
واحة الراهب: ممثلة ومخرجة وفنانة تشكيلية وكاتبة سيناريو سورية، مذكرات روح منحوسة عملها الروائي الأول، تنتمي للثورة السورية، ووقفت منذ بدء الربيع السوري، مع مطالب الشعب السوري بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية وإسقاط الاستبداد.
مذكرات روح منحوسة ، رواية كتبت على شكل مذكرات، وقسمته لثلاث فصول تتحدث عن حياة أبطالها في حوالي ثماني عقود، الفصل الأول يبدأ مع استقلال سورية عن الاستعمار الفرنسي وبداية الحكم الديمقراطي في سوريا، ثم الانقلابات العسكرية ، والوحدة المصرية السورية والانفصال استيلاء البعث على الحكم… الخ، هناك قطع زماني بين الفصول لعقد ونصف بين الأول والثاني، وكذلك بين الثاني والثالث، لكن لا قطيعة في الحدث الروائي ولا الواقع الاجتماعي السياسي للرواية، وتنتهي ٢٠١٦، والحدث السوري مازال متدفقا.
تبدأ الرواية من مدخل مختلف، إننا أمام روح تائهة في الكون تبحث عن أجساد تتشكل فيها، عبر لقاء حيوان منوي وبويضة في رحم امرأة، الروح التي عاشت دهور وانتقلت بين أجساد كثيرة، وتنتظر أن تتجسد في هذا الزمان، حاولت التجسد، في طفل كاد يتشكل من علاقة حرام بين شاب وفتاة، لم يتزوجا وحصل بينهما لقاء جنسي، ولأن الشاب تنصّل من الفتاة ومن حملها، أن الفرق بينهما كبير كل من دين، ولن يستطيعا الزواج، لذلك انتحرت الفتاة ولم تأخذ الروح فرصتها بالحياة، لذلك واصلت بحثها عن جسد آخر تتشكل به. وجاءت الفرصة ها هو “سعيد” الشاب الدمشقي المنتمي للحزب الشيوعي، والزمان بعد الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي ، حيث يتعرف على الدكتور “مضر” ابن الساحل السوري، و المنتمي لحزب البعث العربي الاشتراكي، سعيد طالب هندسة معمارية، وتعرف على “ندى” طالبة اللغة العربية، احبها عن بعد ، ولكن لم يتمكن من مصارحتها بحبه، وافترقا ليلتقي بها سعيد بصفتها ابنة صديقه الدكتور مضر. كان بين سعيد ومضر علاقة تفاعل فكري سياسي دائم، حيث دخلت سوريا بعد الاستقلال في مرحلة ديمقراطية مؤقتة، كانت كل التيارات السياسية، تمارس حقها بالنشاط السياسي، والمنافسة البرلمانية والعمل العلني، ولكن الانقلابات العسكرية التي حصلت، وكان وراءها أهواء ضباط مغامرين في الخمسينات من القرن الماضي، ومصالح دول تستخدم الانقلابات لتضع يدها على البلاد عبر الهيمنة على السلطة، من خلال السيطرة على قادة الانقلاب، وسقطت الانقلابات، ودخلت البلاد في صراع عليها ، كان على رأسها حلف بغداد، ورفض الطبقة السياسية لذلك، ودعوة مصر عبد الناصر للمساعدة، والتوافق على الوحدة بين سوريا ومصر، كان سعيد شيوعي سوري ضد الوحدة، وكان مضر بعثي معها، ولكل اسبابه، الوحدة تحصل، لكنها لا تعمر كثيرا، ويحصل الانفصال، ومن ثم يقوم البعث وبعض الناصريين بحركة عسكرية في ١٩٦٣، أدت لهيمنة البعث على السلطة، ومن يومها، ظهر أن البعث قرر الاستفراد بالسلطة، وعمل على إقصاء القوى السياسية الاخرى، وكان سعيد ضحية اعتقالات مستمرة، وكان مضر قد اكتشف مبكرا انحراف حزب البعث عن أفكاره، وبدأ يبتعد عنه رويدا رويدا. العلاقة بين سعيد ومضر استمرت قوية رغم بعض الاختلافات السياسية، وقوتّها أن سعيد وندى ابنة د مضر قد احبى بعضهما، وتفهم مضر ذلك وساعدهم وتزوجا بعد ذلك، سعيد المسلم الدمشقي، وندى العلوية من الساحل، ستكون حياة سعيد وندى جيدة على مستواها الذاتي، حب وتفاهم، لكن الاعتقالات المتكررة لسعيد كانت تنغص عليهم، سعيد الشيوعي الذي التحق بفريق المكتب السياسي الذي بقي معارضا للنظام منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، واستمر يعتقل بشكل شبه دائم، وكان أكبر اعتقال له ولغيره، عندما وقف حزبه مع غيره من القوى السياسية رافضا للصراع بين النظام الاستبدادي والطليعة المقاتلة الاسلامية الطائفية . وكان من نتاج الزواج أن أنجبت ندى توأم هما “كنان” و”بلسم”، كنان بطل الرواية، يخبرنا عن رحلة روحه في رحم امه، وعلاقته الحميمية مع اخته منذ تخلّقهما هناك في رحمها، كنان سيعي حياته بغياب شبه دائم لوالده، وام تقوم بدور الأب والأم، تعمل ويساعدها والدها مضر، يخبرنا كنان عن أجواء المدرسة و هيمنة عقلية التبعية للسلطة وحزبها وقائد البلاد حافظ الأسد الذي لا يتجرأ احد ان يتكلم عنه بسوء، خوفا من العواقب، سيكبر في أجواء الطلائع في المرحلة الابتدائية، وشبيبة الثورة والحزب بعد ذلك، سيكون له صديق هو “هشام ” ابن عائلة دمشقية كانت قد صودرت أموالهم وأراضيهم، ايام التأميم والإصلاح الزراعي، اتفقا على موقف معادي سري من النظام، لكن كنان في لحظة ضعف أراد أن يدخل الحزب لعله يحمي نفسه، لكنه وجد أن الحزب وسيلة لأهداف انتهازية من وظيفة أو فرع دراسة جامعي أو مكاسب خاصة، وكان مدخلا مباشرا لتربية الشباب على روح المخبر الذي بوشي بمن حوله، اتخذ هاشم موقفا من كنان وقاطعه، وكذلك امه واخته بلسم التي واجهته بتحدي، وقالت له هل يقدم لهم مكافأة على اعتقال والده، ويصبح إنسانا سيئا، وسرعان ما انسحب من الحزب وعادت علاقته لصديقه هاشم إلى سابق عهدها . كنان نشأ متأثرا بظروف اعتقال والده، يسكنه خوف عميق ويعيش حياة أغلبها داخل نفسه، أقنع ذاته بأن رأسه متضخم كعقدة نفسية، وعاش هاجس الخوف من السلطة التي أسماها ” البعبع”، كبر كنان ودخل سن المراهقة، تسكن بجوارهم فتاة مع اهلها، “رانية” بعمره ، شاهد منها ما حرّك مشاعره الذكورية، وجعلته يلجأ للعادة السرية، وسرعان ما تطورت العلاقة ليلتقي بها، وتحصل بينهم علاقة جنسية كاملة ومستمرة، رانية كانت قد فقدت عذريتها قبل لقائها مع كنان، فهي من أسرة تمتهن الدعارة، هي ووالدتها وبعض الفتيات، برعاية إخوتها الذكور، وصمت ابوها الضابط السابق المقعد، الضابط المصاب منذ سقوط الجولان عام ١٩٦٧، حيث لم يعطى تعويضا مناسبا، وتحولت والدتها لعشيقة لأحد الضباط، يقدم لهم المساعدة، ومن ثم تنقلت بين الضباط وأصبحت اخيرا تدير بيت دعارة، روّاده الأساسيون من أذناب السلطة. اكتشف اخ رانية علاقتها بكنان وقطع علاقتهم وأدّب كنان، وسرعان ما زوجت رانية لثري سعودي اخذها لبلاده، وعاشت هناك ثلاث سنوات أقرب للجحيم تعذيب وجنس شاذ واستطاعت الهرب والعودة إلى أهلها. كنان وهشام وبلسم اخته دخلوا الجامعة، بلسم اخته صاحبة الشخصية القوية التي درست الحقوق، أرادت أن تنفلت قليلا، لكنها سرعان ما عادت الفتاة الناضجة التي تعرف ما تريد، اما كنان فقد بدأ ينكفئ على ذاته أكثر ويعيش عالمه الجواني بخوف شديد، وخاصة أنه عاصر اعتقالات مجدده لوالده بقسوة كبيرة، أجواء الجامعة غيرت من حياته، تعرف على “منى” التي أحبها وأحبته، لكنه كاد يخسرها عندما صعد احد عناصر سرايا الدفاع للمركبة التي كان يركبها، وانتزعه من جوارها، ولم يتجرأ أن يواجهه، وسرعان ما أنزل العنصر منى من المركبة، عانى كنان من خوفه وجبنه وكيف فرط بحبيبته، مما أدى لمحاولات الانتحار، وانقذ وتابع علاجه طبيب نفسي، واستمر هو ينوس بين المرض النفسي والمعافاة، وسرعان ما عادت اليه منى وتفهمت ما يعيشه ، و تزوجا ورزقا بالاطفال، عادل وعلاء وعبير، اما اخته بلسم فقد تزوجت من أحدهم كانت قد استلمت قضيته كمحامية، واكتشفت أنه يعيش عالة عليها ، ولا يحمل المسؤولية، سرعان ما طلقته، ثم تعرفت على زميلها أحمد وتزوجا، وعاشا حياتهما بين فرنسا وسوريا، أما هشام صديقه فقد تزوج من صديقته هدى الاديبة، التي سرعان ما بدأت التقرب من أجواء السلطة، وتصطدم مع زوجها، لها مبرراتها التي اوصلتها لتدخل مجلس الشعب، ويختلف معها هشام ويطلقها. وبعد مضي زمن يكبر به الأبناء ويبدأوا في صياغة حياتهم الخاصة ، الاب سعيد لا يخرج من السجن ابدا، وتصل أخبار أنه استشهد هناك تحت التعذيب، والام ما زالت تحمل ذكراه وتعيش وحيدة في منزلهم، كنان ومنى يتبادلان الاهتمام بأولادهم، وحاولوا قدر الإمكان ان يجعلوا حياتهم افضل، هشام يعاني أكثر من حياته مع زوجته، و تتوطد علاقة كنان وهشام أكثر، خاصة ان هشام قد دخل في ازمة نفسية مما حصل بينه وبين زوجته، دفعت كنان للوقوف بجانبه ومواساته دوما، وتراكمت معاناة كنان مع معاناة صديقه هشام، إلى درجة توهم كنان بأن له دوافع جنسية مثلية شاذة اتجاه هشام، ودخل في هلوسات نفسية، تراكمت مع ما عاشه سابقا من خوف وأزمات كادت تودي به للجنون، وساعد ذلك غياب صديقه المفاجئ، لكن عودة هشام بعد الثورة السورية، وإيضاح حقيقة غيابه، ووضوح مشاعره تجاه كنان إنها صداقة خالصة، أعادت العلاقة لطبيعتها وعمقها السابق متجاوزة هوس المثلية وتبعاتها، وأن ما عاشه ليس أكثر من رد فعل نفسي مرضي على القهر والاستبداد والظلم الملحق به وعائلته والناس جميعا، وأن مجرد حضور صديقة ومشاركته واقع الانتماء للثورة حرره منها كلها، وجعله ينتمي لإنسانيته التي تجسدت بالثورة والتفاعل معها. لا يغيب الواقع السياسي العام عن الرواية، يكاد أن يكون مسارا موازيا لمسار الحياة الخاصة لأبطال الرواية، بل الموجه لها في كثير من الأحيان. نتابع استلام الأسد الأب للسلطة في سوريا وتتويجه سلطة استبدادية في كل أركان الحياة السورية، سنتابع دخوله إلى لبنان، تحت دعوى حمايته، لكن حقيقة الأمر كان بالتوافق مع “اسرائيل” وأمريكا لضبط لبنان وجعله مرتعا للنظام السوري، وكيف سيطرد التواجد الفلسطيني الفدائي من هناك، وكيف يؤسس لوجود حزب الله الطائفي، بتوافقات مع العدو الصهيوني، أما داخل سوريا يحصل الصراع بين النظام والجماعات الإسلامية المسلحة، وتكون مبررا للنظام ليقتل الناس ويدمر بعض المدن كحماة، ويعتقل كل المعارضين له وزجهم بالسجون، سنتابع تجهيز باسل لوراثة أبيه في السلطة، وكيفية تعويضه بأخيه بشار بعد وفاته، وكيفية أخذه شرعية الحكم من مجلس شعب يتصرف كقطيع، في جلسة تعديل الدستور، وكيف حاول بشار الظهور كمجدد وديمقراطي، وكان ربيع دمشق مقدمة ديمقراطية وليدة، سرعان ما تم اجهاضها، وزج الناس في السجون ، وعودة النظام لصورته الحقيقية. وكيف حصل الربيع التونسي، الذي امتد إلى مصر وليبيا واليمن ثم سوريا، واصبح ربيعا عربيا، لم يكن أحد يحلم ان يصل الربيع إلى سوريا لكنه وصل، تراكم قهر السنين، والجيل الشبابي الجديد، وإصراره على حقه بالحرية والعدل والكرامة الإنسانية والديمقراطية والحياة الافضل، جعلهم يخرجون بالملايين في كل المدن السورية. ستتغير حياة كنان وعائلته ومن حوله، اخته بلسم وزوجها، وصديقه هشام، وتخرج من شرنقتها الذاتية وأوضاعها الخاصة الحقيقية والموهومة، وتبدأ منخرطة في أجواء الربيع السوري الذي أصبح ثورة. الثورة التي لم يقبل بها النظام وحلفاؤه، وساعدوه بكل شيء لاسقاطها، اعتماد العنف المسلح، القتل والاعتقال وتدمير المدن وتهجير أهلها بالملايين، التلاعب بالثورة والثوار، عبر العسكرة والاستخدام السياسي من بعض الانتهازيين، أو الدول الداعمة، تصعيد النغمة الطائفية في أجواء الثورة، تلويث الثورة والطائفية من طرف النظام، أو من طرف بعض الجماعات الاسلامية الارهابية، كداعش والقاعدة. كل ذلك لم يمنع كنان وباسم وهشام من الانتماء المعنوي والواقع للثورة، وهاهم أولاده منخرطين في الثورة في كل امكانياتهم.
تنتهي الرواية والثورة مستمرة، والكل منخرطون في نهرها العظيم، بغض النظر عن النجاح والفشل، و محاولات إجهاضها وقتلها.
.في نقد الرواية نقول: إن في الرواية بصمة خاصة بالحديث عن الأرواح وتجسدها في أجساد مختلفة، أن الإرث الثقافي عند واحة الراهب من الارومة الذاتية العلويّة متجسد ولو بلا شعورها، انعكس في روايتها، وكذلك سمر يزبك في إنتاجها الروائي، ، و نجحت الرواية بالربط بين العام والخاص بقدرة فائقة، فنحن نتابع تفاصيل حياة أبطالها وتطورات هذه الحياة، ومنعكس الواقع السياسي والمجتمعي العام عليها، وكذلك تقدم بيانا سياسيا شاملا لسوريا وواقعها السياسي عبر عقود طويلة من السنين، بغض النظر عن التوافق مع هذا التحليل أو الاختلاف معه في بعض الجزئيات. إن هذه الرواية لواحة الراهب تنبئ بموهبة صاعدة ننتظر منها الكثير.
نحن أمام رواية تؤكد انتصار انسانيتنا نحن السوريين جميعا.