حق الشعب الأفغاني لا منة فيه ولا فضل، وهو يحتاج إلى مسار تفاوضي لا يقل صعوبة وأهمية عن مسار الجهاد والصراع المسلح.
4ـ وفي مسار الصراع الممتد ثبت أن الولايات المتحدة وحلف الناتو ارتكبا جرائم ضد الشعب الأفغاني المدني، جرائم خارجة عن كل قواعد الحروب وما يسمح فيها، وهذه يصنفها المجتمع الدولي باعتبارها جرائم حرب، وجرائم ضد الانسانية، وهذه ليست تهم وأوصاف تصدر عن هذا الطرف من الصراع أو ذاك، وإنما هي أوصاف حددها بدقة القانون الدولي، وتقوم على تفعيلها المحكمة الجنائية الدولية، والمحاكم الدولية التي يمكن أن تختص بمثل هذه الجرائم، ومن الحقوق الثابتة للشعب الأفغاني أن يعرض ما وقع عليه أمام هذه المراجع الدولية وأن ينتظر منها قرارات تنتصر لحقوقه، ولما أصابه من قوى العدوان.
5ـ يمتاز المجتمع الأفغاني بتنوع عرقي وديني ومذهبي، وعلى حركة طالبان أن تظهر إدراكًا واعيًا وبناء لهذا التنوع في سياساتها مع القوى الاجتماعية والسياسية في هذا البلد، فليس كل من لم يقف مع طالبان يعتبر مناصرًا لقوى الغزو والاحتلال، وليس كل من حاول أن يستغل أجواء العمل السياسي في ظل النظم التي أقامها المحتل يوزن بالميزان نفسه، وليس الذين يتبعون مذاهب أو أديانًا أخرى هم في موقع الخصم.
على طالبان أن تقدم مفهومًا للوحدة الوطنية للمجتمع الأفغاني يدرأ عن هذا البلد أي تلاعب خارجي لاحق بهذا التنوع، قد يكون مصدره الولايات المتحدة مباشرة أو وكلاؤها في المنطقة، أو قوى طائفية وعرقية تحيط بأفغانستان من كل جانب، وإن لم تنجح طالبان في تحقيق ذلك فستضيع وبسرعة مكاسب التحرر من الغزو الخارجي.
إن أي سياسة طائفية أو عرقية تأخذ بها، أو تدفع إليها بأي دافع ستكون مدمرة، فمدخل الحفاظ على الانتصار الذي يتحقق هو الالتفاف الشعبي حول طالبان، وهذا يتطلب رؤية واضحة وحاسمة للوحدة الوطنية، للمواطنة في هذا البلد.
6ـ ومن أخطر ما يمكن أن تواجهه أي مقاومة منتصرة، هو شيوع روح الانتقام لديها، وهي روح تتقدم بقوة وباندفاع مستندة إلى قانون الانتصار نفسه، والانتقام يشبع النفوس الثائرة ويشفي غلها، لكنه يقيم وبشكل فوري ستارًا بين المنتصر وبين المجتمع الذي انتصر له، ستارًا يمنع ويجهض أي محاولة لاحقة للبناء.
التصدي لروح الانتقام لا يعني أبدًا التسامح مع من أجرم بحق الوطن والمواطن، ومن كان سيفًا بيد المحتل وأداة من أدوات سيطرته على مقادير الوطن والشعب، لا يعني أن تترك الضحية حقها بدعوى التسامح، لكنه يعني بدقة أن كل شيء، ومن اليوم الأول يجب أن يخضع للقانون، وأن تتوفر في هذا القانون القواعد التي تتوفر في أي قانون من الموضوعية والوضوح والإلزام والعمومية والمساواة والعدالة، وأن الجميع منذ لحظة الانتصار الأولى بات تحت ظل مثل هذه العدالة.
7ـ على طالبان أن تقدم مفهومًا لبنية المجتمع ولبناء المجتمع قائمًا على قاعدة الالتزام بوحدة هذا المجتمع، وبحق كل مكوناته وتقسيماته الجغرافية والعرقية والمذهبية والدينية في التنمية والحرية السياسية والاجتماعية، في إطار دستور واضح يصون هذا المجتمع، ويمكن له نموًا متسقًا مع تاريخه وتضحياته وثقافته والتزامه الديني والقيمي، على طالبان أن تحمل مشروعًا لبناء أفغانستان موحدة متوازنة ومستقرة، مشروعًا قائمًا على فهم الطبيعة الخاصة لهذا البلد في علاقاته وتأثره وتأثيره بجواره.
طالبان، تتقدم الآن وبخطى ثابتة في اتجاه استكمال النصر بانسحاب قوات الاحتلال الأميركي والأجنبي من افغانستان وفق الاتفاق الذي تم التوصل إليه في الدوحة في 29 شباط/فبراير2020، وباستكمال هذا النصر يكون قد انفتح أمام حركة المقاومة هذه وأمام الشعب الأفغاني باب لمستقبل يجب أن يكون من صنع أنفسهم، وتعبيرًا عن إرادتهم الحرة، وممثلًا لرؤيتهم وحدهم، ويليق بتاريخ تضحياتهم وبحجم هذه التضحيات.
ونصر طالبان، ونصر الشعب الأفغاني يؤكد درسًا حقيقيًا وثابتًا قدمته كل الشعوب المكافحة التي واجهت العدوان الخارجي والاحتلال الأجنبي، وهو أن الجهاد هو طريق النصر، وأن إرادة الشعوب هي التي تنتصر مهما كان عتو وجبروت هذا المحتل.