الصهيونية الدينية والحرب في غزّة

أحمد الجندي

تعود نشأة الصهيونية الدينية، التي تعرف أيضاً بالتيار الديني القومي، إلى بدايات القرن العشرين، حين ظهرت الحركة ردّاً على علمانية الحركة الصهيونية التي أسسها تيودور هرتزل، ثمّ اقتحمت الحياة السياسية بعد تأسيس الكيان الصهيوني ممثّلةً في الحزب الديني القومي وحركة غوش إيمونيم، وتفرّعت منها في العقد الماضي أحزاب مختلفةَ أهمها حزبا الصهيونية الدينية وعوتسماه يهوديت اللذان يتزعّمهما بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير المنتميان إلى التيّار الأكثر تطرّفاً في إسرائيل. ولطالما كانت النظرة الإسرائيلية إلى أبناء هذا التيّار أنهم متطرّفين، غير أن الصعود السياسي المتدرج والشعبية المتزايدة للحزبَين المذكورَين، انتهاء بنتائج الانتخابات الماضية ودخولهما الحكومة ولعب الدور الأكثر تأثيراً فيها، جعل تهمة التطرّف التي كانت رائجةً ضدّهما في الإعلام الإسرائيلي، وبين السياسيين، شيئاً من الماضي.

ويمكن القول إن أحد الأسباب التي أسهمت في تخلّص الصهيونية الدينية، بأحزابها المختلفة، من تهمة الإرهاب، كان الحرص على لعب دور رئيس في تشكيلات الأسلحة المهمّة في الجيش وفي المعارك، وهو أمر قد يتخطّى المشاركة إلى الرغبة في السيطرة المتدرجة على الجيش نفسه. وهناك مؤشّرات واضحة على هذا التوجّه، منها أن الباحث في شؤون العلاقة بين الجيش والمجتمع في إسرائيل يغيل ليفي، في لقاء معه (مجلة قضايا إسرائيلية 2016)، اعتبر في حينه أن تغلغل أنصار الصهيونية الدينية في الجيش لم يكن عفوياً، وإنما ينطوي على أجندة أيديولوجية، وهي الاستعداد لمواجهة قرار محتمل بإخلاء مستوطنات الضفة الغربية من المستوطنين ضمن أيّ عملية سلام مع الفلسطينيين، ومن ثمّ سعت إلى السيطرة على الجيش لعرقلة مثل هذا الاحتمال، ولذلك كان طبيعياً أن يحظر مفكّرو هذا الاتجاه وحاخاماته الانفصال عن مؤسّسات الدولة، بل حثّوا مريديهم وأتباعهم على التغلغل في الجيش و”الشاباك” والأجهزة القضائية.

تصاعد تمثيل التيّار الديني القومي في وحدات الجيش الإسرائيلي القتالية، ومعه نسبة الضباط في قوات النُخبة

ثمّة شواهد كثيرة تعزّز ما ذهب إليه ليفي، منها التصاعد الملحوظ في تمثيل التيّار الديني القومي في الوحدات القتالية، وزيادة نسبة الضباط في وحدات مثل جفعاتي وجولاني وشلداغ وماجلان، وهي وحدات نُخب قتالية، يضاف إلى ذلك أن نسبة التجنيد في أوساط هذا التيّار مرتفعةً مقارنةً بغيرهم من التيّارات الأخرى. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد برزت قيادات كثيرة تنتمي إلى الصهيونية الدينية؛ مثل عوفير فينتر، قائد وحدة جفعاتي خلال العدوان على غزّة 2014، وإليعازر توليدانو، قائد المنطقة الجنوبية، وعمل سكرتيراً عسكرياً لبنيامين نتنياهو، ورُشِّح لتولي رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية “أمان”. وآفي إيتام، وهو أول من عُيّن لواءً من هذا التيّار، وديفيد زيني، المُعيَّن أخيراً رئيساً لجهاز الأمن الداخلي (الشاباك).

ومن الشواهد المهمة أيضاً أن مقارنة أعداد قتلى الجيش ومصابيه من المنتمين إلى الصهيونية الدينية في حروب سابقة بالحرب الحالية تكشف تغلغلاً لم يحدث منذ تأسس الكيان الصهيوني. ففي حرب لبنان الثانية (يوليو/ تموز 2006)، وصلت نسبة قتلى ومصابي هذا التيّار إلى 13% فقط من إجمالي قتلى الجيش ومصابيه، بينما شهدت الحرب الحالية ارتفاعاً كبيراً في هذه النسبة، فسجّلت بيانات القتلى في الأشهر الأولى من الحرب (ديسمبر/ كانون الأول 2023) سقوطَ 167 قتيلاً، بينهم 66 من خريجي المعاهد الدينية الخاصّة بالصهيونية الدينية (أي ما نسبته 40%)، حسب موقع القناة السابعة الإسرائيلية، وهي نسبة كانت ترتفع كلما استطال أمد الحرب حتى وصلت في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، حسب الصحافي الإسرائيلي عميت سيغال في مقال له في موقع القناة 12، إلى ما يقدّر بـ60% من قتلى الجيش الصهيوني ومصابيه، أو ربّما 65% حسب مصادر إسرائيلية أخرى. ثم عاد موقع القناة 7 في الشهر نفسه، وعلى لسان أحد الحاخامات العسكريين المنتمين إلى الصهيونية الدينية، إليعازر شنفيلد، ليؤكّد أن نسبة القتلى والمصابين من الصهيونية الدينية في الحرب تعكس دورهم الكبير فيها، رغم أن هذه النسبة أكبر بكثير ممّا يمثّلونه من إجمالي سكّان إسرائيل. ويأخذ المحتفون بهذه “التضحيات” على قوى اليسار، وبعض قوى اليمين، عدم الإقرار بالفضل، بل والإصرار على احتقار الصهيونية الدينية ومهاجمتها رغم ما تقدّمه، وكأنها (حسب تعبير الصحافي عميت سيغال) تحوّلت كيس ملاكمة في دفاعها عن الدولة، رغم أن المطلوب فقط أن يتوقّف الآخرون الأقلّ بذلاً للتضحيات عن تشويه سمعة هذا التيّار، وعن الانتقاص من دوره.

حلم “أرض إسرائيل” بحدودها التوراتية أيديولوجيا يعبّر عنها شعار “لا انتصار من دون نكبة

وتحمل الأرقام السابقة أكثر من دلالة، أهمها التغلغل الكبير لهذا التيّار في المؤسّسات العسكرية. وبالتالي، ليس غريباً أن يعيّن بنيامين نتنياهو اللواء احتياط ديفيد زيني، المنتمي إلى الصهيونية الدينية، رئيساً للشاباك، فهي خطوة ربّما يكافئ بها حلفاءه في الحكومة، بقدر ما يحقّق بها لنفسه السيطرة السياسية على مؤسّسات الدولة، وتنفيذ سياسته في كلّ ما يتعلّق بالحرب والمفاوضات مع المقاومة، فضلاً عن عرقلة أيّ تحقيقات مستقبلية حول مسؤوليته في إخفاقات الفترة الماضية. ولا شكّ أن هذا التغلغل لم يكن ليحدث لولا زيادة أعداد الملتحقين بالمعاهد والمدارس التي تروّج الفكر الديني القومي، علاوةً على استعداد أتباعه للقتال من أجل الأهداف الدينية المسيانية/ الأخروية التي يتعلّمونها من حاخاماتهم.

ثمّة دلالة أخرى لارتفاع نسبة قتلى الصهيونية الدينية، إذ تتناسب زيادة قتلى أتباعها ومصابيها في الحرب الدائرة مع رفض قادتها، وفي مقدّمتهم بن غفير وسموتريتش، وقف الحرب، والإصرار على مواصلتها حتى النهاية. نهاية يتمنّى هؤلاء أن تقود إلى التخلّص من المقاومة، واحتلال غزّة، وطرد أهلها إلى خارج حدود فلسطين، بل ربّما، وبحسب أيديولوجيتهم المُعلَنة، تحقيق حلم “أرض إسرائيل الكاملة” بحدودها التوراتية في عصر داود الملك، لتضمّ الأردن وأجزاء من لبنان وسورية. وهي ليست مجرّد خيالات في الورق، بل أيديولوجيا يعبّر عنها قادة هذا التيّار بتصريحات متكرّرة، وشعارات مرفوعة، عنوانها “لا انتصار من دون نكبة”، وأعمال إبادة لا تنتهي.

 يزداد الإسرائيليون إدراكاً أن كلّ طرف من طرفَي الحكومة الأساسَين (“ليكود”، وتيّار الصهيونية القومية بمكوّنيه، حزبَي عوتسماه يهوديت” والصهيونية الدينية) يستخدم الآخر لمصلحته

وخلال الفترة الماضية، يزداد الإسرائيليون إدراكاً أن كلّ طرف من طرفَي الحكومة الأساسَين (“ليكود”، وتيّار الصهيونية القومية بمكوّنيه، حزبَي عوتسماه يهوديت” والصهيونية الدينية) يستخدم الآخر لمصلحته، غير أن المحصلة النهائية هي أن القرار الإسرائيلي (وللمرّة الأولى في تاريخ الكيان) يبدو أسيراً للتيّار الديني القومي. والحقيقة أنه لا يمكن فهم الحكمة من حرص الحكومة الإسرائيلية على “أبدية” الحرب الحالية بمعزل عن البعد الأيديولوجي والاعتقادي للصهيونية الدينية، ورؤيتها للخلاص المسياني/ الأخروي. وترفض الأستاذة في جامعة بن غوريون سيرينا حين، وهي مؤلفة كتاب “التعجيل بالتأسيس… نظرة في علاقة الجمهور الديني القومي بالمسجد الأقصى (جبل الهيكل)”، ما يذهب إليه كثيرون في إسرائيل من اعتبار الحرب الحالية في غزّة عبثيةً بلا هدف، وترى أن لهذه الحرب هدفاً حقيقياً واضحاً لدى أبناء هذا التيّار، وهو تأسيس الهيكل الثالث استناداً إلى كتابات معلّمهم الحاخام الأكثر تطرّفاً مائير كاهانا. ولذلك، فإن قيادتهم السياسية، المتمثّلة في بن غفير وسموتريتش، تصرّ على مبدأ “أبدية الحرب”. وطبقاً لمقال نشرته الكاتبة في منتدى التفكير الإقليمي الإسرائيلي، فإن الصور التي كانت تنشر للعديد من الجنود الإسرائيليين في غزّة، كانت تكشف الرابط القوي لديهم بين هذه الحرب وبناء الهيكل الثالث، وهو رابط لم تكن معركة طوفان الأقصى، أو تسعة عشر شهراً من الحرب، سبباً في نشأته، بل يعود إلى عقود قبلها؛ حين كانت حركة كاخ، بقادتها وجمهورها، تطرح رؤيتها لتحقيق ذلك الحلم المسياني الذي يبدأ بطرد فلسطينيي الداخل، والفلسطينيين في الضفة وغزّة، حتى بناء الهيكل في مكان المسجد الأقصى.

ولا يولي فكر الصهيونية القومية اهتماماً يذكر بأن يؤدّي طرد العرب من فلسطين إلى تشويه صورة إسرائيل، أو أن تتسبّب جرائم الحرب التي يرتكبها الجيش في زيادة موجة العداء ضدّها في جميع أنحاء العالم، وتعريض حياة اليهود للخطر. بل إنه على العكس، يرى أن هذه الموجة من العداء هي هدف مقصود في حدّ ذاته، لأن زيادة مستوى ما يسمى “العداء للسامية” تؤدّي إلى هجرة يهودية جماعية إلى “إسرائيل”، وتقضي على المشكلة الديمغرافية، وتفضي في النهاية إلى بناء الهيكل المنشود.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى