صدرت قبل أسابيع رواية أبناء الطين للكاتب السوري أحمد عبد الكافي الحمادة، وهي تتناول موضوع البداوة والريف والمدينة عبر تجربة حية تلامس القارئ وتجعله يلتفت إلى تاريخ حواضرنا الجديدة التي ما تزال البداوة مُعلقةً في تفاصيلها، تكاد تلمس ذلك حتى في أنفاس أبنائها.
تجتمع في رواية “أبناء الطين” أنماط العمران بمراحلها الثلا: البداوة والريف والتمدن، وهي تعبّر هذه المراحل بطريقة تُقارب الواقعية السحرية التي اشتهر بها الكولومبي “غابرييل غارسيا ماركيز” في رائعته الشهيرة “مائة عام من العزلة أشهر” أكثر روايات ذلك التيار شهرة، فيما ساد ذلك في الأدب العالمي في الربع الأخير من القرن الماضي والذي توّج بنيله جائزة نوبل للآداب.
تبدأ فاجعة قرية الشلال بغزو مفاجئ يجتاحها من قبل بدو يتجمعون على تخومها ضامرين الطمع بخيراتها، وتحت ذريعة خطف أخت شيخ القبيلة من قبل فارس من القرية، رغم كذب تلك المزاعم إلا أن القرية وسكانها يدفعون ثمنا باهظا يكلفهم خسارة الذكور من أبناء القرية ولا يبقى إلا فتى كسيح نجا بالصدفة مع مجموعة من النساء.
تخرج نساء القرية هاربات من الجثث ومن احتمال عودة الغزاة في قافلة جنائزية تأخذ ما تبقى من أغذية ومن مواش متجهات الى جبل مجاور بقيادة امرأة ذيبان التي بقي ابنها الوحيد خالد الذي يعاني من إعاقة في أطراف جسده السفلية.
تعيش النساء في مغارة ضائعة في قمّة سفح جبل، بعد أن يتم تنظيفها وتأمينها من الحيوانات الضارية وتنظيم الحياة فيها في جو عجائبي ينوس بين الواقع والخيال، إذ تنظم النساء شؤون المأكل والرعاية وينظم حياتهن بشكل يضمن لهن الاستمرار في الحياة والاستثمار في مواشيهن ريثما يستطعن فعل شيء بعد المأساة التي أحرقت قلوبهن إثر قتل آبائهن وأبنائهن وأزواجهن على أيدي الغزاة الذين هبطوا على القرية على شكل كارثة مفاجئة.
خالد الذكر الوحيد المتبقي من أهل القرية يبدأ سلسلة لا نهائية من الزيجات مع بداية بلوغه من أجل حفظ نسل القرية وتقوم الأم بتنظيم هذه الزيجات من أرامل القرية المجربات في الإنجاب ولاحقا من الفتيات الأبكار مما يحول القرية من جديد إلى جنة جنسية يستمتع بها خالد وينجب أعدادا كبيرة من الأولاد والبنات، رغم إصرار الأم بأن يقوم بتطليق المرأة التي لا تنجب إلا البنات من أجل إعداد جيش للانتقام من الغزاة الذين أبادوا رجال القرية.
تشاء الصدف أن تتقاطع مأساة القرية مع نهاية الدولة العثمانية إذ تمر قافلة من بعض القادة والجنود العثمانيين المتجهين إلى تركيا والذين لا يستطيعون حمل متاعهم فيدفنون كنوزهم وأوراقهم في مكان ما على الجبل بعد أن أجبروا النساء على إطعامهم وإطعام مواشيهم.
يستولي خالد وأبناؤه على محتويات الصناديق العثمانية المليئة بالليرات الذهبية، ويتم دفنها في مخابئ متعددة في القرية خشية الاستيلاء عليها من قبل نساء القرية، فالأم وابنها واثنان من أولاده يحتفظون بأسرار الثروة الذهبية ولا يفشون إلا أسرار الأوراق والأختام والأوسمة التي وجدوها وهي تبدو بلا قيمة بعد أن انهارت الدولة التي كانت تكفل أهمية تلك الأوراق.
تتطور أمور خالد وأبنائه بعد استيلائهم على الثروة ويتحولون من نمط العمران الزراعي الى العمران المديني؛ إذ يصبح خالد أحد أشهر تجار العقارات في مدينة حلب بعد أن كان الغزو البدوي قد أباد كل الذكور، وبقي هو مستمتعا بالنساء وبالثروة وبأسباب القوة والرفاهية التي وصل إليها في المدينة.
تصرّ الأم على الانتقام وتستنكر استسلام خالد للرفاهية والاستمتاع بالثروة والنساء ونسيان دماء أهله الذين بذلوا أنفسهم للدفاع عن نسائهم وأولادهم وبيوتهم وراح دمهم هدرا على يد الغزاة المعتدين. لكن خالد سرعان ما ينظم لها خطة ترضيها في الاستطلاع وجمع المعلومات عن القبيلة التي غزتهم قبل أن تتناثر في البادية الشامية وجبال عبد العزيز.
يمتلك خالد القصور والضياع ويتخرج أولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده أطباء ومهندسين وتجار عقارات، ويستمتع بحياة الترف والقصور والثقافة ويدير ثروة طائلة جناها سرا من بقايا الدولة العثمانية متكتما على أسباب ثرائه مستعرضا قوته أمام الخادمات والزوجات والأحفاد
لكنه سرعان ما يصل إلى بغيته من الطبيب نواف المطلق الذي يحكي قصة حياته وحياة أجداده البدو فيلمح في سيرته طيف الغزاة الذين دمروا قريته وقتلوا أهله مستدلا على التفاصيل التي كانت مغيبة عنه خاصة، وأنه عرف أن والده ذيبان لم يمت في الغزو، وإنما فر من القرية متقصيا آثار الغزاة، وقد تمكن من قائدهم “الذيب الحَمَر”.
تمتاز الرواية بتلقائية السرد وقربه من القلب، وكأنها سيرة عائلية موشكةً على التجسد أمام القارئ بكل تفاصيلها وعذاباتها، وخاصة في فصل الهجرة إلى الجبل وتنظيم النساء وتربية الماشية وقبل الحصول على الثروة التي أنهت مرحلة الحماسة الزراعية لتنطلق المرحلة المدينية بكل ما تتسم به من ثراء ومن رفاهية ومن أموال جعلت العائلة أشبه ما تكون بمافيا عقارية.
الحياة البدوية تبدو بعيدة في الرواية ولكنها تتاخم حدود الحياة الريفية نصف الحضرية وتمسها بنار الغزو المتقدة والتي يتكاتف البدو فيها مشكلين اندفاع الحماسة التي تحدث عنها ابن خلدون ولكن هذا الغزو لا يلد عمرانا جديدا؛ بل إن الضحايا هم الذين تحدوا الموت واستجلبوا روح الحماسة وأوقدوا ناره من أجل الحفاظ على حياتهم ومن أجل أن يزدهروا من جديد ويعود نسلهم على يد خالد الذي كان ميؤوسا منه في عصر وجود الرجال؛ لكنه صار هو بديلهم وقد تزوج على دفعات معظم نساء القرية وكـأنه يحقق حلما طفوليًا مشتهى.
رواية أبناء الطين رواية مدهشة تنوس بين الشكل العائلي الحميم والشكل العجائبي المثير للخيال، وهي تلخص تاريخا طويلا في الفن الروائي، وتنتقل بعجائبية بين أنماط العمران، وتفتح ذاكرة القارئ العربي على أنماط التحضر المتلاحقة التي عاشها خلال العقود الماضية، فالتطور الحضري انتشل أجزاءً واسعة من العالم العربي من نمط البداوة إلى النمط الريفي، ومن ثم إلى النمط العقاري المديني الذي ساد في الكثير من الحواضر العربية وبأشكال متعددة، تنوس بين الشكل الطفيلي وبين الشكل البنّاء، ولكن الجميع وصل إلى النمط الحديث منهكا، ولم يستوعب الكثيرون بعد تاريخهم المتغير بسرعة تسابق مخيلة الكاتب الذي نجح في رصدها وتلخيصها بشكل حميم.
رواية “أبناء الطين” وأنماط العمران للكاتب السوري “أحمد عبد الكافي الحمادة” قراءة جميلة وتعقيب دقيق للمبدع “إبراهيم العلوش” تتناول موضوع البداوة والريف والمدينة عبر تجربة حية تجعل القارئ يلتفت إلى تاريخ حواضرنا الجديدة التي ما تزال البداوة مُعلقةً في تفاصيلها، رواية تنوس بين العائلي الحميم والعجائبي المثير للخيال لتلخص تاريخا طويلا للفن الروائي، وتنتقل بعجائبية بين أنماط العمران،