في البدء:
نحن أمام كتاب جديد متميّز ل د. برهان غليون، أعتقد أنّي قرأت أغلب كتاباته إن لم يكن كلها، عبر عقود، لقد كانت كلها كتابات تتمحور حول موضوعها، في علم الاجتماع، والسياسة، والفلسفة، صحيح أنها تنهمك منذ كتاب د برهان الأول: بيان من أجل الديمقراطية في نهاية سبعينيات القرن الماضي، في الشأن العام العربي حول أزمة الدولة العربية والسلطات والشرعية والاستبداد والفساد والحلول المقترحة لتجاوز هذا الواقع، الذي عنى استمرار التخلف والقمع والاستبداد وتأبيد الأنظمة التي تستغل وتقمع شعوبها.
نعم الموضوع كان عاما لكنّه من منظور ذاتي للدكتور برهان كان همّا شخصيا لكونه أزمة الأمة العربية عموما وسوريا خصوصاً، لكنّه لم يقترب أبدا من الجانب الذاتي (على علمي) في أي من كتبه السابقة، لكنّه في هذا الكتاب الذي بين يدينا، نجد د برهان منغمس في الموضوع بذاته، محددا موقفه وموقعه من الواقع السوري والعربي منذ بداية شبابه.
لعلّ دافعه إلى ذلك هو؛ الربط بين ماضيه ودوره في الحراك السياسي السوري، وبين دوره في الثورة السورية التي تقلد فيها موقع رئيس المجلس الوطني السوري لفترة محدودة، يريد القول إنه؛ داخل الحالة السياسية السورية المعارضة وفاعل بها منذ عقود، وأنّ دوره بعد الربيع السوري ٢٠١١م هو استمرار لدوره الماضي وإن بصورة مختلفة.
المقدمات:
قد يكون المهم التحدث عن ندرة وقلّة الكتب التي تراجع تجربتها السياسية في الفضاء السياسي العربي عموما والسوري خصوصا، الأنظمة المستبدة تستدعي الكتّاب والصحفيين خاصة الأجانب، لتكتب عن الرئيس القائد الخالد، بحيث تؤلهه وتزين أعماله وتطمس عيوبه، تقوم بتزييف مسبق لتاريخ لم ينجز بعد ولم يكتب. ذات الحالة تنطبق وإن بصورة أقل حدة على المعارضين للأنظمة، قليلة جدا هي المراجعات الفكرية أو السياسية لهذه القوى أو لقادتها الذين تأبّدوا في قيادة أحزابهم، وأغلبهم غادر الدنيا وهو منصب الأمين العام لحزبه وجماعته. المهم الكتاب بين يدينا مراجعة نقدية بعد أعوام قليلة على تجربة إدارة قوى الثورة السورية السياسية والعسكرية. وننوّه أيضاً إلى الاعتراف الضمني المسبق بأن لدينا عطب ذاتي فينا، وفي تسيير أمور ثورتنا، ذلك قبل قراءة الكتاب ومن ثم الحكم على محتواه وتقييمه.
مرحلة الشباب والهم السياسي:
د. برهان من الشباب السوري الذين تفتح وعيهم على انفصال الوحدة بين مصر وسوريا ١٩٦١م، هذه النكبة التي أنهت أول وحدة عربية في العصر الحديث، وانشغال الشباب المسيّس في مشكلة العلاقة مع مصر وعبد الناصر وقضية الوحدة، وأزمة قضية فلسطين التي بنيت على جزء منها دولة إسرائيل بعد نكبة هزيمة ١٩٤٨م، ومأزق الشباب العربي مع أنظمة مستبدة تابعة، وقضية العدالة الاجتماعية المفتقدة. المهم كان الشباب العربي جيل د. برهان وما قبله وما بعده منهمك بالبحث عن الأجوبة… كيف نتحرر ونتقدم ونتوحد؟
كان د. برهان قريباً من الأجواء اليسارية الماركسية، اجتمع في إحدى خلايا الحزب الشيوعي السوري عدّة اجتماعات ثم غادرهم، اصطدم مع محاولتهم أن يدجّنوه ضمن أطرهم الفكرية الخاصة منعا للمحاكمة العقلية الذاتية، إضافة لغربتهم عن الواقع السوري. سرعان ما اكتشف أزمة العمل الحزبي اليساري الماركسي والناصري مبكرا.
فكر مع صديقه ميشيل كيلو أن يقتربوا من المجموعات الفدائية الفلسطينية؛ التي بدأت بالظهور معلنة العمل الفدائي المسلح لتحرير فلسطين، وسرعان ما تأكد له أن أزمة العمل الفدائي الفلسطيني هي أنها انحازت للعسكرة أكثر وأنها تعمل على خلفية الانضباط الذاتي والمنافسة البينية مع بقية القوى الفدائية.
مرة أخرى وجد أنّ العمل الفدائي لا يلبي طموحه السياسي. لذلك قرر أن يكمل دراسته الجامعية التي أنهاها وغادر إلى فرنسا ليكمل تحصيله العلمي، ويحصل على درجة الدكتوراة.
وبالفعل حصل على الإجازة العلمية، وقرر العودة إلى سوريا نهائياً. عاد لكنه اكتشف أنّه لن يستطيع الاستمرار فيها، لقد وجد أن المناخ السياسي الذي خلقه حافظ الأسد لا يمكن أن يكون مجال لأي نشاط فيه، وأن من ينشط سياسيا مصيره الاعتقال أو القتل. لذلك غادر إلى الجزائر التي درّس في جامعتها لعدّة سنوات، وأنجز هناكّ أول كتبه: بيان من أجل الديمقراطية.
سورية حكم البعث والأسد رئيسا:
عايش غليون انقلاب آذار ١٩٦٣م ووصول حزب البعث وبعض الضباط الناصريين إلى السلطة في سوريا، وكيف بدأ البعث ينفرد بالسلطة وأقصى الناصريين، وسرعان ما بدأ الجناح العسكري في البعث ومنهم حافظ الأسد وصلاح جديد بإقصاء الجناح المدني للبعث برموزه؛ ميشيل عفلق، وصلاح الدين البيطار، وكانت الفترة بين ١٩٦٣ حتى ١٩٧٠ كافية ليصل حافظ الأسد إلى رأس السلطة في سوريا، مبعدا كل خصومه داخل حزب البعث إلى المنافي والسجون.
حافظ الأسد الذي كان بالتحالف مع صلاح جديد قد أبعد عفلق وفريقه عن قيادة حزب البعث بعد ١٩٦٦م، ولم يكن لهزيمة ١٩٦٧م أمام العدو الصهيوني، ولا لاحتلال الجولان أي تأثير على حافظ الأسد الذي كان وزيرا للدفاع وقتها، بل على العكس سيعمل بعد الهزيمة على تجميع خيوط السلطة في يده، لقد اختلف سياسيا مع صلاح جديد، لكن الخلاف الحقيقي كان على النفوذ ومن يستفرد بالحكم، كان موقف الأسد من مجازر أيلول الأسود ١٩٧٠م وترك الفدائيين لمصيرهم، وبداية القبول بالتعاطي مع القوى الدولية بمنطق المصالح، ومن ثم إقصاء صلاح جديد وزجّه بالسجن حتى وفاته وتفرده بالحكم في سورية منذ ١٩٧٠م.
حافظ الأسد: حاكم سوريا المؤبد:
لم يكن أمام القوى والأحزاب السياسية التي واكبت استقلال سوريا وحزب البعث منهم، إلّا أن تلمّ شملها، وتعدل طريقة حراكها في سوريا منذ انقلاب ١٩٦٣م حتى تربّع حافظ الأسد على حكم سوريا عام ١٩٧٠م، بادر جمال الأتاسي، وهو أحد مؤسسي حزب البعث سابقا إلى تشكيل حزب ناصري، الاتحاد الاشتراكي العربي، ظهرت كذلك بعض الأحزاب الأخرى القومية، والناصرية، والحزب الشيوعي السوري العريق، الذي كان قد بدأ يشهد إرهاصات اختلافات داخلية فيه على خلفية القضية القومية العربية وقضية فلسطين.
وما أن استتب الحكم لحافظ الأسد حتى بدأ يطبق خطّته الاستراتيجية بإلغاء السياسة في المجتمع السوري، اعتمد العنف مع المعارضين، كما أنّه استوعب بعض الأحزاب المدجّنة التي كانت مجرد تعبير مزيف عن وجود حالة حزبية متنوعة في سوريا. بنى حافظ الأسد مع قوى سياسية أخرى ما سمي الجبهة الوطنية التقدمية، التي سرعان ما انسحب منها جمال الأتاسي وحزبه، حيث تبيّن له ولغيره أنّ البند الدستوري رقم ٨ يعطي لحزب البعث قيادة الدولة والمجتمع، وهذا يعني أن الوجود الحزبي الآخر غير فاعل، ومجرد شاهد زور على ما يحصل في سوريا.
إن اعتماد الأسد على إقصاء المختلفين اقترن مع بناء بنية عسكرية وأمنية متماسكة وقوية، قوامها بشكل أساسي البنية العائلية وبعض الامتداد الطائفي العلوي، كان العنف والبطش هو طريقه لبناء سوريا جمهورية الخوف والقمع. استند على ادّعاء انتصاره في معركة تشرين عام ١٩٧٣م مع (إسرائيل)، وما تلاها من توافقات مع كيسنجر حول الجولان السوري.
كما أنّه بدأ يتحرك ليضع يده على القضية الفلسطينية من خلال وضع المنظمات الفلسطينية أمام خيار الولاء له، أو العداء منه. كانت القوى الدولية وعلى رأسها أمريكا وبرضى (إسرائيلي) قد قبلت بدور حافظ الأسد في سوريا، وفي لبنان لاحقا، ومحاولة السيطرة على الثورة الفلسطينية وتدجينها. كانت أحداث الصراع بين القوى الوطنية اللبنانية المتحالفة مع قوى الثورة الفلسطينية بمواجهة القوى الانعزالية المدعومة أمريكياً و(إسرائيلياً) ودخول القوات السورية ١٩٧٦م إلى لبنان تحت دعوى منع الاقتتال ومنع التدخل (الإسرائيلي) وحصول مجزرة تل الزعتر، ثم حصار التواجد الفلسطيني في لبنان بالتناغم مع العدوان (الإسرائيلي) لاحقاً، وإخراج المقاومة الفلسطينية بقيادة أبو عمار من بيروت ثم من طرابلس إلى غير رجعة م١٩٨٢ و١٩٨٣م.
ومن يومها أصبح لبنان تحت الوصاية إن لم نقل الاحتلال السوري، وأصبح جزءاً من المجال الحيوي للنظام السوري، حافظ الأسد وعصابته الحاكمة. كان للنظام السوري خصم وحيد جدي هو؛ النظام العراقي، رغم بعثتهم، وكان التيار الإسلامي السوري على تنوّعه قد اختلف مع الدستور الذي وضعه حافظ الأسد للبلاد.
وهكذا بدأت بعض العمليات العسكرية ضد بعض الشخصيات أو المواقع للنظام السوري، كان وراءها جماعة الطليعة الإسلامية المقاتلة، كان ردّ النظام السوري عنيفاً جداً، واعتبر ذلك مبررا ليقضي على الإسلاميين عموما وعلى القوى الوطنية الأخرى المعارضة.
حاول الإخوان المسلمين في بداية عمليات الطليعة المقاتلة منذ أواسط السبعينيات النأي بأنفسهم، لكن عنف النظام وبطشه ورفض شبابه الصمت عن فعل النظام، الذي كان ردّه وحشيا وخاصة بعد مجزرة مدرسة المدفعية في حلب، والتي تلاها مجازر ضد الشعب السوري على أنّه حاضنة للإرهابيين، عشرات آلاف القتلى في مدينة حماة وغيرها من المدن السورية.
في ذات الوقت لم يكن يقبل ممثلي النقابات والأحزاب السورية الوطنية بما حصل في سوريا، وطالبت بالخيار الوطني الديمقراطي، ورفضت طائفية الإخوان وعنفهم، ورفضت عنف النظام ووحشيته واستبداده. هذا أدّى إلى حملة أمنية واسعة، طالت كل القوى الوطنية السورية وممثلي النقابات المهنية. كان الحزب الشيوعي السوري المكتب السياسي بقيادة رياض الترك المنشق عن الحزب الشيوعي بقيادة خالد بكداش، قد وضع يده بيد الأخوان المسلمين وبعض القوى الأخرى، وكانوا متهمين بعلاقتهم مع النظام العراقي وتشكيلهم جبهة تحرير سوريا، لذلك كان التنكيل بهم أشد، وكان مصير أغلبهم المنافي أو الاعتقال لسنين طويلة، حيث اعتقل رياض الترك ثماني عشرة عاما، أغلبها في المنفردة. أو الانتقال للعمل السري والاختفاء تحت الأرض.
أما جمال الأتاسي وحزبه فقد بقي يعتمد المرونة في المواجهة مع النظام، واللعب على الخط الأحمر معه وعدم تجاوزه، إلا في حالات فردية، لذلك كان نصيب كوادره من الاعتقال والتنكيل أقل من المكتب السياسي. ما كادت تنتهي الثمانينات في سوريا حتى كانت القوى السياسية السوريّة في حالة موت حقيقي، كوادرهم قلائل وأغلبهم معتقل، امتدادهم في الجيل الجديد شبه معدوم.
لقد أصبحت سوريا ذات لون واحد لقطيع طاعة النظام الاستبدادي بإلهه الأوحد حافظ الأسد. في هذه الفترة كانت علاقة د. برهان مع بلده سوريا شبه منقطعة، وكان يدرك أنّ وجوده في سوريا في هذا الوقت مع التعبير عن مواقفه يعني اعتقال لوقت طويل، على أحسن تقدير، لذلك قرر أن يستمرّ في تواجده في فرنسا، وعمل مدرسا في أعرق جامعاتها، واستمرّ بإنجازاته الفكرية والعلمية.
في مطلع تسعينيات القرن الماضي، تواصل مع برهان غليون الأستاذ رياض نعسان آغا وكان سفيرا وقتها، وأوصل له رسالة مفادها؛ أنّه مرحب به في بلده سوريا.
وبالفعل قدم غليون إلى سوريا، والتقى فيها بجمال الأتاسي وكثير من القوى السياسية الأخرى، توصّل إلى نتيجة مفادها أنّه في ظل وجود حافظ الأسد تكاد أن تكون الممارسة السياسية شبه انتحار، خاصة بعد أن أصبح حافظ الأسد وكيلا معتمدا للقوى الدولية في أغلب قضايا المنطقة. ها هو يشارك في تحرير الكويت من العراقيين مع الأمريكان في ١٩٩٠م، دوره في لبنان والهيمنة عليه وتطويعه وتدجينه، دوره في القضية الفلسطينية حيث نفيت الثورة بعيداً إلى تونس، صحيح أنّها ستعود للداخل الفلسطيني لكن بسبب الانتفاضة الفلسطينية. لقد كان عقد التسعينات من القرن الماضي، عقد الموت السياسي في سوريا، وظهور مرض حافظ الأسد، وتجهيزه لابنه باسل الأسد ليكون خليفته في حكم سوريا، وكيف انتقل لتجهيز ابنه الأصغر بشار ليخلفه في الحكم بعد موت باسل في حادث سير، ستدخل سوريا في حالة ثبات داخلي اقتصادي، واجتماعي، وسياسي، إلى أن يموت حافظ الأسد في عام ٢٠٠٠م، ويأتي ابنه بشار لتدخل سورية في عهد جديد.
المصدر: الأيام