يستحضر المراقبون عموماً والسوريون منهم خصوصاً في هذه الأيام، قول المثقف العباسي ابن المعتز، والخليفة ليوم وليلة وحسب، مات غيلةً بعدهما، في أكثر أيام العباسيين اضطراباً: «النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله».
ويحدث ذلك حالياً مع حكاية رامي مخلوف، مع ابن خاله بشار الأسد، وهو- كأنه- يدعو الناس إلى التأمين على دعائه في ختام الفيديو الأخير الذي نشره على الإنترنت، بلغة مكسّرة: «أريهم فـعلك يـا الله فـقـد حان مـوعد ظهـوره ولـك الأمـر.. فـقـد قـلـت إن لله رجـالاً إذا أرادوا أراد.. فبعـزتـك وجـلالتـك سـيـذهـلون من فـعـلـك!».. الأمر الذي يولّد الإحساس بأن بشار الأسد وزوجته سوف يردان على تهديده، بموقف يزلزل أركانه وينهي مسألته، خصوصاً بعد أن وضع عنواناً فيه شيء من الحكم والتهديد- أيضاً- على شريطه المسجل، من الآية الكريمة» إن الظالمين بعضهم أولياء بعض»، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث بعد.
وعند صدور قرار تجميد أسهمه في اثني عشر مصرفاً من بين الأربعة عشر الموجودة في سوريا، استغربوا أيضاً بقاء المصرفين الباقيين خارج مساهمته: بنك بيمو اللبناني- السعودي الفرنسي، وبنك البركة؛ مع أنه طالما قيل في السابق إن له أسهماً في البنك الأول، الذي تملك أكبر حصة فيه أساساً شركة المملكة القابضة الغنية عن التعريف، وأسهماً في الثاني الذي تملك حصة مهمة من أسهمه مجموعة» دلة البركة» لصاحبها المتَوفّى مؤخراً صالح كامل.
«التايكون» مفهوم مستورد يعبّر عن شخص يمسك بخيوط الثروة والقوة بشكل كاسح، ولا نحتاج نحن السوريين لأي براهين على أن رامي مخلوف كان «التايكون» المطلق للبلاد، منذ وراثة بشار الأسد كرسي الحكم، بعد وفاة أبيه في يونيو/حزيران 2000، الأمر الذي جاء بعدها مباشرة وبأشهر معدودات بقانون المصارف الخاصة رقم 28 بتاريخ 16 إبريل/نيسان 2001، الذي كان جزءاً تأسيسياً من الأجواء الليبرالية الجديدة، التي أراد تحويل الاقتصاد نحوها تحت غطاء نوايا الإصلاح المزعومة، وبتشجيع ورضا غربي آنذاك، يرى في فتح الاقتصاد فتحاً للبلاد. كان التحوّل الوراثي شاملاً على الناحيتين السياسية والاقتصادية: بشار ورامي بعد حافظ ومحمد، والديهما، بأسلوبين جديدين قياساً إلى ما كان في عهد الأبوين كذلك، بزواج الأول من أسماء الأخرس السورية- البريطانية- السنية؛ وباستحواذ الثاني على محور احتكار الاتصالات والهاتف الجوّال، مصدر الثروة الحديث.
لم يكن الأسد يعاني من أي ضائقة في السابق، وبين يديه الدولة ومواردها، ولكنه ابتدأ منذ تولّدت لديه الشكوك في مستقبله، وفي استعادة البلاد كما كانت، وحين شحّت موارده وجفّت؛ بتسريب المفاصل الاقتصادية الناشئة على نسق أمراء الحرب خارج هيمنة مخلوف، إلى شريحة جديدة وفّرتها الحالة التي وصلت إليها ثورة 2011، خلال عامين من بدايتها.. تلك الشريحة ذاتها التي سمّاها الأخير في واحد من تسجيلاته أثرياء الحرب. وظنّ أنه قادر على تجاهل الإشارة إلى وجوب الالتزام بتسليم عهدته عند اللزوم من دون تلكؤ، وعلى إبقاء ما تحت يديه من «ثروة العائلة» بعيداً عن «عرّابها» وهو يهتزّ ويترنّح مع مفاعيل المتغيّرات التي لا تهدأ.
أصبحت الحقوق والحدود كلها مهزوزة غائمة، مزدحمة بالأسئلة: ما الذي يملكه رامي وعائلته؟ وهل هي في الحقيقة ملكية أيضاً لبشار؟ وهل يمكنه استردادها؟ البحث عن جواب لتلك الأسئلة، استدعى الخلاف أو الحرب بين تايكون الاقتصاد الآفل، وتايكون السلطة الذي يلوح الأفول أمام عينيه أيضاً. وطريق الحرب تلك محفوف بالمخاطر، ولكنها لا تقبل المساومة أو التنازل، بعد أن بلغت ما بلغت. أحدهما من دون السلطة يفقد أنيابه، ولا يبقى له إلا اجترار المليارات التي قام بتهريبها بعيداً، وقد تبقى بعيداً وحدها من دونه، والتي يريد الاستحواذ عليها ابن عمته وزوجته؛ والثاني من دون موارد يندفع إلى الزاوية محاصراً أكثر فأكثر، ويغدو من دون قدرة على شراء الولاء في الداخل والصداقات في الخارج، أو قدرة على تلبية مطالبات هؤلاء الأصدقاء اللجوجة.
ليس هذا سهلاً. فقد كان رامي يوزّع المساعدات على آلاف من عائلات جرحى الحرب مثلاً، ويعطي القروض الصغيرة للأعمال، ويوظف عدة آلاف من المقاتلين في الميليشيا التي شكلّها، وهذا كله جدير بأن يقلب الكثيرين من الطائفة التي يدّعي بشار حمايتها لتحميه، أكثر مما فعلت ذلك سياسات حلفائه الروس، المتمركزين أيضاً في قلب ديار الأهل. وبستان الباشا قرية آل مخلوف أقرب إلى مطار حميميم، حيث قاعدة الروس الأكثر أهمية مما هي بلدة القرداحة، موطن آل الأسد ومسقط رأسهم. وبالأحرى كلاهما قريب وتحت مرمى النار عند الضرورة، أو ربما مرمى الكرة. لا يمكن الجزم هنا بطبيعة العلاقة بين معركة بشار- أو زوجته كما يُفَضِّل أن يوحي للناس – مع رامي، وتلك الحملة الروسية الإعلامية على النظام أيضاً. ويوحي تخفيف تلك النيران مؤخراً وكأنه إتاحة فرصة لبشار وزوجته لإكمال مهمتهما مع ذوي القربى، من دون تشويش كبير، شكلاً على الأقل.. وربما أيضاً لأن الحكومة الروسية، قلقت من احتمال تسارع انهيار النظام قبل أوانه باتّحاد المفعولين الداخلي والخارجي معاً. وربما أيضاً لحسابات في حقل التنافس مع الإيرانيين، وما تقتضي وتتطلب. يقابل ذلك من الناحية الأخرى احتمال أن تكون الحملة الروسية ظرفاً اغتنمه رامي للتمرّد لتصعيد ردّه إلى مستوى غير مسبوق وغير معتاد نهائياً في هذا النظام وتركيبته.
هنا تجدر الإشارة إلى أن طباخ المطعم السوري في موسكو هو فيتالي نعومكين- رئيس معهد الاستشراق، التابع لأكاديمية العلوم الروسية – وليس بريغوجين، «طباخ بوتين»، أو إن نعومكين هو طباخ المراحل والسياسات السابقة، التي يحتمل أو لا يحتمل أن تكون جاهزة للتغيير قليلاً في هذه الأيام. نعومكين رافق كل مراحل الشغل الروسي على العملية السياسية السورية، وطبع الكثير من تفاصيلها بطابعه، مسيئاً على الأغلب لما نذكره من بعض الجوانب الإيجابية، لتاريخ الاستشراق الروسي. وقال نعومكين منذ الخامس من مارس/آذار الماضي، قبل بداية الحملة الواسعة، التي أقلع بها جهاز بريغوجين الإعلامي في البداية وقبل انضمام أطرافٍ متعددة إليها، في مقالة مهمة، إن هنالك سيناريوهات ثلاثة للمسألة، أولها أن يتابع أردوغان تنفيذ تهديداته باستهداف قوات النظام، بعد أن طلب من روسيا الابتعاد جانباً، وستكون حرباً لن تنجح بها تركيا وقتذاك. وثانيها أن تفسح تركيا المجال للنظام وروسيا لاستكمال استرداد إدلب، مع ضمانات لها من الجانب الكردي، وثالثها شيءٌ يجمع بين الاحتمالين، ويميل إلى جانب الثاني بينهما. ذلك عموماً هو متابعة واستمرار بالسياسة القديمة، وباعتبارها استراتيجية راسخة، وليست مجرد مرحلة ضغوط سابقة للتسوية عندما تصبح الولايات المتحدة جاهزة لها. عاد نعومكين مؤخراً وأدلى بدلوه، بعد أن شجعته بعض مؤشرات تكبح الضغوط على الأسد وتهدئ منها قليلاً، شكلاً على الأقل. وأكد على كلّ مقومات ومحددات السياسة الروسية القديمة، وكأن العالم نفسه سيبقى على ما هو عليه في الأشهر المقبلة.
في حين أن ما انكسر قد انكسر، وما ينبغي قوله قيل وخرج للعلن المكشوف، ولا يمكن ابتلاعه والتظاهر بأنه لم يكن. قيل إن بشار فاسد حتى العظم، وغير مؤهل سياسياً على الإطلاق، خصوصاً للخروج من عنق الزجاجة، كما أنه فقد شعبيته إلى حدٍ كبير، وأن نظامه قائم على عصابات وقطاع طرق، وأشياء كثيرة من هذا القبيل. العالم يتغيّر الآن بسبب فيروس كورونا، ولا يمكن التنبؤ بما ستغدو عليه معالم وجهه الحقيقية كلها في ما بعد. ولكن، بعد ثورة اللبنانيين وما آلت إليه من إغلاق لقصبات رئة الفساد المالية على دمشق، والثورة العراقية وابتداء انغلاق طريق إيران- دمشق وبيروت بالتدريج، وحلول موسم قانون قيصر الخانق قريباً جداً، وأجواء كورونا الملبّدة العاصفة، ثمّ إعادة النظر الروسية بسياساتها السورية، فانفجار دمامل الفساد المحتقن بين العائلتين المتحالفتين في النظام.. كلّ ذلك يوحي بأن التغيير- أو تغييراً- مقبل، واقترب إلى الأفق المنظور أو المتوسط، بعد أن كان حتى الآن بين المتوسط والبعيد.
مرة أخرى، للسوريين عموماً أن ينفضوا عن همتهم التراب والقرف والاستكانة، ويحاولوا التقاط ما يمكن أن يسنح لهم من نقاط القوة وأجهزة الصوت، إذا نظروا في تنظيم قواهم ومراجعة استراتيجياتهم وتجميع طاقاتهم.. أما نيران النظام الاستبدادي وقد شاخ وأصبح في أرذل العمر، فلعلها تأكل بعضها، بعد أن لم تجد ما تأكله.. ولعل ذلك يسهم بإطفاء النيران التي تأكل قمح وأشجار سوريا حالياً، وتلك التي تضطرم في قلوب أهلها.
المصدر: القدس العربي