في كل شاعر نبيّ كما قال المرحوم نزار قباني (لي رأي فنان وعينا نبي) أو كما قال صالح جودت (كم جاء بعد المتنبي نبي) لأن الشعر نبوءة , والشاعر بالضرورة متنبىء. وكان لي نصيب من هذه الملكة فقد كتبت عام 1972 قصيدة عنوانها ( تغيرت يا مصر) بمناسبة انقلاب القصر الذي قاده انور السادات على رجال عبد الناصر, وكان مقدمة لانقلاب أكبر على دور مصر العربي وثوابته الاستراتيجية . تنبأت في القصيدة بأن تستمر مصر في الانقلاب على نفسها حتى تخرج نهائيا عن محور دورانها الجيوستراتيجي الثابت كما حدده جمال حمدان , وتصبح جرما تائها في فضاء معتم بلا معالم .
أستعيد هذه الصورة النبوئية كلما تأملت تحولات مصر الصادمة من (دولة اقليمية كبرى) الى دولة باهتة , يتفاقم فشلها , وكأن الذين يقودونها يتعمدون السير الى المجهول أو عكس السير !
أليس هذا ما يجري في الواقع .. أم أنني في نوبة من نوبات الحنين ( نوستالجيا ) الى عصر مصر الذهبي ..؟!
هل أبالغ إذا وصفت السياسة المصرية بأنها صارت تشبه ( كرة القدم ) لا وجه لها ولا رأس ولا قاعدة , وتجري في كل اتجاه بحسب الركلات , لأنها محايدة بين الفريقين اللذين يركلانها !
يعجز المحلل السياسي عن فهم الطريقة التي يتخذ فيها صناع القرار المصري قراراتهم ازاء القضايا العربية والاقليمية , لأن نتائجها تثبت انها مشوبة باضطراب الفكر والحساب , وتدل على قصور خطير في تقدير الامور , ولا تتناسب مع دولة قادت العالم العربي عشرات السنين بكفاءة شهد بها العدو قبل الصديق , وقادت حركات التحرر , وصارعت أعظم القوى الدولية دفاعا عن المنطقة , وشاركت في قيادة العالم كله , وكان زعماء العالم الكبار يتوددون لها لكسب تأييدها. حين كان في مصر رجال كبار واكفاء قادت تحرر العالم العربي والشرق الاوسط وافريقيا والعالم الثالث , وشاركت بدور مشهود في تحرير الجزائر وعدن واليمن والخليج وليبيا والصومال , ودافعت عن سورية والعراق في مواجهة ايران وتركيا , وافشلت الاحلاف الامريكية , وقامت بدور تاريخي لتحقيق الوحدة العربية , وظل الصراع مع اسرائيل منهجا ثابتا في كل محاور سياستها الداخلية والخارجية .
والسؤال المحير أين ذهب ارث مصر وخبراتها في هذه المجالات ..؟ لا اتحدث عن الاتجاه السياسي لأهل الحكم , ولكني اشير الى خبرات الدولة وتقاليدها التي تتراكم وتنتقل من جيل الى جيل في أجهزة الادارة التي تحرك عجلات الدولة وتقدم المادة الاولية لصنع القرار الى المستوى السياسي .
منذ عصر رمسيس الثاني ادركت الدولة المصرية ارتباط أمنها بأمن سورية فامتدت حدودها الى شمال سورية , والجزيرة العربية , ومنابع النيل .
ومن قبل الاسلام تكرست علاقات الثلاثي الجيوبوليتيكي مصر وجزيرة العرب والشام بمعاهدات أمنية واقتصادية باركها القرآن في سورة ( الايلاف ) .
ومنذ الغزو الصليبي أدرك صلاح الدين أن وحدة مصر وسورية هو مقدمة دحر الغزاة .
وفي القرن 19 وجه محمد علي جيوش مصر الى جزيرة العرب والشام ومنابع النيل تأكيدا لوعيه بأبعاد ومرتكزات الأمن المصري .
وعندما تعرضت سورية لتهديد حلف الاطلسي عبر تركيا عام 1958 سارع عبد الناصر لارسال قواته لحمايتها . وهو الذي تصدى لأطماع ايران في العراق والخليج .
وبالطبع لم يكن عبد الناصر ومحمد علي وابناؤه وصلاح الدين وقطز , ورمسيس الثاني رجالا قادمين من الفضاء , بل كانوا قادة اكفاء بالمستوى المتوسط الذي يجب أن يكون عليه أي رجل حكم يصلح لادارة بلد بموقع مصر .
أما ما ما نراه اليوم من حكام مصر فيدفعنا للقول بلا خلفية اديولوجية إنما يدل على عدم كفاءة خطير , وعدم دراية بما يجري حولهم من زلازل , في ليبيا وسوريا والعراق ولبنان وفلسطين والخليج والسعودية واليمن والبحر الاحمر وفي اثيوبيا والصومال . وعندما يكون الجهل شاملا بهذا المستوى تكون النتيجة أن من يقودون مصر لا يصلحون لهذه المهمة , ويعرضون مصالحها الاستراتيجية وامنها لأفدح العواقب .
هل يعقل أن يجهل حكام مصر حقيقة ما يجري في سورية , وطبيعة نظامها وولاءاته الخارجية ..؟ وتركيبة ( الجيش العربي السوري ) الذي ورطهم في كارثة 1967 ..؟
هل يعقل أن لا يعرفوا حكام العراق الحاليين توجهاتهم وولاءاتهم وارتباطاتهم ..؟
هل يعقل ألا يعرفوا ما تقترفه ايران في المنطقة بشعوبها ودولها العربية ..؟؟
هل يعقل أن تتجاهل القاهرة الجرائم الروسية في سورية , وتقف في خندق واحد مع روسيا وايران واسرائيل ضد الشعوب العربية ..؟؟
إن أي مفكر أو محلل متوسط الوعي والخبرة يعي أن ايران تريد اغتصاب دور مصر الاقليمي لتهيمن على المنطقة, فكيف يغيب هذا الخطر المصيري عن رجال مصر , فيسارعوا الى استقبال عدوهم الايراني في منتصف الطريق ويتحالفوا معه ومع أدواته في العراق وسورية , ويسلموا له مفاتيح بلادهم ..؟؟
هذه المواقف والتوجهات يصعب اعتبارها أخطاء أو خيارات قابلة للتبرير, وينبغي القول لرجالها من منطلق الحرص على مصر بأنها تعكس أزمة عميقة جدا في بنية الدولة والنظام والمؤسسات الامنية والقومية ووعي النخب الفكرية , وربما تبلغ صميم الوعي المصري .
إن أعقد اشكالية تواجهنا كعرب في علاقاتنا بمصر هي ادراكنا باستحالة تجاهل دور مصر أو الاستغناء عنه وايماننا المطلق بأنه لا بديل عن مصر سوى مصر . كما نعتقد أن المصريين يواجهون نفس الاشكالية , إذ يستحيل عليهم تجاهل انتمائهم العربي ودورهم ومسؤولياتهم تجاهه , فهي البلد العربي الوحيد الذي يحيطه العرب من كل حدوده .. فهل ثمة امكانية للهرب من أقدار الجغرافيا ..؟؟!
————————————————————————————–
هذا المقال منشور في مجلة الشراع اللبنانية , العدد 345 الصادر في 21 / 10 / 2016 .