كشفت الحرب على غزة بوضوح وجلاء تامين، فيما كشفت، وبلا تأويلات أو تبريرات خرقاء، أن ما يجري يتعدى النطاق الجغرافي للمعارك والعدوان، فهي “حرب عالمية” من نوع ما، المستهدف منها ليس الغزِّيون وحدهم، أو حركة المقاومة الاسلامية (حماس) ومعها باقي فصائل المقاومة، بل نحن جميعاً، شعوباً ودولاً، حاضراً ومستقبلاً.
آخر فصول هذه الحرب، أو ملامحها، وقف الولايات المتحدة الأميركية لدعمها، أو مساعداتها، لمنظمة الأونروا (الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين)، ومن ثم التحاق العديد من دول الغرب بها (بريطانيا_ فرنسا_ ألمانيا_ هولندا_ استراليا، فلندا، سويسرا، ايطاليا، اليابان)وهي، كما هو معلوم، المنظمة الدولية التي كان يستفيد من مساعداتها، في الآونة الأخيرة، حوالي 2 مليون فلسطيني في قطاع غزة وحده، في مجالات التعليم والصحة والأمان الاجتماعي وغيرها من المجالات الحيوية والأساسية، عقاباً جماعياً للفلسطينيين على مشاركة بعض موظفيها (12 موظفاً فقط من عددهم البالغ 13 ألف موظف) في عملية طوفان الأقصى يوم 7 أكتوبر، حيث قامت فوراً بفصل بعضهم وفتحت تحقيقاً في الأمر يطال كل المتهمين، وكما يعلم الجميع وقبل وقف تلك الدول لدعمها فإن موظفي الاونروا ومؤسساتها في قطاع غزة عانت من شح ما يصلها من مساعدات، بسبب عرقلة “إسرائيل” لقوافل الإغاثة ومنع وصولها، كما تعرضت طواقمها ومؤسساتها لاعتداءات متواصلة وممنهجة، إضافة لقصف مقراتها وتدميرها التي لجأ إليها عشرات الآلاف من النازحين، ولم توفر الصفة الدولية لها حصانة ولا للمحتمين في مبانيها، دون قدرة لأحد على وقف العدوان المستمر، بسبب الموقف الدولي المتخاذل والمتواطئ، رغم تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة ومناشداته المتكررة، في مقابل تصريحات نتانياهو المطالبة بإنهاء عمل الأونروا بالكامل في قطاع غزة التي قال إنها مخترقة بالكامل من قبل حماس.
كما ليست أول وأوضح الإشارات على البعد الدولي لهذه الحرب كيف ترأس الرئيس الأميركي (جو بايدن) لاجتماع مجلس وزراء الحرب الإسرائيلي، في زيارته التضامنية يوم 18 أكتوبر/ تشرين أول، وتصريحاته الواضحة والخطيرة التي كررها أكثر من مرة (لستم وحدكم)، بعد أن قال (إن لم تكن إسرائيل موجودة فعلينا إيجادها كضرورة)، هذا عدا عن تصريحات وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، الصريحة، والوقحة، عن يهوديته بما يخالف كل الأعراف الدبلوماسية، إضافة لتقاطر معظم رؤساء دول الغرب، أو رؤساء الحكومات، ووزراء الخارجية والدفاع لإبداء التعاطف والدعم المطلوبين.
ما بين “حرب التجويع”، آخر فصول هذه الحرب، والدعم الاقتصادي والعسكري اللامحدود، المتمثل بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة، وحاملات الطائرات التي تجوب عباب بحار المنطقة، التي سارعت في الوصول إليها بعد 7 أكتوبر/ تشرين أول، وهي التي تقيم قواعدها من قبل ذلك في عموم المنطقة ( قطر_ البحرين_ الكويت_ العراق_ سورية)، يظهر ملمح آخر للحرب الدائرة بلا هوادة على أرض غزة والمتعلق في الشق السياسي، والحقوقي، والقانوني، الذي لا يقيم اعتباراً (للإبادة الجماعية) الجارية منذ ما يقرب من أربعة أشهر كما جاء في حكم محكمة العدل الدولية في الدعوة التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا، مشكورة وبما يليق بتاريخها العالمي في النضال ضد التمييز والعنف ومختلف أشكال الاستعمار، ضد الكيان الصهيوني في هذا الشأن، ولكل جرائم الحرب التي استخدمت ضد المدنيين العزل وخصوصاً النساء والأطفال، في المشافي والمدارس ودور العبادة ومسح معالم العديد من مدن القطاع بشكل كامل واستباحة كل ما فيها، ولا يغيب عن البال، في هذا الملمح الدولي للحرب، كم التحذيرات والتصريحات التي صدرت عن معاقبة كل من يتضامن مع الشعب الفلسطيني واعتباره معادياً للسامية، والتي ذهبت، مثلاً، بعض المقاطعات الألمانية، في هذا الشأن بعيداً بتشريع قوانين تربط بين الإقرار بالمحرقة (الهولكوست) ومنح الجنسية لطالبيها من اللاجئين، أو تجريدهم منها لمن ينكرونها، أو يشككون بها، قبل أن تتضح الصورة أمام قطاعات واسعة من شعوب العالم وبعض قادتها وساستها، ويتغير المزاج العالمي بنسبة كبيرة تبشر بمتغيرات ايجابية في المستقبل، القريب والبعيد، لجهة محاصرة الصهيونية العالمية ووضع سلوك دولة “إسرائيل” تحت سقف القانون الدولي، ومنح الفلسطينيين، ولو بعض حقوقهم، لجهة تقرير المصير أو إقامة دولتهم المستقلة على أراضيهم المحتلة وفق القرارات الدولية.
نحن السوريون، وخصوصاً مثقفينا، أحسنا الظن كثيراً، وبعضه إثم، في أميركا وكل منظومة الدول الغربية في دعاويها عن دعم الحريات وقضايا حقوق الإنسان، وعلى الجانب الفلسطيني في ما سمي بمسار(السلام) الذي بدأ في مدريد 1991، ذلك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته كاملة، وتحديداً مع بداية هذا القرن بعد إسقاط النظام العراقي ممثلاً بشخص الرئيس صدام حسين، ومن ثم إخراج جيش النظام السوري من لبنان إثر اغتيال رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان، الأمر الذي دفع (المعارضة السورية الرسمية) التي تم اصطناع معظمها بعد ثورة الحرية والكرامة في آذار/ مارس 2011 بأن تضع كل رهاناتها على تغيير نظام الإجرام الكوني في دمشق على يديها، أو أقله بدعمها، قبل أن يكتشف الجميع، الضالين والمضللين، أن ذلك وهماً وسراباً وأن أميركا وإسرائيل لهما مصالح حقيقية واستراتيجية في تدمير سورية وإبقاء نظام الأسد الصغير، والحفاظ عليه، في إطار دوره الوظيفي حيث فضحته مراراً وتكراراً مجريات الواقع وآخرها في الحرب على غزة وأهلها، ما يستدعي وقفة صادقة ومراجعة حقيقية من الجميع، قوى وشخصيات وطنية، وتحديد دوائر من معنا ومن ضدنا؟، من هم حلفائنا ومن هم أعدائنا؟، آخذين بعين الاعتبار أن معركة الشعب السوري، ضد الطغيان والاستبداد والفساد، ليست مفصولة، أبداً ومطلقاً، عن كل المعارك الأخرى الجارية في محيطنا وجوارنا العربي والاقليمي.
نحن لم نختر العداء لأميركا، والخصومة مع سياساتها، من فراغ أو لدوافع إيديولوجية فهي من اختارت دعم كل أنظمة الاستبداد والقتل والإجرام في منطقتنا، سابقاً والآن، وهي التي عادت وأجهضت تطلعات شعوبنا نحو الحرية والسلام، العدالة والأمان، رغم كل دعاويها ومنظومات قيمها التي افتضحت في الحرب على غزة.
في غزة، في فلسطين، في سورية وما بينهما من مناطق حروب ونزاعات أميركا بالشراكة مع الصهيونية العالمية ونظم الإجرام المحلية تقتلنا كل يوم وكل دقيقة.
هذا القول لا يصب في خانة محور القائلين بموت أميركا أو من يعتبرونها الشيطان الأكبر فالحقيقة الساطعة أنهم كاذبون كشفتهم الوقائع والممارسات، وآخرها الحرب على غزة التي تُركت وحيدة إلا من بعض المناوشات (الخلبية) هنا وهناك إصباغاً لبعض الجدية على حقيقة مواقفها وأدوارها.
1 1٬362 4 دقائق
لماذا هذا التجييش وهذه الأساطيل والحصار من قبل أمريكا وحلفائها الغربيين ضد شعبنا؟ هل هي حرب عالمية ثالثة ضد شعبنا وتطلعاته؟ نحن لم نختر العداء لأميركا، والخصومة مع سياساتها، من فراغ أو لدوافع إيديولوجية ولكن لدعمها أنظمة الاستبداد والقتل والإجرام في منطقتنا، أثبت حرب غزة نفاق حلف المقاولة والمماتعة بإدعاء الشيطان الأكبر، وأكدت الشراكة الإستراتيجية لأمريكا والصهيونية والأنظمة الاستبدادية المحلية ضد شعبنا وتطلعاته بالحرية والكرامة.