قفزت تركيا في ظرف وجيز لتصبح أول مستثمر خارجي مباشر في الجزائر بنحو 5 مليارات دولار، مزاحمة بذلك قوى تقليدية كانت دائما تريد إبقاء السوق الجزائرية تحت هيمنتها. وتتلاقى مصالح البلدين اليوم في سعي الجزائر لتنويع شركائها واقتصادها الذي ظل معتمدا على المحروقات ورغبة تركيا في تعزيز تحالفاتها في المنطقة والاستفادة من موقع الجزائر للنفاذ نحو الأسواق الأفريقية.
وخلال فترة الرئاسيات التركية، تركت عدة إشارات الانطباع بأن ثمة تفضيلا في الجزائر حتى ولو لم يكن مُعلنا للمقتضيات الدبلوماسية، لاستمرار الرئيس رجب طيب اردوغان، لكونه يعد ضامنا لاستمرار العلاقات التي تشهد في فترته تقاربا كبيرا على الصعيد السياسي، حيث تلتقي مواقف البلدين في ليبيا والساحل، وكذلك في الشق الاقتصادي الذي بات يشكل إسمنت العلاقة.
ما يؤكد ذلك ظاهريا على الأقل، أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون كان من أوائل المهنئين بفوز اردوغان، ثم أوفد نيابة عنه لتمثيله في مراسم تنصيب الرئيس التركي، رئيس مجلس الأمة، صالح قوجيل الذي يعد بروتوكوليا الرجل الثاني في الدولة، ويحظى برمزية خاصة كونه من عقداء جيش التحرير الوطني في فترة الاستعمار، ما يشير إلى الاهتمام الرسمي الخاص بهذا الحدث.
كما استبقت الجزائر الإعلان عن فوز اردوغان بتعيين سفير جديد في تركيا، ليس سوى الأمين العام لوزارة الخارجية عمار بلاني الذي يعد من أبرز الدبلوماسيين وأكثرهم حضورا في الفترة الأخيرة، حتى أن البعض رشحه لتولي وزارة الخارجية عقب تنحية الوزير رمطان لعمامرة، ما يعكس وفق قراءات أهمية تركيا في المعادلة الدبلوماسية الجزائرية.
ويبدو العكس صحيحا أيضا من الجانب التركي، فعادة ما تحظى الشخصيات المهمة بمنصب سفير في الجزائر. وما يشير لذلك، أن الرئيس التركي اختار سفيرة بلاده في الجزائر ماهينور أزدمير غوكتاس لتولي حقيبة الأسرة والسياسات الاجتماعية في حكومته الجديدة، وهي سيدة اشتهرت بكونها أول نائبة محجبة، تدخل برلمان بروكسل باعتبارها مواطنة بلجيكية أيضا.
لغة الاقتصاد
خارج عارض دبلوماسي واحد، ارتأت فيه الدبلوماسية الجزائرية ضبط سياستها مع اردوغان من البداية، مضت العلاقات في نسق تصاعدي لافت، طبعته التوافقات في القضايا الإقليمية الكبرى، وصولا إلى زيارة تبون إلى تركيا العام الماضي التي تم فيها الاتفاق على بعث ديناميكية العلاقات الاقتصادية.
وفي ذلك الحادث الذي وقع في شباط/فبراير 2020 تحسست الجزائر من لغة وصاية في حديث الرئيس التركي وظف فيه حديثا خاصا بينه وبين نظيره الجزائري عن جرائم فرنسا في الجزائر في سياق محاججته للطرف الفرنسي الذي يتهمه بإبادة الأرمن. وقالت الخارجية الجزائرية في ذلك الوقت إنها فوجئت بتلك التصريحات، مشددة على أن كل المسائل المعقدة المتعلقة بالذاكرة الوطنية لها قدسية وحساسة جدا خاصة عند الشعب الجزائري. واعتبرت أن تصريحات اردوغان لا تساهم في الجهود التي تبذلها الجزائر وفرنسا لحل قضايا الذاكرة.
وبدا أن الطرف التركي تفهم الأمر ومرّ الحادث دون أن يلحق أضرارا بالعلاقات، بدليل أن الجزائر اليوم ثاني شريك تجاري لتركيا في أفريقيا بعد مصر وتظل الوجهة الأولى للاستثمار الأجنبي المباشر التركي في القارة بنحو 5 مليار دولار، فيما يطمح البلدان حاليا لرفع التبادل التجاري إلى 10 مليار دولار وفق ما سبق للرئيس تبون التأكيد عليه خلال زيارته لتركيا.
وتختصر شركة توسيالي للحديد والصلب عبر مصنعها الضخم بوهران غرب الجزائر، طبيعة العلاقة التي يريدها البلدان. فهذه الشركة، حققت صادرات بنحو مليار دولار سنة 2022 وهو صلب ما تبحث عنه الحكومة الجزائرية التي تريد استثمارات منتجة على أراضيها موجهة لتلبية الطلب المحلي ثم الانطلاق في التصدير، كونها تريد التخلص من التبعية المزمنة لمداخيل النفط والغاز التي ظلت تشكل أكثر من 95 في المئة من مجموع الصادرات الجزائرية. أما تركيا، فمن خلال هذا المشروع الذي سيتطور أكثر مع بدء استغلال خام منجم غار جبيلات الضخم، اقتربت من أسواق بعيدة عنها نسبيا، فمعظم صادرات المصنع توجهت لدول أفريقية وأخرى في أمريكا اللاتينية.
وما يعكس هذه النظرة، أن اردوغان في حديثه عن الجزائر يشدد على البعد الأفريقي، فهي كما قال بمناسبة زيارة تبون لتركيا «أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة وتعد واحدة من الدول الرائدة في القارة». ومع توجه الجزائر لتطوير البنية التحتية التي تربطها بدول أفريقيا مثل طريق الوحدة الأفريقية الذي اكتملت أغلب أشطره وهو يصل الجزائر بلاغوس في نيجيريا وطريق تندوف الزويرات الذي يربط الأراضي الجزائرية الموريتانية، لا شك في أن الأتراك سيبحثون عن توسيع حضورهم أكثر في الجزائر.
ويوجد حاليا حوالي 1500 مؤسسة تركية تنشط في مختلف المجالات بالجزائر، بينما تتركز الاستثمارات الكبرى في قطاعات الحديد والصلب والنسيج والكيمياء، في حين يعمل الأتراك بقوة في مجال التجارة والسياحة والمطاعم، وتشير التقديرات إلى أن 33 ألف رعية تركي يعيشون بالجزائر.
وفي مجال الصناعات التي تعتمد على البترول والغاز، طور البلدان مشروعا ضخما يتمثل في مصنع لإنتاج مادة البولي بروبيلان وهي مادة بلاستيكية تدخل في عدة صناعات منها السيارات والنسيج والصيدلة والذي سيقام بمدينة جيهان التركية، بتكلفة مالية تبلغ 1.4 مليار دولار، 66 في المئة منها لـ«رينيسانس هولدنغ» التركية، و34 في المئة لـ«سوناطراك» الجزائرية. وينتظر أن يكتمل المصنع في سنة 2024.
دوافع التعاون
ويؤكد سليمان ناصر أستاذ الاقتصاد في الجزائر أن قوة العلاقات الاقتصادية هي انعكاس لصفاء العلاقات السياسية وما دامت العلاقات بين البلدين جيدة ولا توجد فيها توترات ينتظر أن تتقوى العلاقات الاقتصادية أكثر فأكثر خاصة بعد التجديد لاردوغان الذي سبق له التعامل مع الجزائر ويدرك أهميتها وثقلها في المعادلة، بينما كان وصول أوغلو سيعيد العلاقات حسبه إلى نقطة البداية.
ويلفت ناصر في حديثه مع «القدس العربي» إلى أن العلاقات بين القادة على هذا المستوى تلعب دورا كبيرا في توجيه الاستثمارات، وهو ما نراه في حالتي تركيا وقطر اللتين اصبحتا أكبر مستثمر أجنبي وعربي في الجزائر على التوالي مع آفاق بترقية العلاقات الاقتصادية أكثر في السنوات المقبلة.
وفي رأي الباحث الاقتصادي، فإن ما شجع الشركات التركية على الاستقرار هي البيئة المرحبة، إذ أن هناك تقاربا بين الجزائر وتركيا في العادات والتقاليد بحكم انه بلد إسلامي كما ان ثمة علاقات تاريخية وطيدة، فالجزائريون عموما لا يعتبرون حسبه الوجود العثماني تاريخيا في بلادهم احتلالا. وهذه العوامل كلها، تدفع تركيا وفق أستاذ الاقتصاد للاستفادة مما تتيحه الجزائر من فرص خاصة من أجل دخول السوق الأفريقية، كونها هي الأخرى دولة تريد نصيبها من الكعكة الأفريقية وهي في سباق مع باقي القوى الأخرى.
ومن وجهة نظر محمد وعراب رئيس مركز العلاقات الجزائرية التركية، فإن ما يدفع للتقارب أن تجربة تركيا في النهضة تعتبر مغرية وممكنة التطبيق في جوانب عدة بالنسبة للجزائر التي تعول على تنويع اقتصادها والخروج من دائرة الاعتماد على المحروقات.
وأبرز وعراب أن أهم ما يمكن ملاحظته في تطور العلاقات بين البلدين أن هناك نية قوية على أعلى مستوى بين الرئيسين لتجسيد المشاريع ودفع الحركية الاقتصادية والتجارية بين البلدين وهو ما انعكس في عشرات المشاريع الكبرى المعلن عنها.
ويعتقد المتحدث أن العلاقات الجزائرية التركية تعرف انتعاشة لم يسبق لها مثيل حاليا، مشيرا إلى أن السياسة الجزائرية السابقة كانت تميل إلى تفضيل شركاء آخرين مثل فرنسا على حساب تركيا التي لم تستطع رغم محاولات حثيثة في الماضي إحداث اختراق، وهو ما يفسر حسبه أن اردوغان كان أول الزائرين للجزائر بعد رئاسيات 2019.
الصناعات الدفاعية
خلال زيارته لتركيا، أبدى الرئيس تبون رغبته في بدء «تعاون مشترك في الصناعات البحرية سواء كانت مدنية أو عسكرية» وهو المجال الذي ظل مستبعدا بين البلدين. وأكد اردوغان من جهته، تواصل العمل مع الجزائر على أساس الشراكة المتكافئة، ومبدأ الربح للجميع، كاشفا عن «تعاون بين البلدين في مجال الصناعات الدفاعية».
والتقارب في الميدان العسكري والاستراتيجي، تدعمه وفق الخبير العسكري أكرم خريف، عدة قواسم مشتركة في ليبيا والساحل، منها رفض البلدين لوجود ميليشيات فاغنر الروسية في هذه المناطق، على الرغم من أن كلاهما يتمتع بعلاقة قوية مع روسيا.
ويقول خريف في حديثه مع «القدس العربي» إن العلاقة الشخصية للرئيسين تبون واردوغان ساهمت في رسم نقاط التقاطع الاستراتيجي بين البلدين خاصة في التعامل مع الأزمة في ليبيا وتونس.
ويرى الخبير أن ثمة توجها تركيا للحضور عسكريا في مناطق الساحل، وقد بدأ الأمر حسبه بحضور خفيف لقوات تركية على ضفاف نهر تشاد، كما أن تركيا أهدت مالي طائرات عسكرية مسيرة.
وفي الوقت الحالي، يقول خريف إنه لا يوجد تعاون عسكري مكثف بين البلدين لحد الآن، عدا عمليات تبادل تقني بين الجيشين في عام 2022 وصفقات شراء لطائرات مسيرة تركية بدون طيار في انتظار تجسيد مشروع تصنيع محلي لطائرات مسيرة مع شركة تاي التركية في الجزائر.
تلاقي المصالح
يفصل حسني عبيدي مدير معهد الدراسات والبحوث في العالم العربي وشمال أفريقيا بجنيف، بشكل أعمق في الجانب السياسي والاستراتيجي الذي يدفع البلدان للتقارب، معتقدا بشكل جازم أن الرئيس اردوغان كان هو المرشح المفضل للجزائر لعدة أسباب، ذلك أن علاقة متينة بينه وبين الجزائر تم بناؤها منذ سنة 2000.
ويذكر الباحث في حديثه مع «القدس العربي» أن منافس اردوغان كليجدار أوغلو، لم يكن لديه ميل لا للجزائر أو شمال أفريقيا وكان أقرب للدائرة الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية، وكان يريد قطيعة مع السياسة الأفريقية والعربية التي كان ينتجها اردوغان، وهو ما لا يصب قطعا في مصلحة الجزائر.
ويرى عبيدي أن العنصر المهم في العلاقة بين البلدين، هو تلاقي السياسة الخارجية لتركيا والجزائر خاصة منذ وصول الرئيس تبون ورغبة الجزائر في العودة للساحة الدولية والعربية والأفريقية من خلال النشاط الدبلوماسي للرئيس الجزائري وتبنيه ملف القضية الفلسطينية ودعم حضور بلاده في دول الخليج.
ويمثل الملف الليبي وفق المتحدث أبرز نقاط التوافق، حيث كانت الجزائر وتركيا في موقف واحد بخصوص ضرورة دعم حكومة طرابلس وإنجاز انتخابات رئاسية من خلال هذه الحكومة المعترف بها دوليا. كما ألقت الجزائر -يضيف- بثقلها في القمة العربية التي احتضنتها لرفض إدراج بند في البيان الختامي يطالب بإخراج القوات التركية من ليبيا حيث اكتفى البيان برفض الوجود الأجنبي بشكل عام.
ويصل عبيدي في تحليله إلى أن الجزائر تريد أن تكون مستقلة في سياستها الخارجية، وبالتالي فهي تحتاج إلى تركيا كمتنفس لدعم مواقفها باعتبارها قوة إقليمية صاعدة. أما تركيا، فهي تريد الإبقاء على مصالحها في منطقة شمال أفريقيا وليبيا تحديدا كما أنها تريد دعم حضورها في الساحل وأفريقيا عموما، حيث استطاعت إخراج فرنسا من عدة مناطق نفوذ خاصة في هذه المنطقة وهي بأمس الحاجة إلى الجزائر في ذلك لعلمها أن الجزائر هي بوابة لأفريقيا خاصة من الناحية التجارية والاقتصادية.
ومع ظهور تشكيلة الحكومة التركية الجديدة، يبقى وفق الباحث حسني عبيدي السؤال معلقا حول ما إذا كان اردوغان سيستمر في نفس سياساته المتمثلة في توطيد العلاقة مع الجزائر. وأبرز أن هناك نوعا من إعادة التفكير في السياسة الخارجية لم تتضح معالمه، ومن الصعب حسبه استباق الحكم بأن الجزائر ستكون إحدى المحاور الأساسية للسياسات التركية في السنوات المقبلة.
المصدر: «القدس العربي»