كنت صغير السن في جلسات للكبار.. لكني شاهدا علي أمسيات أبي وخالي الكبير عبد الرحمن عبد الرحمن عبد الحفيظ والعم أحمد غريب وآخرين رحمهم الله، فوق سطح دارنا بقرية كوم الآطرون، طوخ، قليوبية .
كانت أمسيات عامرة بحكايات من السياسة والفن، وتزداد تألقا كلما كانت الأمسية بغرض الاستماع لأم كلثوم في حفلها المعتاد يوم الخميس الأول من كل شهر ،أو الاستماع لخطاب يلقيه جمال عبد الناصر فينتقلون به الي غد جديد .
شاهدت خالي وكان حكاء عظيما بخيال خصب ،وهو يقلب النار بيديه مرة وبالماشة مرة ، لتسوية الشاي علي نار هادئة ، وينتقل من حكاية الي أخري عن شكل الناس المحظوظة بحضور حفلات أم كلثوم ومشاهدتها عن قرب، ولا يمل من ذكر قصة عمه علي وعم والدتي أيضا الذي هاجر مبكرا إلي القاهرة ، وأضرب عن الزواج لأنه لم يجد متسعا في حياته لغير ثلاثة أشياء هي، حضور حفلات أم كلثوم واقتناء كل نوادرها الفنية ، وزعامته لمشجعي الأهلي في منطقة لاظوغلي وعدم التخلف عن حضور مباراة كرة قدم أو تدريب لفريق الشياطين الحمر ، وحبه لجمال عبد الناصر وحضور خطاباته السياسية التي كان يلقيها أمام الجماهير الغفيرة ، ولما مرض مرضه الأخير سافر خالي لزيارته فوجده يفيق من غيبوبة ثم يعود إليها ، وفي إحداها همس خالي في أذنه :” شيد حيلك يا عم علي علشان حفلة أم كلثوم بكرة ” ، وجاءت المفاجأة في قيام الجد علي من رقدته ، وكأن المرض قد ذهب بلا رجعة، لكنه لم يقوي علي حضور حفلة أم كلثوم ، واكتفي بسماعها في الراديو ليموت بعدها .
كانت حكاية الجد “علي” واحدة من عشرات بل مئات الحكايات التي استمعت اليها في أمسيات الليل علي سطح دارنا ، وكان خالي عبد الرحمن بطبيعته حكاء خصب الخيال ، ولديه قدرة فائقة علي الانتقال بسلاسة من حكاية الي أخري، وكانت حكايات السياسة تتشعب من أحوال جبهات القتال ضد إسرائيل وشهداء قريتنا، الي أخبار جمال عبد الناصر وحكايات عنه أشبه بالأساطير، ثم ما ذكره الراديو من مقال “بصراحة” للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل ، والذي كانت الأهرام تنشره كل جمعة ويتم قراءته في الراديو.
كان الراديو جسرهم إلى العالم.. أما جلساتهم فكانت عندى العالم كله.
* هل كان هذا هو البدء عندى نحو حب جمال عبد الناصر وأم كلثوم؟..
ربما، فمخزون ذكرياتي من بيئتي الأولي الغنية بالتفاصيل الهامة ،يرشدني إلى ما كنت أنقله من حكايات أمسيات الليل الي زملائى التلاميذ في المدرسة.
كما يرشدني لحكايات أخرى عن خالي الثاني عبد العزيز رحمه الله الذى عرف طريقه إلى حفلات أم كلثوم بزيه الفلاحي الأنيق، وحديثه عن بكاءه المر ومشاهدته لبكاء الحاج حسنين فراج أحد وجهاء وأعيان قريتنا وهما يحضران حفلتها التي شدت فيها بأغنية: “حسيبك للزمن.. لا عتاب ولا ندم.. تشكي مش هسأل عليك .. تبكي مش هرحم عينيك .. ياللي مرحمتش عينيه لما كان قلبي في إيديك .. دارت الأيام عليك “، جاءت الأغنية علي وجع الحاج حسنين وحزنه علي فراق أمه التي رحلت قبل الحفل وكان متعلقا بها الي حد كبير .
في ذكرياتي أيضا حكايات العم ” محمد القاضي ” والد صديق الطفولة والصبا والشباب مجدي حين كان يحكي لنا ، ذكرياته عن حضوره حفلاتها وقت أن كان طالبا في مدارس القاهرة، وكان يتذكر حفلة ” الحب كده ” الذي حضرها بمحايلة مع رجال الأمن ولم يكن معه ثمن التذكرة ، وبعد الحفل خرج هائما في شوارع القاهرة كأنه معلق بين السماء والأرض بسبب مقطع :” يا سعدُه اللي عرف مرة حنان الحب وحلاوته .. ويا قلبه اللي مداق الحب ومرارته ”
وفي ذكرياتي حكايات سمعتها من عمدة قريتنا الراحل الحاج عزت عبد الحفيظ عن حفلاتها وانتظامه في حضورها ،وأكثر ما ندمت عليه في هذا المجال أنني لم أسجل ما رواه لي هذا الرجل الفذ ،أما في يوم رحيلها 4 فبراير عام 1974 فكان الحزن مزدوجا في قريتنا ، مرة علي فراقها ، ومرة علي موت الجد عبد الباسط فايد الذي امتلك هيبة نادرة ، ورحل يوم رحيلها .
ما سبق ذكره بقي نبضا ينعش أحاسيسي دائما، والمؤكد أن كل هؤلاء كانوا في ذهن نجيب محفوظ وهو يقول في رواية “ميرامار”: “ليلة غنائها هى ليلة جميع الطبقات، والأفراد، وصوتها علامة عصر بأكمله”.
المصدر: صفحة الأستاذ سعيد الشحات