وليد سيف كاتب دراما ورواية وشعر، فلسطيني الأصل. تابعنا بشغف مسلسلات تاريخية كتبها مثل التغريبة الفلسطينية وعمر بن الخطاب…الخ.
النار والعنقاء – 1 – الرايات السود، الجزء الأول والتي ترصد لحظة تاريخية مهمة ولها تبعاتها: سقوط الدولة الأموية بعد حكم دام أقل من قرن بقليل. وظروف نشوء الدولة العباسية والسنوات الأولى لنشأتها وتمكنها من إسقاط الحكم الأموي واستتباب الحكم لها بعد ذلك، كذلك متابعة أوضاع الحكم الأموي في المغرب الاقصى والاندلس في ذات الفترة ما قبل التحاق الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية هاربا من العباسيين الذين قضوا على الدولة الأموية وقتلوا كل شبابها، ومن ثم يؤسس حكما أمويا هناك.
تبدأ رواية الرايات السود من رصد أواخر حكم الأمويين في زمن هشام بن عبد الملك في العقد الثاني من القرن الهجري الثاني حيث كان قد أصبح الخليفة الأموي بعد ان بايعه أخوه يزيد بن عبد الملك على الحكم بشرط أن يكون ولي عهده ابنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك. وفي ذات الوقت كانت الدعوة العباسية تعمل في السر والخفاء كتنظيم سري محكم ليكون لهم الحكم على أنقاض الأمويين الذين يعملون لإسقاط دولتهم.
لم تتوقف محاولات إسقاط الحكم الأموي طوال قرن حكمهم بدء من حركة الحسين بن علي وفشلها وقتل الحسين وقتها. ولا ثورة عبد الله بن الزبير وثورته التي لم تنجح. كانت الدعوات تنصب على احقية آل بيت الرسول ص بالحكم سواء في فرع علي بن أبي طالب الذين اعتزلوا العمل للوصول للحكم بعد أن تبين لهم بطش بني امية بمن خالفهم وعدم تمكنهم من امتلاك القوة للمطالبة بالحكم وتحصيله بالقوة. كان لعلي بن أبي طالب ولد من زوجة أخرى غير فاطمة بنت الرسول ص ، أنه محمد بن الحنفية والذي كان قد أوصى أن تنتقل مهمة متابعة العمل ليسترد آل بيت النبي الحكم الذين يؤمنون أنه من حقهم. الى فرع عم الرسول ص العباس متمثلا بمحمد بن علي أحد أحفاده، حيث يطلق عليه اتباعه تسمية الإمام تعظما وتبركا. وكانوا قد بنوا تنظيما سريا يؤمن بحق الحكم للامام وأبنائه ونسله من بعده ، ينشطون في كل اركان الدولة الاسلامية الممتدة من خراسان وجوارها شرقا لتصل الى المغرب الاقصى العربي والأندلس غربا.
لقد تمركزت دعوتهم بشكل كبير في خراسان ضمن تنظيم هرمي دقيق. فالذين يلتقون بالإمام ويعرفونه هم النقباء وعددهم محدود. يليهم مجلس أوسع مؤلف من سبعين رجلا يقومون على أمر الدعوة ونشرها وضبط أحوالها.
في خراسان تواجد إبراهيم بن ختكان فتى فارسيا فقيرا يعمل عند أبي خليل السراج المنتمي للدعوة العباسية واحد نقبائها في خراسان. ابراهيم ختكان الذي يعتبر نفسه من نسل أحد الأكاسرة الفرس، اهتم بتنشئة نفسه من علوم الأولين والآخرين. يؤمن أن الفارسيين قومه واهله قد صنعوا حضارة عظيمة وقد سحقها العرب أيام الفتوحات الإسلامية وبقي في نفسه حقد على العرب، ولو أنه مسلم فهو يرى أن على الفرس أن يعودوا سابق سيطرتهم وأن يحكموا ويعملوا حتى يسقطوا الدولة الأموية بعنصرها العربي، و يهيمنون هم الفرس عبر الدعوة العباسية التي تحدثت عن التساوي بين العرب والفرس و انتشروا بكثافة في بلاد فارس وعملوا ليكونوا اليد القوية التي يبطشون بها بالأمويين. رغم كون العباسيين من العرب ومن بيت النبي ص و من صفوتهم.
إبراهيم بن ختكان هذا سيكون له دور كبير وعلى يديه تنتصر الحركة العباسية للوصول للسلطة وتحقيق حلمهم بالخلافة التي ستمتد لقرون. بدأ يظهر مواهبه التحليلية لمعلمه الخلال ومنه الى نقباء الدعوة العباسية في خراسان. بحيث انتخبوه ليرسلوه حتى يكون فتى يخدم الامام الذي كان يسكن الحميمة في أطراف الشام قريبا من مركز الخلافة حيث الخليفة هشام بن عبد الملك. وعند الإمام محمد بن علي أثبت ابراهيم جدارته وقوة حنكته ودهائه السياسي واقنع الإمام أن مادة جنده يجب أن يكونوا من الفرس والموالي وانه ان انتدبه لهذا الامر واعادة الى خراسان فإنه سيعمل ليتوسع في جلب الأنصار ويؤسس جيشا سيكون الفاتح للبلاد أمام الخلافة العباسية متنقلا من خراسان الى العراق والكوفة ومنها الى الشام مركز الخلافة الأموية ويسقطها. تحمس الإمام محمد بن علي لخطة ابراهيم وأفكاره وقرر إرساله الى خراسان ليكون رئيس الدعوة هناك. كان الإمام على فراش الموت عين ابنه إبراهيم خليفة له إماما جديدا وطلب من ابنه أن يقر المهمة الموكلة لابراهيم. لم يعجب أبنائه الآخرين ابو العباس الملقب بعد ذلك السفاح وأخوه ابو جعفر الذين وجدوا في إبراهيم طموحا كبيرا قد يصل الى الضرر بالدعوة العباسية نفسها لمصلحة نفسه. كانوا يرتابون منه و يحذروه.
خلع الإمام على إبراهيم بن ختكان اسم عبد الرحمن بن مسلم ولقّبه أبا مسلم الخراساني. لم يعجب الدعاة في خراسان ترأس أبا مسلم عليهم، فهم يكبرونه في العمر والمرتبة والسبق في الدعوة، لكنهم امتثلوا لأمر الإمام وبعضهم أظهر الضيق. وضمر أبو مسلم كل ذلك بنفسه، وكل وحاسبهم بعد تمكنه على عدم ولائهم له وازدرائهم به ، حيث قتل أغلب من كان جواره من قادة الدعوة. لضرورات تفرده بالحكم ، وحتى يصنع لنفسه سلطة مطلقة .
استطاع أبو مسلم ان يتوسع بنشر الدعوة وجلب الأنصار وتجهيز المقاتلين ليوم يستطيع به السيطرة على خراسان والانتقال الى العراق والشام والتأسيس لدولة العباسيين الجديدة.
على مستوى آخر كان الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك يبحث عن مبرر ليخلع ولاية العهد عن ابن أخيه الوليد بن اليزيد، ويعطيها لابنه معاوية. وكان الوليد بن يزيد يستشعر ذلك حيث جعله الخليفة هشام يعيش بعيدا عن عاصمة الملك. يلهو بالجواري والشراب والخوف على مستقبله من غدر عمه به. لكن حادثا حصل مع معاوية بن الخليفة هشام أدى لمقتله وهو يطارد ثعلبا اثناء الصيد. وهكذا أزاح الموت معاوية بن هشام ثبت الوليد بن يزيد على ولاية العهد بعد عمه الخليفة هشام بن عبد الملك، الذي فكر بتجهيز ولدا آخر يعطيه ولاية العهد لكن موته كان اقرب اليه.
اهتم الخليفة هشام بأولاد ابنه المتوفى معاوية وكان منهم حفيده عبد الرحمن بن معاوية من أمه المغربية. وكان للخليفة اخ اكبر منه هو مسلمة لم يصبح خليفة لأنه ابن جارية، تنبأ بزوال ملك الأمويين وأن هذا الطفل عبد الرحمن بن معاوية سيبني مجد الأمويين في المغرب العربي والأندلس. كان تنبؤا جعل للطفل حظوة عند الخليفة هشام جدّه الذي بدأ يعلمه شؤون الحكم منذ صغره.
مات الخليفة هشام بن عبد الملك. واستلم الحكم ابن أخيه الوليد بن يزيد. لم يكن ذلك ليرضي البيت الأموي كله. وبدأت تظهر عوامل الفرقة والاختلاف على الحكم بينهم.
في ذات الأثناء قويت شوكة العباسيين في خراسان بقيادة أبي مسلم الخراساني. فجاء الأمر لأبي مسلم من الامام ابراهيم بن محمد أن يبدأ معركته في السيطرة على خراسان بما لديه من أتباع ومريدين. ارسل اليه الراية واللواء السوداوين المكتوب عليهم يا محمد يامنصور. وبدأت المعارك جزء منها قتال مرير وجزء منها دهاء وسياسة. وانتصر فيها أبو مسلم ومن معه، لكن الثمن كان غاليا جدا، القتلى وصلوا لمئات الآلاف من الجند وأنصار بني معاوية. كما قتل أبو مسلم الكثيرين من قادة الدعوة العباسية سواء لضغنه منهم عندما تمردوا عليه عندما جعله الإمام سيدا عليهم وهو أحدثهم واصغرهم. كما أنه لم يترك أي منافس له في الحظوة عند الإمام.
تابع أبي مسلم حربه لإسقاط الأمويين منتقلا الى العراق والكوفة أصبح محاصرا للشام واطرافها.
في ذات الوقت كان الأمويين متصارعين فيما بينهم ، الخليفة الوليد بن يزيد ضد أبناء الخليفة المتوفى هشام بن عبد الملك الذين اقصاهم ابن عمهم معاوية بن اليزيد. او بقية الامويين الذين عملوا كل على مصلحته وكيف يحمي نفسه وحكمه. حيث حاول الخليفة الوليد أن يأخذ البيعة لأحد أولاده من امهم الجارية وهذا ما لم يكن سائدا من قبل في بني امية، وهذا أدى لمزيد من التفرقة والصراع. وتجمع وجوه بني أمية وتوجهوا للشام وقتلوا الوليد بن يزيد ووضعوا مكانه يزيد بن الوليد خليفة. الذي لم يبقى طويلا في الحكم حيث حاربه مروان بن الحكم وأخذ الحكم منه.
في هذه الأثناء كان أبو مسلم الخراساني يعد الجيوش لتتوجه الى العراق وتسقط حكم الأمويين و تؤسس لحكم العباسيين.
وصلت جيوش أبي مسلم الى الفرات وتمركزت على شطه و تمركز جيش الخليفة الاموي مروان بن الحكم مقابلهم على الشط الآخر وبدأت المناوشات والحرب. انتصر اخيرا جيش العباسيين وهرب الخليفة مروان وبدأت مرحلة البحث عن الأمويين وقتل كل شبابهم. حتى يستتب أمر الحكم للعباسيين.
اختفى وهرب أغلب الأمويين، و قبض على البعض وهرب البعض وقاتل البعض حتى الموت…
اختفى عبد الرحمن بن معاوية مع نبوأته عن تأسيس ملك الأمويين مجددا في المغرب العربي والأندلس.
أما العباسيين فقد توفي الإمام إبراهيم قبل أن تصل أخبار الانتصارات وان تأسيس الدولة بين أيديهم. أصبح أبو العباس السفاح الإمام الجديد و له يجب أن تتم البيعة كأمير للمؤمنين عند العباسيين. كان معتل الصحة لكنه استطاع التحمل ليصعد إلى جامع الكوفة ويلقي بها كلمته التي تعلن بداية حكمهم وان الحق لبيت رسول الله بالحكم قد عاد إليهم، وأن يبايعوا أخوه أبو جعفر على الحكم والطاعة لخليفتهم.
أما أبو مسلم الخراساني فقد وجد ان الطريق له ليكون الحاكم الفعلي للدولة الوليدة أصبح ممهدا. حيث قضى على كل منافسيه بما فيها رفيق دربه لعودة مجد الفرس بعد أن هدمها العرب المسلمين ولا مشكلة عنده إن كان تحت راية الاسلام. لكن الخليفة ابو العباس السفاح وأخوه أبو جعفر أدرك أنه أصبح عبئا عليهم وان قوته لم تعد مقبولة.
لم تتحدث الرواية عن مصير ابو مسلم الذي سيقتله بعد ذلك أبو جعفر المنصور خوفا من سطوته وحيطة لحماية حكمه.
كما تابعت الراوية حال العرب والمسلمين في المغرب العربي والأندلس في ذات الفترة التي كانت تتحدث عن أواخر عهد الأمويين في المشرق العربي.
كان العرب اليمنيين والقيسيين هم المادة الاولى للمقاتلين الفاتحين المسلمين في المغرب العربي والاندلس. وبعد انقضاء الزمن الأول للفتوحات والوصول إلى الحكم والملك والمكتسبات والغنائم كل ذلك جعل الفاتحين يعودون إلى عصبيتهم القبلية يتصارعون ويتنافسون. خاصة في الأندلس التي كانت بلاد خيرات ومال كثير.
الرواية تتحدث بتفصيل كبير وعن عقود طويلة حيث تحولت الصراعات البينية إلى حروب يهدر بها دم المسلمين في المغرب العربي والأندلس لاجل مكتسبات مادية لهذا الطرف او ذاك…
هكذا كانت أجواء المغرب العربي والأندلس في أواخر الحكم الأموي الممتد ولو اسميا الى هناك…
هذه هي الأجواء التي ستستقبل قدوم عبد الرحمن بن معاوية الأمير الأموي الهارب الى المغرب، الذي سيؤسس ملكا ، نعرف حقيقته لاحقا.
هنا ينتهي الجزء الأول من الرواية.
وفي التعقيب أقول:
الرواية رائعة من حيث الصياغة والسرد والإيضاح وشغف المتابعة، وسرد التاريخ بطريقة سلسة ووصول المعلومة وعبرتها لنا بأفضل طريقة.
تُظهر الرواية قوانين ونواميس في السياسة والحكم تجعلنا نستوعب ما حصل تاريخيا. لكننا لا نقبله ولا نجد له مبررا. الحكم الذي من أجله يقتل مئات الالاف من المقاتلين هذا غير انعكاس ذلك على الحياة العامة وعوائلهم. لنكتشف أن طريق الحكم مبلط بالدم والخديعة والغدر والخداع واستغلال كل شيء . قتل الأخ والقريب والصديق ورفيق الدعوة وصاحب الطريق.
السياسة في أحد أوجهها تظهر الجانب الوحشي في الإنسان فردا وجماعة. وما حصل في سوريا من استباحة دم السوريين وأعراضهم وأملاكهم وقتلهم وتشريدهم لأجل الحكم والمصالح الضيقة التافهة الدنيوية للنظام واتباعه… نموذجا حيا عن ذلك…
٢٣ . ١ . ٢٠٢٣م.
رواية “النار والعنقاء” – 1 – الرايات السود” للكاتب الفلسطيني “وليد سيف” قراءة جميلة للرواية الأولى من “النار والعنقاء” وهي “الرايات السود” وتعقيب موضوعي من قبل الكاتب “احمد العربي” الرواية رصدت لحظة تاريخية وتبعاتها “سقوط الدولة الأموية” بعد حكم دام أقل من قرن بقليل. وظروف نشوء الدولة العباسية والسنوات الأولى لنشأتها وتمكنها من إسقاط الحكم الأموي واستتباب الحكم لها.