إعلان الإدارة الذاتية لـ”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) أخيراً عن عزمها محاكمة سجناء تنظيم “داعش” البالغ عددهم قرابة 10 آلاف سجين، هو بمثابة الحَجَر الذي تمّ إلقاؤه في بحيرة سجناء التنظيم ومخيمات عوائله الراكدة، منذ تحرير بلدة الباغوز في أواخر شهر آذار (مارس) 2019، فما هي دلالات الإعلان وتوقيته؟ وما جدوى هذه الخطوه؟
هناك قرابة 51 ألفاً من أفراد عوائل التنظيم في مخيم الهول، بخلاف 10 آلاف آخرين موزّعين على سجون عدّة، من بين هؤلاء، أطفال وصلوا إلى سن الرشد. صحيحٌ أنّ منهم نساء وأطفالاً دون سن الثانية عشرة، ولكن من بينهم أيضاً عجائز التنظيم، فمهما تقدّم هؤلاء في العمر لا تسقط جرائمهم بالتقادم.
الأطفال الذين بلغوا سن الرشد، أخيراً، داخل مخيمات عوائل التنظيم، رضعوا الكراهية وتشرّبوا أفكار آبائهم من أمهاتهم داخل هذه المخيمات، فهؤلاء يمثلون خطراً كبيراً على الأمن، كما أنّهم يحتاجون إلى إعادة تأهيل، وهو ما لم يُذكر أي شيء بخصوصه، رغم إعلان قرار المحاكمة، فلا توجد رؤية للتعامل مع هذه العوائل رغم أهمية تفكيك هذه المخيمات قبل إعلان محاكمة أعضاء “داعش” السجناء.
يأتي هذا الإعلان متوافقاً مع القرار الذي أعلنه وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، قبل أيام، عن إعادة 3 آلاف شخص عراقي ينتمون للتنظيم كانوا محتجزين في سوريا ومحاكمة غالبيتهم، مشدّداً في الوقت نفسه على أنّ بلاده عازمة على مكافحة الإرهاب بكل أشكاله.
الإعلان عن هذه المحاكمة لم يكن جديداً، فقد سبق إثارتها من قبل في المنتدى الدولي الذي نظّمه مركز “روج آفا” للدراسات الإستراتيجية، والذي يُعرف اختصاراً بـ NRIS في العام 2019، غير أنّ الولايات المتحدة الأميركية رفضت المحاكمة في هذا التوقيت، بينما تحفّظت فرنسا على فكرة المحاكمة من الأساس.
قرار المحاكمة صائب لا محالة، فأغلب السجون التي يتواجد فيها هؤلاء “الدواعش” غير مؤهّلة، فهي عبارة عن مباني مدارس ومصالح حكومية تمّ إعدادها حتى تُصبح سجوناً! فضلًا عن أنّ “قوات سوريا الديموقراطية” غير مؤهّلة لحماية هذه السجون، وسبق وحدثت عمليات هروب كبيرة من سجن الصناعة في مدينة الحسكة مطلع عام 2022، وهو ما دفعت (قسد) ضريبته من دماء جنودها، وهنا نتحدث عن القدرات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية المتواضعه لهذه القوات، رغم انّها قدّمت 15 ألف شهيد في معارك التحرير وقرابة 25 ألف جريح.
لم يتمّ غلق ملف تنظيم “داعش” منذ إعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب القضاء على التنظيم في 22 آذار (مارس) 2019، فغياب الإرادة الدولية في إنهاء ملف السجناء والمخيمات الخاصة بالعوائل، وضع علامات استفهام حول أسباب التأخّر طيلة الـ4 سنوات الماضية، حتى باتت هذه المخيمات بمثابة قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت.
قالت “قوات سوريا الديموقراطية” عن خلفية هذه المحاكمة، إنّها تحقّق العدالة نيابة عن العالم، بخاصة أنّ هذه الدول تخلّت عن سجنائها الذين بقوا من دون محاكمة، حتى باتوا عبئاً ثقيلاً على الإدارة الذاتية للأكراد في الشمال السوري، مع العلم أنّ هذه الإدارة ألغت عقوبة الإعدام استناداً للعقد الاجتماعي، فحُكم الإعدام ملغى من المحاكم التي أسسها الأكراد بمعزل عن القضاء السوري.
رغم أهمية قرار المحاكمة إلّا أنّه لن يغيّر شيئاً من واقع سجناء “داعش”، وسوف تكون الإدارة مضطرة إذا عقدت هذه المحاكمات، أن تفرج عن كثير ممن لم تثبت عليهم تهمة الإنتماء أو ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، وكثير منهم سوف يخرجون بأحكام مخفّفة بعد أن قضوا سنوات داخل هذه السجون. والسؤال الذي يطرح نفسه: إلى أين يخرج هؤلاء الذين رفضت دولهم أن تستقبلهم؟ وما هو الخطر الذي يشكّلونه؟
سوف يبقى أعضاء “داعش” في منطقة شمال شرق سوريا، بخاصة مع رفض دول العالم استقبالهم، وهؤلاء سوف يُعيدون ترتيب صفوفهم من جديد، وسوف يكونون نواة لجيش جديد من الإرهابيين، فهم كانوا يرضعون من ثدي التنظيم وأمهاتهم طيلة فترة السجن، كما أنّ الآخرين الذين لم يتورطوا في الدماء كان السجن بالنسبة لهم بمثابة معسكر تدريب وتأهيل، بخاصة أنّ كل القيادات الخطره تخُالط باقي السجناء في مكان واحد.
من المهم إنهاء ملف سجناء “داعش” وعوائلهم في المخيمات، ولكن بالطريقة التي تحقّق أمن الشمال السوري والدول المجاورة وأمن العالم بأكمله، وربما الأسلم أن تكون المحاكمة دولية، وأن تتمّ داخل الدول التي انحدر منها هؤلاء المتطرفون، فربما تلي المحاكمة إجراءات متابعة بعض هؤلاء المتطرفين إذا صدرت على قسم منهم أحكام بالبراءة، ليس لأنّهم غير مذنبين، ولكن لعدم كفاية الأدلّة، فهناك أشخاص خطيرون ولكنهم أحرار خارج أسوار السجون، لا يعني أنّ وجودهم في الخارج ينفي صفة الخطورة والمتابعة عنهم.
قرار الإدارة الذاتية بمحاكمة سجناء “داعش” جاء بعد يومين من اجتماع وزراء خارجية التحالف الدولي مع وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في 8 حزيران (يونيو) الجاري في الرياض، وكأنّه أعطى الضوء الأخضر بالموافقة على خطوة المحاكمة، وهو ما دفع العراق إلى الإعلان عن عودة قرابة 3000 عراقي إلى أراضيه من سجناء التنظيم. وقد غاب أي تصوّر حقيقي وواقعي يتعلّق بهذه المحاكمات، كما غاب أي طرح عن هذه الخطوة المهمّة التي لم تحظ بنقاش مجتمعي، خشية أن تكون خطوة في طريق إعادة إنتاج التنظيم من جديد.
لا يمكن لعقل أن يقبل فكرة السجن من دون محاكمة، ولا يمكن أن تكون هناك محاكمة من دون شفافية، فهي الطريق الوحيد لتحقيق العدالة؛ ولا قيمة للعدالة إذا أثّرت بصورة كبيرة على الأمن. العدالة والأمن صنوان، ومن الخطأ أن يتحقق أحدهما من دون أن يتحقّق الثاني، وهو ما يجب أن يتنبّه إليه المجتمع الدولي، قبل أن يستيقظ على كارثة جديدة تشبه اعتلاء أبو بكر البغدادي مسجد النوري في حزيران (يونيو) من العام 2014.
الإدارة الذاتية حتماً سوف تستفيد من هذه المحاكمات، لأنّها سوف تخفّف من عبء السجون التي أثقلت كاهلها بصورة كبيرة، كما أنّ الإعتراف بهذه المحاكمات من قِبل المجتمع الدولي، يحمل في طياته الإعتراف بشرعية “قوات سوريا الديموقراطية”، وهذه مكاسب قد يجنيها الأكراد من وراء خطوة الإعلان الأخير، ولكن لا بدّ أن نضعها في المقابل أمام خسائر أخرى ربما يُعاني منها العالم جراء المحاكمة.
المصدر: النهار العربي